مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

البحث عن طارق

قلت وأنا ألهث تعباً: محال أن تنساني وقد دونت اسمها في القصيدة!
فأجابوا بمكر من خاط المؤامرة في المغيب:
وما القصيدة؟!
إنها نشوة ساعة، يسمو فيها الغريب.. يرقص قليلاً بثمالة متوهجة في الصميم..
ثم لا يلبث أن يدمغها صدى ثرثرة الحيطان العتيدة!
أجبت وأنا ممسك بتلابيب جلباب كبيرهم، وكان قد عزني في الخطاب، أتوسل كمن لم يسمع قط الجواب، وأنا أجهش بالبكاء، وقد خارت قواي وزاد عرقي في الصبيب:
أطارقٌ هنا؟ أم نسيني هو الآخر يا ترى كما نستني الحبيبة.. وكما نستني من قبل في المدينة القديمة القصبةُ الحمراء وصوامع المساجد؟!
أنسيني كما نستني اﻷزقة المبهمة، وهلعي فيها وأنا ماضٍ ليلاً، أبحث عن ذكراها الجميلة؟ أينساني من علمني أن متن القصيد خالد؟!
أغيثوني أنا الغريب المطارد، ألا ترونه خلفي يطاردني وهو مشهرٌ كل يوم شفرة حادة جديدة.. ألا ترونها؟! إنها تلمع أثناء الليل وأطراف النهار، يريد خنق ما تبقى فيّ من عصافير الطفولة..
وكل ذنبي أنني ظللت طريقي لأني لم أسمع كلام أمي الضريرة.
لقد أوصتني بأن لا أتعدى سور المقبرة، وأن أربض بجوار البيت تحت الشجرة، ﻷنال رضا الله ورضا الصالحين، وﻷجيبها سريعاً حين تناديني ساعة الظهيرة.. وحتى لا تنساني الطفلة الصغيرة عندما أبلغ سن الرجولة.
ثم سألتهم بعدها، وأنا أنتحب، عن الآخرين. فأجابوا متهكمين: معذبون في الأرض، محرومون من السماء.. لقد أضحى جلهم مسافرين. والبقية القليلة مشردون في البحار، تموج بسفينتهم الأمواج الهادرة، يغشاهم غبار العناء، ولم يبق لهم إلا نجم وحيد حائر في السماء، يحاولون الاهتداء به، لكن مصيرهم التشتت في البلاد البعيدة..
تمتمت في ذهول: لقد خرجوا إذن كما خرجت، وانشغلوا عني بالسفر والغربة كما انشغلت. وللغربة سكرات تنسي المرء وعوده، وحتى عنوان بيته القديم.
لكن حتماً طارق لايزال هنا! لقد ضرب لي موعداً، تعهد بأن لن يخلفه، عند كل رأس سنة جديدة، نلتقي في ساحة الحمام في وسط المدينة من أجل التقاط صورة تذكار، عند نفس المصور ذي اللحية الكثة وكوفية فلسطين.
ولنلقي التحية بعدها على لقلاق صومعة جامعنا الكبير، أو على صغاره الذين سيرثون العش بعده ويُذكرون الصوامعَ بجروحي الغائرة العديدة..
انتبهت فجأة لهدير إنشاد مكتوم يأتي من خلف سور. فدفعت بالخطوات في اتجاه الصوت المكتوم، فرأيت صبية الكتاب منهمكين في التلاوة، وآخرين منحنين على لوحاتهم يدهنون وجهها بحجر صلصال مبلول، ليمحوا خطوط الكلمات، بعدما نقشوها الأعماق، وهم يتضاحكون ويلعبون. ثم يسندون بعدها الألواح على جدار الزاوية، لتمتص ماءَها شمسُ الضحى وهم يرقبون بشغف المتعلمين على اللوحة، بزوغ صفحة جديدة.
دنوت منهم وألقيت التحية، فلم أحظ بأي جواب، كأني سراب، أو غريق يتحدث من تحت الماء. اقتربت من باب الزاوية فزادت شدة التلاوة، ومن بين الأصوات المتعالية، تعرفت على نبرة صوت رفيق لي من الزمن البعيد، تمتمت في دهشة شديدة: تالله إنه لطارق، وهذا مكانه!
ألا زال يتلو من دون انقطاع منذ ذلك الزمن الغابر في نفس المكان بجوار نفس السارية وعلى نفس لوحته القديمة؟!
ولجت الزاوية فلم يأبه بي أحد كأني خيال عابر، فرأيت هنالك صحائف مرصوصة، وألواحاً من شجر الجوز مبعثرة، لمحت من بينها لوحة صغيرة مشقوقة كانت لي، لا زال عليها كلمات خطتها يدي شهيدة، وأقلام قصب مكوية، ودواة حبر على حجر شيخ جالس يتلو ويملي لصبي على كثب منه في جهة المكتبة الصغيرة.
اقتربت رويداً من طارق، فرأيته يتلو كعادته مغمض العينين، لا يفتحهما إلا لحظات قصيرة للتحقق من توافق المنطوق مع المكتوب. أشرت له بيدي فلم يأبه بوجودي، ثم وضعت بعدها يدي على ركبته، فلم يتزحزح عن جلسته وواصل الترتيل وهو يهز رأسه بنفس هزته المعهودة..
تسمرت مذهولاً في مكاني، كأنه جُعل بيننا حجاب قُد من حديد عنيد، فهو لا يراني ولا يسمعني حتى وإن صرخت بأعلى صوتي.
جلست جواره بعدما خارت قوتي وقلت حيلتي، أنصت إلى ترتيله وأنا أبكي دموعاً تحجرت في عيني منذ زمن الطفولة..
تمتمت في حزن كبُرَ فيّ غُوله منذ زمن سحيق: تالله إنه لطارق، وهذا لوحُه، غير أني عدت متأخراً بأكثر من عشر سنين..

ذو صلة