مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

أسطورة ناس الغيوان.. بحث في آليات اشتغال الخطاب الغيواني

إن الأغنية الشعبية هي فن تميز عن باقي الفنون بانفراده بمجموعة من الخصائص التي جعلت منه متنفساً يلوذ إليه الفرد والمجتمع، إذ تعبر عن كل ما يختلج النفس من أحاسيس ومشاعر غالباً ما تكون مكبوتة. كما أن العلاقة بين العناصر المكونة للأغنية من نص مكتوب أولاً، ثم الأغنية كلام مصحوب بموسيقى وتنغيم ثانياً، ثم الجمهور المتلقي ثالثاً، هي التي تحدد مدى شعبيتها. يقول البعض إن شعبية الأغنية تتعدد انطلاقاً من الجمهور الذي تجتذبه، أو انطلاقاً من اللغة العامية التي كتبت بها، لكنه قول واهم.
الخصائص الموسيقية لمجموعة الغيوان
تزخر الأغنية الغيوانية بالعديد من الخصائص والمميزات التي تتفرد بها عن باقي الفرق الغنائية الأخرى، نذكر منها:
على مستوى الإيقاع: بصمت الأغنية الغيوانية مساراً متنوعاً وغير مكرر، يمكن إبراز أساسياته في:
1 - اعتماد الإيقاع السريع والبسيط واستثمار كافة مميزاته.
2 - اعتماد إيقاع معتاد وإيقاع الأصول.
3 - اعتماد إيقاع تحريك وتهييج يفضي إلى حالة من الحلولوية (مصطلح صوفي) أو ما يصطلح عليه الحال أو الحضرة.
4 - تعدد آلات الإيقاع وخروجها عن المألوف.
5 - تبني الأداء الجماعي في الغناء مصحوباً بالرقص، ما يعنيه ذلك تبادل الأدوار والأصوات وتداخلها.
على مستوى مضمون الأغاني: تميزت الأغنية الغيوانية بالتجديد في المواضيع المطروقة بعيداً عن المألوف الفني، فتناولت قضايا تهم التاريخ والهوية والدين والعرق، واستحضار الذات الإلهية والأسياد والأولياء، واتخذت منها منحى للتعبير عن الذات والتغني بها. تبقى في النهاية موسيقى الغيوان موسيقى روحية تخاطب الوجدان والتاريخ والذات الإنسانية.
على مستوى الأداء الفني والموسيقي: تم توظيف عدد كبير من التعبيرات حتى أضحى الغناء لحظة تكثيف للفنون الأخرى وتداخل وتشابك بينها، تعتبر موسيقى إيقاعية بامتياز، تم التركيز فيها على عدد كبير من التعبيرات الفنية، التي جعلت من الغناء لحظة وجودية تتداخل فيها مع باقي الفنون الأخرى، وتتداخل وتتشابك بينها: الغناء، الرقص، المسرح.. بالإضافة إلى خاصية الصراخ المستوحى من فرقة كناوة وصراخهم (رفع الصوت)، التي تعني الغناء الممتد في حوار مع نغمات الهجهوج والصيحات أو الصياح. ولأن الغناء، في الأصل، إيقاع لفظي وصوتي، كما يشير المتخصصون؛ فإن هذا الإيقاع لم يكن مفصولاً عن أيقاع الجسد، فقد أعاد الغيوان للجسد دوره في إثراء الإيقاع وتنميته، فكان أن فتحوا لنا الباب أمام الرقص بتلاوينه الصوفية والدراويشية، حتى أصبح العرض مع الغيوان لحظة تحرر وانعتاق ليس للفرقة وحدها، بل للجمهور أيضاً، لحظة التحرر من القيود السياسية والتاريخية والقيمية، لحظة الصراخ والاحتجاج والتنديد والتحرر والانتشاء، والإبداع الجمالي والصوتي، وقد امتد هذا التنوع أيضاً ليشمل الآلات الموسيقية، فالآلات المختارة آلات غير مألوفة، بل آلات تم هجرها واعتبرت آلات لا تساير الموسيقى العصرية، آلات تراثية أصيلة تحضر بزخمها لتؤكد اختيار الفني لكناوة. (آلة الكنمبري أو الهجهوج -المصنوعة من جلد الماعز-، آلة القباقب أو لقراقش، آلة الطبل).
