كثيراً ما يحفل التاريخ ويتغنى بأسماء علماء الغرب وإنجازاتهم العظيمة في شتى العلوم والمعارف، حتى لا يكاد يوجد أحد إلا وقد عرف بسيرة حياتهم ورسخ في ذاكرته بأن هذا الاسم هو لعالم فذ عظيم قد أنار بعلمه عصوراً من الظلام، وبنى بفكره بنياناً من العلم. وفي الوقت ذاته، يتجاهل الناس بأن الحضارة الإسلامية كانت في أوج مجدها وازدهارها في وقت كانت أوروبا تغط في سبات عميق من التخلف والبربرية، وينسى الأغلب أن العلماء المسلمين هم الذين وضعوا حجر الأساس لكثير من الاكتشافات الجليلة التي ينسب فضلها إلى علماء الغرب.
ومن الظواهر الحقيقية التي لا يمكن التغاضي عنها أيضاً، أن مراجع التراث العربي والإسلامي، حتى وإن تناولت بذكر الكثير من مساهمات العلماء المسلمين وإحرازاتهم في مختلف المجالات؛ فإنها قد نسيت أو تناست غير قليل من أسماء مؤنثة قدمت إسهامات نيرة غيرت مجرى الحضارة البشرية. وتحتل العالمة المسلمة مريم بنت كوشيار الجيلي مكانة مرموقة من بين قائمة تلك الأسماء التي كافأها التاريخ بالنسيان. فهي المرأة التي اكتشفت آلة الأسطرلاب المعقد التي من حقها أن تعد بمثابة النواة الأولى التي مهدت الطريق إلى اكتشاف حديث يعرف الآن بنظام التموضع العالمي (GPS).
تؤكد لنا المعلومات الموجودة بأن السيدة مريم عاشت في العصر العباسي (في القرن العاشر الميلادي تحديداً) في فترة حكم سيف الدولة الحمداني. نشأت وترعرعت في بيت والدها كوشيار الجيلي. وقد كانت خير خلف لخير سلف، حيث كان والدها عالماً نابغاً في علوم الفلك والرياضيات والجغرافية، خدم التراث العلمي بأعماله التصنيفية، مثل: (رسالات دلالات الكواكب) و(الزيج الجامع والبالغ) و(المجمل في صناعة النجوم) و(الأسطرلاب وكيفية عمله واعتباره على الكمال والتمام).. وغيرها من المؤلفات القيمة. وقد كان للجو العلمي الذي نمت مريم في كنفه الفضل الأول فى في تشكيل عالمة شغوفة نحو العلوم الفلكية والرياضيات والهندسة.
وكانت آلة الأسطرلاب التي قامت بتطويرها آلة دقيقة، تصوّر عليها حركة النجوم في السماء حول القطب السماوي. وتستخدم هذه الآلة لحل مشكلات فلكية عديدة، كما تستخدم في الملاحة وفي مجالات المساحة. وتستخدم -إضافة إلى ذلك- في تحديد الوقت بدقة ليلاً ونهاراً. وتجدر الإشارة إلى أن المسلمين أولوا اهتماماً كبيراً بها، واستخدموها في تحديد مواقيت الصلاة، كما استخدموها في تحديد مواعيد فصول السنة. هكذا كانت هذه الآلة متعددة المهام والوظائف، إذ تمس مناحي حياة البشرية إلى أمد طويل حتى أصبحت الجهاز الأم لنظام التموضع العالمي السائد في العصر المعاصر.
المولد والنشأة
لم تحدد لنا المصادر تاريخ ولادتها ووفاتها، إلا أن جميع المعلومات الموجودة تؤكد أنها عاشت في القرن العاشر الميلادي بمدينة حلب، شمال سوريا أثناء ما يعرف بالعصر الذهبي للعلوم الإسلامية.
نشأت مريم كوشيار الجيلي وترعرعت في بيت والدها كوشيار الجيلي، أو الكيلاني والذي يعد واحداً من علماء الفلك المهمين في عصره. وقد كان بيت والدها تملأ جوانبه آلات الرياضيات ومراصد الفلك وجداول الحساب ومقاييس الهندسة. ولا شك أن هذا الجو العلمي الذي يكتنفها من جميع جوانبها قد أثر بشكل كبير في تكوين شخصيتها العلمية. وقد كانت تتردد على مختبر والدها من حين إلى آخر، ما جعل ثقافتها العلمية تنمو شيئاً فشيئاً حتى أصبحت الوارثة الحقيقية لعلوم والدها في البحث الفلكي والحساب الفيزيائي.
انفتحت مريم الأسطرلابية على التقنيات العلمية التي وصلت إليها العلوم والهندسة في تلك الأيام، واستطاعت مريم بمرور الأيام أن تتعمق في علوم الفلك والفضاء إلى درجة الإتقان. وسنحت لها الفرصة للتدرب على يد والدها لصناعة الأسطرلاب، قبل تلمذتها على يد الفلكي الشهير محمد بن عبدالله ناستولوس الذي صنع أقدم أسطرلاب باقٍ إلى الآن. ولم تقف مريم الأسطرلابية عند حدود ما تلقت من هذين الشخصين الفلكيين بل مضت هذه العالمة لأبعد من ذلك لكي تسير في إمكانيات الأسطرلاب جميعها، ثم قدمت إلى الساحة العلمية الأسطرلاب المعقد أو الأسطرلاب المطور الذي أحدث ثورة في تاريخ التقدم البشري في مجال الفضاء.
