مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

إعادة تشكيل الصور النمطية في عالم متغير.. المملكة العربية السعودية مثالاً

الصورة النمطية هي شكل من أشكال التعميم المفرط الذي يتم فرضه على الأفراد أو المجتمعات استناداً إلى معتقدات مسبقة أو معلومات غير دقيقة. تتجذر هذه الصور في الذهن من خلال تكرارها عبر الأحاديث المتداولة، ومن ثم تستمر في الانتشار عبر وسائل الإعلام التقليدية مثل الأفلام، التلفزيون، والصحف، وأيضاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. في هذا السياق، يمكن الإضاءة على العديد من الصور النمطية التي تم تكريسها على مر السنين، مثل الصورة التي تصور العرب في أفلام هوليوود على أنهم فاحشو الثراء يملكون أكثر من زوجة، أو تلك التي تصف أفريقيا كقارة تعج بالفيلة والغابات وأكلة لحوم البشر، أو التي تصور أهل الهند على أنهم سحرة ومشعوذون. هذه الصور بعيدة عن الواقع الحقيقي لتلك الشعوب والمجتمعات، ومبالغ فيها وغير دقيقة.
تعود الأسباب التي تساهم في تكريس الصور النمطية إلى عوامل متعددة. أولاً، يلعب الإعلام دوراً كبيراً في نشر هذه الصور، فالأفلام والمسلسلات الهوليودية التي تروج للصور النمطية عن العرب أو شعوب أخرى هي أمثلة واضحة على هذا التأثير، من خلال تصوير العربي كشخص ثري ومتخلف في الوقت ذاته، تظل هذه الصورة في أذهان المشاهدين لفترة طويلة وتصبح بمثابة (الحقيقة) التي يفكرون فيها عند التعامل مع المجتمعات العربية.
ثانياً، الجهل وقلة المعرفة الحقيقية بتلك الثقافات والشعوب يؤديان إلى قبول الصورة النمطية دون نقد أو محاولة للبحث عن الحقيقة. هذا يجعل من الصعب تغيير تلك التصورات لأن المعلومات البديلة غير متاحة بسهولة، أو لأن الجمهور يميل إلى التمسك بالصور التي يراها مألوفة ومبسطة.
مع الثورة المعلوماتية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، توفرت للناس إمكانية الوصول إلى مصادر معلومات متعددة ومتنوعة تتيح لهم الحصول على فهم أعمق وأكثر دقة للثقافات والمجتمعات الأخرى. ومع ذلك، لا تزال الصور النمطية قائمة في كثير من الأحيان. فرغم التغيرات الثقافية والاجتماعية الكبيرة التي شهدها العالم، فإن الصور النمطية لن تتلاشى تماماً. فمع كل تطور، يتم تعديل تلك الصور لتتناسب مع العصر الحديث، لكنها تظل جزءاً من طريقة التفكير البشري. على سبيل المثال، مع تقدم دول الخليج العربي في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية، بدأ الإعلام الغربي يعترف بذلك، لكنه لا يزال يحتفظ ببعض العناصر السلبية في تصويره لتلك الدول، مثل التركيز على بعض المظاهر الاجتماعية التي لا تمثل الواقع بأكمله.
تسعى العديد من الدول والمجتمعات إلى تغيير الصورة النمطية المرسومة عنها، خصوصاً مع إدراكها لأثر هذه الصور على علاقاتها الدولية وتنميتها الاقتصادية. واحدة من أهم الوسائل التي يمكن أن تساهم في تغيير تلك الصور هي السياحة والرحلات. فعندما يزور السياح دولة معينة ويتعرفون على ثقافتها وشعبها عن قرب، تتغير الصورة التي يحملونها مسبقاً بناءً على تجاربهم الشخصية.
في السنوات الأخيرة، شهدت المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى تطوراً كبيراً في قطاع السياحة، مما أتاح للزوار من مختلف أنحاء العالم فرصة مشاهدة التقدم الحضاري والتطور الثقافي الذي تعيشه هذه الدول، وتغيير صورة العربي في أذهان السياح الذين ينقلون ما يشاهدونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل الحكومات في بعض الدول على إطلاق حملات إعلامية وثقافية تهدف إلى تقديم صورة دقيقة عن بلدانها، مثل الأفلام الوثائقية والبرامج الثقافية التي تتناول تفاصيل الحياة اليومية لمواطنيها. هذه الجهود تسهم في تقديم صورة مختلفة، ولكنها تتطلب وقتاً وجهداً لتغيير التصورات القائمة.