اللغة المستعملة: أكد الغيوان، من خلال اعتمادهم اللهجة العربية المغربية نسقاً في الاتصال والتواصل الفنيين. إن العامية قد تجد من يطرز تعابيرها وينسق ألفاظها ويولد الصور الجميلة منها، ويجعل كلماتها مشعة في الاستعمال، ويرتفع بشاعريتها التي ينسينا إياها استعمال العربية الفصيحة. فالمعجم الغيواني معجم زاخر ومملوء وكثيف الحمولة وشامخ بما فيه من رقة وعنف وتحرر وانتشاء، لقد أعادت الأغنية الكناوية إلى العربية الدارجة حيويتها ورفعتها المنشودة.
التراث الموظف في الأغنية الغيوانية: لا يقتصر ما تم توظيفه من قبل الغيوان على نصوص قديمة، بل تعدها إلى استدعاء مناخ أعم وأشمل، بدءاً من اللغة الموظفة العتيقة والقوية والرصينة والشديدة الإيحاء، والصور والمجازات المستعملة الشديدة الارتباط بالجو الثقافي والروحي الذي يلف النص المغنى، مروراً بالإيقاع والآلات الموسيقية الممهورة بالحلول والتواجد اللذين يذيبان الحدود بين الأطراف والأشخاص والمواقف والحالات والسلوكيات والأفكار، وانتهاء بالنصوص القديمة.
الأغنية والمسرحة واللباس لفرقة الغيوان: مع الغيوان نشأت الكلمة المغناة، أو ما يمكن تسميته بمسرحة الأغنية، ورافق ذلك مسرحة الجسد. أي حضور الإيقاع المصاحب للرقص، وهو ما يعني حضور لغة الجسد الذي يختزل حضور الحضرة والحال ويكثفها. ناهيك عن اللباس الخاص الذي ترتديه فرقة الغيوان، وتتفرد به الفرقة عن باقي الفرق الغنائية الأخرى، ككناوة وجيل جيلالة والسهام والمشاهب..
آليات اشتغال الخطاب الغيواني
- صورة الإنسان:
إن الخطاب الغيواني بتميزه عن الخطابات السائدة في فترة السبعينات يحتفي بالعديد من مظاهر التعاطف مع القضية الإنسانية بكل أبعادها، من خلال إزاحة الستار عن مجموعة من الهموم والمشاكل والمآسي، لتعبر أصدق تعبير عن موقف اجتماعي وأيديولوجي في نفس الوقت، في محاولة فضح كل الأيادي الخفية التي كانت ولا تزال وراء النكسة الإنسانية، وفي الوقت نفسه محاولة لتعرية الهموم والمعاناة الشخصية للفنان ذاته.
السلامة السلامة
السلامة السلامة
هاد بنادم ولى مقهور
بانت فيه العلامة
حتى شوفه ولى مقهور
عايمة عليه غمامة
كلامه ولى محصور
حتى ليوم القيامة
ديما راحل يا مضرور
سارح فكلام النظامة
ملي عييتي لقيتي سور
مبني بحجر الظلامة
ها أنت واكف ومحكور
حادر راسك نعامة
من خلال قراءتنا لهذا المقطع من أغنية (السلامة)، نجد توظيفها لمجموعة من المفاهيم ترسم لنا الوجه الآخر لحياة الإنسان المتمثل في القهر، والقمع، والظلم، والاحتقار.. وبالتالي فكل هذه المفاهيم تبيان لحقيقة ما يكابده الإنسان من معاناة خلقت استياء لديه، إذ وجد نفسه مختنق الأنفاس داخل مجتمع فتح الباب أمام مجموعة لا متناهية من المشاكل، أثقلت كاهله وأضنت حياته، وجعلت عيشته عيشة مقيتة تعلن الغناء.
ومن خلال مقطع آخر من أغنية (واش احنا هوما احنا)، نجده يحمل في طياته تشكياً وحسرة على صور الشتاء التي صار عليها الإنسان المغربي بشكل خاص.
وشوف الدنيا هكذا دايزة
وبنادم كيف الميزان طالع مرة هابط
يعوف الجرية ليام فايزة
والعالم يدير ماراد... حكمه شامل شرفة ومرابط
شوف عزة بنادم حايزة
الشقا والهجران سعد بنادم فيهم رابط
وشوف الفرحة امضوية عل لوطان
والناس زاهية فرحانة
غير لطيار فليلها سهرانة
باكية بنواح ولدا تو لحزان
يا زيني هكذا ما كان
إن الكلمات التي يحبل بها النص الغيواني (الشقاء، الهجران، البكاء، النواح، الأحزان، الضوء، الفرحة، الزهو) إن دلت على شيء فإنها تدل على حيرة الإنسان وتخبطه الدائم في مدارات الحياة.