ونظراً لنبوغها في العلوم الفلكية والرياضيات اختارها أمير حلب سيف الدولة الحمداني للعمل في مجال الفلك. فعملت في بلاطه عالمة الفلك والرياضيات في الفترة من عام 333 حتى 356 هجرية الموافق 944 حتى 967 ميلادية، بجوار عدد من كبار العلماء في كافة العلوم والمعارف المشهورة في هذا الوقت.
الإنجازات
نبغت مريم الأسطرلابية في دقائق علوم الفلك والحساب والرياضيات، واستطاعت أن تشرح العديد من الجداول الرياضية التي كانت معقدة إلى أيامها، كما تمكنت أن تعد قوانين علمية لحركة الكواكب والأجرام السماوية، ومن هذه الجداول الحسابية والآلات الفلكية استطاع الناس في زمانها أن يتعرفوا على مواقيت الصلاة وبداية الشهور والمناسبات الدينية.
ولم تقتصر اختراعات مريم الأسطرلابية على هذه الآلة التي تستخدم لرصد حركات الأجرام السماوية أو التوقيت فحسب، بل إنها تركت بصمتها في العلوم الإنسانية بشكل عام، وهي شخصية عبقرية تستحق الوقوف عند جميع اختراعاتها، وذلك لكونها رائدة في هذه الاختراعات. ولم تكتفِ مريم الأسطرلابية برسم صورة للقبة السماوية على سطح الأسطرلاب، بل تخطت إلى إمكاناتها المتعددة، حين حاولت أن ترسم خريطة العالم على وجه الأسطرلاب، ورسمت على سطحه الخطوط الأرضية من خطوط الطول والعرض وخط الاستواء. والناس في زمانها قد استخدموا هذه الآلة الفلكية المطورة لتحديد القبلة بشكل أكثر دقة. كما أنهم استخدموها في الملاحة البحرية وغيرها من الخدمات الجليلة.
ريادة مريم الأسطرلابية في نظام التموضع العالمي (GPS)
وقد كان الناس آنذاك يحتفظون بحوزتهم أنواعاً مختلفة لآلة الأسطرلاب، حيث كانوا يستخدمون كلاً منها فيما يخصهم من مهام ووظائف. ويعد من تلك الأنواع السائدة الأسطرلاب الكروي أو الكرّي (Spherical Astrolabe)، وكذا الأسطرلاب المسطح (Planispherical Astrolabe) الذي كان العرب يسمونه بذات الصفائح، وهذا النوع الثاني هو أشهر أنواع الأسطرلاب، ثم الأسطرلاب الخطي (The Liner Astrolabe) وهو من ابتكار العالم الفلكي شرف الدين الطوسي. (وهذا النوع الأخير يعرف أيضاً بعصا الطوسي).
أضافت مريم إلى أنواع الأسطرلاب نوعاً جديداً يسمى بالأسطرلاب المعقد، وقامت بتطوير تلك الآلة الفلكية على مراحل عديدة، وانتشرت في البلدان والأقطار لاستخداماتها المتباينة. وكانت الآلة هذه نموذجاً ثنائي الأبعاد لشكل القبة السماوية، يعمل على وصف شكل السماء في وقت معين ومكان معين حسب تحديد المستخدم، وقد قامت برسم شكل السماء عليه بمختلف الأجرام السماوية وأماكنها بالتحديد، ليتمكن المستخدم من التعرف على شكل السماء وطبيعة الساعات وغيرها.
والناس في زمانها قد استخدموا هذه الآلة الفلكية المطورة لتحديد القبلة بشكل أكثر دقة. كما أنهم استخدموها في الملاحة البحرية وغيرها من الخدمات العظيمة. وقد تكفلت الأسطرلاب المعقدة في هذه الأيام المعاصرة آلية عمل البوصلة والأقمار الصناعية ونظام التموضع العالمي (Global Positioning System)
قالوا عن مريم واكتشاف آلة الأسطرلاب
وقد أثنى المؤرخون والمهتمون بعلوم الفلك والرياضيات على هذه الشخصية المثقفة وأهمية اختراعها لهذه الآلة الفلكية. وقد جاء في كتاب تاريخ أوروبا في العصور الوسطى لـ(إيناس محمد البهيجي): (كانت مريم الأسطرلابي أول من اخترع الأسطرلاب في الفلك).
ويؤكد كتاب تاريخ الأفكار (دوائر الفكر الأولى) لماجد الحمدان بأن (هذا الجهاز يشبه أجهزة الخرائط الحديثة، كما أنه جهاز ألهم البشرية لاكتشاف الأرض ومعرفة مواقع النجوم والمجموعة الشمسية والطيران والاهتداء في السفر). ويشير كتاب تاريخ الأفكار إلى (أن صناعة الأسطرلاب كانت من أهم الصناعات العربية القديمة).