كذلك تلعب الفنون، بما في ذلك السينما، المسرح، التلفزيون، الأدب، الموسيقى، والفن التشكيلي، دوراً حاسماً في تكريس أو تغيير الصور النمطية. وهنا تتم محاربة الصورة النمطية بنفس الأداة الإعلامية، ففي كثير من الأحيان، نجد أن الفنون تميل إلى تكريس الصور النمطية لأنها تشكل نوعاً من الإثارة وتجذب انتباه الجمهور.
لكن في المقابل، هنالك فنانون ومخرجون يسعون لكسر هذه الصور وتقديم واقع مختلف من خلال الأعمال الفنية التي تسلط الضوء على التنوع الثقافي والاجتماعي وتقدم فرصة للجمهور لرؤية الأمور من منظور مختلف. على سبيل المثال، السينما العربية والآسيوية تقدم العديد من القصص التي تعكس تنوع وثراء مجتمعاتها، مما يسهم في تغيير الصور النمطية السائدة لدى الجماهير الأجنبية.
خلاصة القول، إن الإنسان يميل بطبيعته إلى التأقلم مع الصور النمطية لأنها تقدم له معلومات سريعة. وتمنحه نوعاً من الإثارة، وتساعده على التصنيف الفوري للآخرين دون الحاجة إلى التعمق في فهم التفاصيل. هذا الميل الفطري يفسر لماذا تستمر الصور النمطية في البقاء حتى في عصر المعلومات. إلا أن البشر في الوقت نفسه قادرون على تجاوز هذا التنميط عندما تتاح لهم الفرصة للمعرفة المباشرة أو التفاعل الشخصي. المثال الواضح على ذلك هو التغير الذي طرأ على الصورة النمطية للمملكة العربية السعودية بعد أن أصبحت وجهة للسياح والمستثمرين من مختلف أنحاء العالم. فمنذ أن تم تسليط الأضواء على المملكة كدولة حديثة تشهد تغيرات ثقافية واجتماعية عميقة، بدأت الصورة النمطية القديمة عن مجتمع مغلق ومتخلف تتلاشى لتحل محلها صورة مجتمع ديناميكي يتمتع بثقافة غنية وتاريخ عريق، مما أهلها لتكون مثالاً يقتدى به لدولة استطاعت أن تغير الصورة النمطية التي كانت ترسم عنها بأخرى حقيقية وأكثر جمالاً وإشراقاً. ففي الماضي كانت السعودية ترتبط في أذهان الكثيرين بأنها دولة متشددة من الناحية الدينية، ومجتمعها منغلق وغير منفتح على العالم. ولكن مع الانفتاح الثقافي الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة، بما في ذلك السماح للفنون والموسيقى والمسرح بالتطور، وتنظيم مهرجانات عالمية مثل (موسم الرياض)، بدأت تتشكل صورة جديدة تماماً حيث يتحدث الزوار عن المملكة كدولة حديثة متقدمة، تجمع بين تراثها التاريخي العريق وحداثتها التكنولوجية والثقافية. هذه التحولات تشكل نموذجاً يحتذى به لكيفية تغيير الصور النمطية من خلال الجهود المتواصلة على مستوى الدولة، والشراكة مع المجتمع الدولي في مختلف المجالات الثقافية والسياحية.
تشكل الصور النمطية تحدياً كبيراً للفهم الحقيقي بين الشعوب والثقافات. وعلى الرغم من أنها قد تستمر لفترة طويلة، فإن هناك دائماً فرصة لتغييرها من خلال التعليم، والسفر، والفنون والعمل الدؤوب لمواكبة التطور ومجابهة التنميط، بحيث يمكن للدول والمجتمعات أن تعمل بوعي لتقديم صور حقيقية عن نفسها، وهذا ما نجحت المملكة العربية السعودية ودول أخرى بالفعل في تحقيقه. لكن يبقى السؤال: هل سنصل يوماً إلى عالم خال تماماً من الصور النمطية، أم أن هذا مجرد طموح يصعب تحقيقه؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة.

ذو صلة