- العلاقة الاجتماعية:
ظاهرة (ناس الغيوان)، ظاهرة أصولها مجتمعية تستجيب لنمط العقلية السائدة والسلوك الجمعي لفترة السبعينات، وهذا ما يمكننا من القول بأن الخطاب الغيواني هو خطاب يعبر عن وعي جمعي، إذ إن طبيعة المضمون تعبر عن تصورات ومفاهيم اجتماعية سائدة آنداك. وأنه خطاب محمل بكلمات ومفاهيم لها دلالة في المخيال الاجتماعي أمام تحديات الواقع المتضاربة، والتي جعلت الإنسان عرضة للعديد من الممارسات غير الإنسانية التي أفقدت الحياة مصداقيتها وانقلبت فيها الموازين، فأصبح منطق الهروب إلى الغيبيات هو الحل الوحيد، فإنه كثيراً ما ينفي هذا الواقع السائد بمحاولة لنسف العقل الإنساني من كل أدران المادة والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى ومناشدة السلم.
آدن دن داني، داني آ دن دن داني
يكفاك د البكا يا عيني يكفاك همد الحال
الضرف غشمني ولاحني ما بقى لي امال
لله يا لي تسألني لا تطلب المحال
قصتي واضحة في جبيني ما بقات رغبة تلهيني
على الفراق عوال، على الفراق عوال
في أغنية (الله يا مولانا)، دعوة وتآسٍ بالذات الإلهية في انفصال تام عن الماديات وهروب من الواقع الاستغلالي المؤلم.
واش احنا هما احنا أقلبي ولا محال
واش الدنيا هكذا أقلبي ولا محال
ما نويت الزمان يغدر ويتبدل الحال
ما انويت الناس أ تبيع عزها بالمال
يا نواح الطير ف السما لله شكون قول لي
يجي رسول للخلق ويجيب السلم
ترجع لمياه للمجرى لله شكون قول لي
يقاد لشياء للحب ويزول الغم
واش احنا هما احنا أقلبي ولا محال
أغنية (واش حنا هما حنا)، في هذه الأغنية إلغاء لحقيقة الإنسان وتعويضها بالتهافت المحلي والتكالب على المال، وهذه عودة إلى الانسلاخ من العالم المادي والنظر إلى الغيبيات.
البعد الرمزي للنصوص الغيوانية
إن الصور في النصوص الغيوانية ذات بعد رمزي، وسنأخذ أغنية الصينية نموذجاً:
وا وا وا واواوا
وا وا واو
فين اللي يجمعو عليك اهل النية
آه يا الصينية
دوك اللي يونسوك
فين اهل الجود والرضا
فين حياتي، فين حومتي واللي ليا
آه يا الصينية
واعر بلاه، ما ساهل حب الكاس
آه يا غيات، ما نساك الخاطر
واعر بلاهم، ما ساهل عشق الناس
آه يا غيات، حرام ينساك الخاطر
واعر بلاه، جايني بغرامه
والعنبر إلى يجي كدامه
والنعناع والشيبة
آه يا الصينية
أيا ندامتي ويا ندامتي
ومال كاسي حزين ما بين الكيسان؟
أيا ندامتي ويا ندامتي
ومال كاسي تايه تاينين زاد قوا عليا لحزان؟
مال كاسي باكي وحده
مال كاسي نادب حظه
مال كاسي يا وعده هذا نكده، غاب سعده؟
آه يا الصينية
الصينية في العرف الاجتماعي ذلك الطبق الذي توضغ فوقه الكؤوس والإبريق، وهي هنا إحالة على المجتمع، الذي عقد شمله بمناسبة حفلة شاي، وهو مجتمع روحي تعبر عنه التيمات الآتية: (أهل الجود والرضا) و(أهل النية)؟
والكؤوس تشخيص لذوي القرابة الوثقى والصلة ببعضهم.
مال كاسي حزين؟ الكأس يمكن تجسيدها في السارد.
فهذا النص يتحدث عن الحنين إلى حفلة الشاي وسط الأهالي والأحباب، لكنه لا يلبث أن يطرح سؤال: مال كاسي حزين، أي لماذا كأسه حزين بين الكؤوس؟
الهدف من هذا كله هو منح توازن نفسي لهذه الذات بإقناعها بعدم دوام الحال، فدوام الحال من المحال كما تقول الحكمة المأثورة.

ذو صلة