مَن يتابع بدقة الأفلام سواء الوثائقية أو الدرامية والمسلسلات والعروض المسرحية لمدة زمنية طويلة يراها تُكثف حضور فكرة المأساة أو الحزن أو الحادثة في الخط الدرامي لها، وكثير من المشاهدين حسب إحصائيات المواقع الدرامية يُقبل على أفلام الجريمة والعنف والتحقيقات والأعاصير والحوادث بأشكالها، أكثر من الأفلام الرومانسية، ويرى أنها تشوقه إلى متابعة العمل الدرامي، مع أن العمل الرومانسي له صراعه الضمني أيضاً.
من هنا يَذكر الكاتب العراقي (طاهر علوان) في صحيفة العرب اللندنية أنّ أفلام الغموض والتحرّي تحتلان جاذبية واضحة في مواقع المشاهدة، وتجذبان جمهوراً عريضاً شغوفاً بأفلام حبس الأنفاس حسب قوله.
ارتباط حفظ النوع بدراما المأساة
والواقع أن خلف كل ذلك حقيقة في علم النفس تفيد أن الإنسان يحفظ المواقف المؤلمة في ذاكرته أكثر مما يحفظ المواقف الجميلة أو السعيدة، كي تتكون عنده خبرات تُمكنه من تجاوز ما يُشبهها في الصعوبات مستقبلاً، حيث إن هذه الخبرات تمكنه من الحفاظ على نوعه البشري.
إنّ الدراما من أكثر الأنواع الفنية مناقشة لمآسي الإنسان حسب ما ذكره الناقد والباحث الدكتور (عز الدين إسماعيل) في دراساته النفسية، وقد سلط الضوء بتكثيف عالٍ على فن المسرح خاصة، حيث يرى أن مسرح (شكسبير) عبّر عن الأحزان التي يصادفها الإنسان في حياته أكثر مما عبّر عن السعادة، فالفرح لحظات، أما الحزن فعميق طويل!
وقد أشارت (لورا كارستنسن) أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد -لصحيفة (واشنطن بوست) (The Washington Post) الأميركية- إلى أن البشر يلاحظون السلبيات أكثر من الإيجابيات بشكل عام، وعلّلت أستاذة علم النفس بأن لهذا السلوك علاقة وطيدة بجذور تطورية لبقاء الإنسان على قيد الحياة، فمن المهم أن تلاحظ الأسد الذي يمكن أن يهاجمك، أكثر من أهمية أن تلاحظ الزهرة الجميلة التي تنمو على الجانب الآخر من الطريق.
الصراع تجسيد لروح المأساة
من هنا يُعد الصراع قوام العمل الدرامي من دون منازع، فبسطوعه وتماسكه وقوة إقناعه للجمهور تبدأ الأحداث في التصاعد، فيكون الحراك الدرامي، ومن ثم يتشوق المتلقي إلى معرفة النهاية، فهل ستكون النهاية سعيدة أم حزينة لهذا الصراع في عنصر الخاتمة؟
ومن الدلائل الأخرى على أهمية الصراع وروح المأساة في الفن الدرامي أيضاً أن الكوميديا المؤثرة في عواطف الإنسان وفِكرة تلك الكوميديا التي تسخر من آلام الإنسان بطريقة تجلب الضحك على الواقع المرير الذي يصادف البشر، فتكون السخرية وجهاً من التعبير عن الأحزان الدفينة عندما لا يملك الناس تغييرها بشتى الطرق، وتصبح جزءاً من الحياة اليومية.
ولعل هذا ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي (بيرغسون) في مؤلفاته، فقد ذكر أنّ الضحك يلعب دور المصلح الاجتماعي، إذ عندما يضحك المرء من شخص آخر أو من أفعاله فإنه يلفت النظر إلى العيوب المسيئة للمجتمع والتي تصيبه بالخلل، فالضحك صوت الضمير الذي يتحدث مع الأرواح ويمتد إلى الأبعاد التي لا نلحظها كثيراً.
الكوميديا السوداء وجه آخر للمأساة
ومن هنا جاءت تسمية الكوميديا بالسوداء، وتناقش عادة موضوعات الموت والانتحار والحرب والإرهاب والعنف والجريمة والمخدرات والخيانة الزوجية والجنون والعنصرية والشوفينية.
وعطفاً على ما سبق تذكر الباحثة (منتهى طارق) في بحثها العلمي (الكوميديا السوداء بين النظرية والتطبيق) أن الكوميديا السوداء تجمع بين خطين مهمين، هما: الكوميديا والتراجيديا معاً، بهدف الكشف عن زيف المجتمع وإيقاظ وعي الجمهور عبر تفكيرهم الناقد لِما يشاهدونه في الفن البصري، وذلك عن طريق السخرية الصادمة والهزل وفن المفارقة والبكاء والضحك وتعرية الواقع، فيصاب المتلقي بحالة هستيرية من الضحك ممزوجة برغبة عارمة بالبكاء على مواقف الحياة، وترى (منتهى) أن العبثية تشكل خطاً درامياً أصيلاً في هذا الفن.
الناقد فيلسوف ومفكر
ومما سبق نستنتج أن الدراما وجه حقيقي للتعبير عن المأساة، فالدراسات العلمية السابقة تؤكد أن التفكير الناقد للحياة ينصب على العوائق التي تجعل حياة الإنسان بائسة مهما حاول أن يجد السعادة، فيعبر عنها الكاتب الدرامي في التراجيديا والكوميديا معاً، لكنها تجري مجرى الضحك في الثانية (الكوميديا) للهجة الساخرة التي تتضمنها، في حين تجر البكاء من المتلقي في الأولى (التراجيديا)، بسبب الحس الطبيعي فيها والخالي من الفكاهة.
وفي الحقيقة إن طرح هذا الموضوع بشكل خاص هنا له سببه، إذ تعرج المقالة على فكرة أكثر أهمية، ويغفل عنها كثيرٌ من النقاد المتخصصين، وهي أن الناقد الأدبي والفني هما من أكثر الشخصيات حاجة إلى تعلم كل العلوم والفنون والآداب والاطلاع الدائم عليها، كي يستطيعا أن يفهما حقيقة النص الأدبي أو الفني بأنواعهما، ثم يشرعا في النقد المنهجي عبر طريق صحيح ودقيق وعلمي ومترابط، فيبدو النقد صحيحاً ومقنعاً في آن واحد.
لذا كلّما كان الناقد مطلعاً على كل الفنون والعلوم، مثل: فن السيرة بأنواعها الثلاثة، وفن القصة بأنواعها، وفنون النحت والعمارة والموسيقى، وعارفاً بعلوم السياسة والطب النفسي والعضوي والتاريخ وعلم الأديان والفلسفة كان أكثر قدرة على فهم حقيقة النصوص والأعمال الفنية ومعرفة لبابها وأهدافها والكشف عن رموزها الخبيئة، وفك اللثام عنها.
ولعل هذا يقود المقالة إلى حقيقة رئيسة أن الناقد الأدبي أو الفني من أكثر الشخصيات العلمية ثقافة واطلاعاً، وقد يصلان إلى مرتبة المفكر مع تقدم النضج النقدي والعمر وتراكم الخبرات والقراءات عندما يتصفان بالأصالة والموضوعية، ولهما طريقتهما الخاصة، بعيداً عن فخ التقليد.