مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

بغداد في تأسيسها.. بغدادو ليست صنماً ولا بستانـاً فارسيين

اعتبر 15 تشرين الثَّاني (نوفمبر) يوماً سنوياً لبغداد، لاسترجاع إرثها الحضاري وتاريخها الغابر، وسط حاضر لا تسر به أفقر العواصم، فكيف ببغداد، لكثرة ما مرَّ عليها من أوجاع، وقد قيل عنها، في ما مضى، مِن قِبل ابنها المؤرخ أحمد بن إسحاق بن واضح اليعقوبي (القرن الثالث الهجري)، وهو يتحدث عن العراق في كتابه (البلدان): (وإنما ابتدأتُ بالعِراق، لأنَّها وسط الدُّنيا، وسُرة الأرض، وذكرتُ بغداد لأنَّها وسط العِراق، والمدينة العظمى، ليس لها نظيرٌ في مشارق الأرض ومغاربها، سِعةً وكبراً، وعمارةً، وكثرة مياه، وصِحة هواء)(1). غير أنَّ تأسيسها كان في ربيع الأول 145هـ، المصادف في الميلادي حزيران (يونيو) 762 ميلاديَّة، فلماذا يكون يومها تشرين الثّاني، إلا إذا أرادوا تاريخ مناسبة لها غير تاريخ تأسيسها.
نقل أبو حيان التَّوحيديّ (ت: 414هـ)- عن قدماء- كلاماً مختصراً عن اختيار تأسيس المُدن: «إنَّ المُدُن تُبنى على الماء والمرعَى والمُحتَطَبِ والحَصانة»(2)، وبغداد جمعت الثّلاثة، فإذا كان الماء كان المرعى والمُحتطب، والحَصانة، أنَّها صرة العِراق، على دجلة، والفرات ليس بعيداً عنها، ولأنَّها كانت حصينة، قبل تمصيرها، اُتخذت مقراً لدير مِن أديرة النَّصارى (النّساطرة)، ومِن العادة يستقرون في الأمكنة الآمنة.
يذكر محمّد بن جرير الطّبري (ت: 310هـ)، وهو يؤرخ لبناء بغداد: أنَّ أبا جعفر المنصور (حكم: 136 - 158هـ) عندما نزلها ليختارها عاصمة له، (أحضر البطريق، صاحب رحا البطريق، وصاحب بغداد، وصاحب المخرم، وصاحب الدَّير، المعروف بستان القِس، وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم)(3)، وكانوا في قرى منتشرة حول بغداد.
فبعد التأكد مِن مناخها في الحرّ والبرد، وخلوها مِن الهوام التي تفسد الطّعام والأبدان، وضمان وصول الميرة لها، عبر دجلة والفرات، القريب منها، وقع الخيار عليها، فبدأ البناء في الجانب الغربيّ، المعروف بالكرخ، وقد اشترى الأرض، التي أقام عليها مدينته المُدوَّرة مِن صاحبها الرّاهب، ولما أراد البناء، ويرى تصميمها، على أرض الواقع، فأمر بتخطيط الأساسات، ونثر عليها مِن حبوب القطن المرشوشة بالنّفط(4)، فاُشعلت النّيران بها (فنظر إليها والنَّار تشتعل، ففهمها، وعرف رسمها، وأمر أن يُحفر أساس ذلك على الرَّسم، ثم ابتدئ في عملها)(5).
كان ذلك السنّة (144هـ)، لكنْ والمنصور كان مشغولاً بالإشراف على بناء بغداد، لتكون عاصمة لدولته، ثار عليه قريبه محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (المعروف بالنّفس الزَّكيَّة) بالمدينة، وكانت واقعةً خطيرةً، كادت تعصف بالخلافة العباسية، الحديثة آنذاك، ثم ثار أخوه إبراهيم بعده بالبصرة، فترك المنصور البناء، ولم ينجز منه شيئاً، سوى حفر الأساسات للمدينة المُدوَّرة، تركها أبو جعفر ليتابع المعارك الحامية الوطيس بالمدينة والبصرة، حتى انتهت بقتل الثّائرين (145هـ)، فعاد أدراجه إلى بغداد لإكمال البناء.
كانت الخلافة العباسية، بشخص أبي جعفر المنصور، مهددة مِن داخل الهاشمية التي اتخذها أبو العباس السّفاح (ت: 136هـ) عاصمة، الواقعة بظهر الكوفة، ثم انتقل عنها إلى الأنبار ليسمي مقامه الجديد الهاشميَّة أيضاً، فمات هناك، وحَكم منها المنصور، وكان سبب الانتقال من هاشميَّة الكوفة إلى هاشميَّة الأنبار ثم إلى بغداد(6)، شغب (الرَّاونديَّة)(7)، واسم الهاشميَّة نسبة إلى بني هاشم، وليس مكاناً قديماً بهذا الاسم. بمعنى كان الدَّافع للانتقال عن الكوفة وهاشميتها والأنبار سياسياً، ليأمن المنصور على نفسه وجنده(8).
بغدادو البابلية
كانت بغداد قبل بنائها (مزرعةً للبغداديين، يُقال لها المباركة)(9)، وعن بابلية بغداد، يقول البلدانيّ القديم أحمد بن عمر المعروف بابن رسته (المتوفى بعد 300 هـ)، وهو بلداني فارسي: (هذه الكورة مدينة السَّلام، وهي المسماة بغداد وبغدادذ، اسم موضع، كانت في تلك البقعة، مِن قَبلُ زعموا أنه كان موضوعاً للأوثان والأصنام في الدهر القديم، وهي أرض بابل، وبابل أقدم هذه المواضع)(10). غير أنّ ناشري الكتاب يضعون حاشية، لم يقلها ابن رسته، في فارسيَّة اسم بغداد.
كذلك يفيدنا المؤرخ علي ظريف الأعظميّ (1882 - 1958) في اسم بغداد البابليّ، بعد الاكتشافات في عالم الآثار، الذي كان مخفياً على القدماء، لذا تناقلوا رواية أحد المتعصبين الفرس، الذي سنأتي على بيانه: (أثبتت الكتب التاريخية الصحيحة، المستندة إلى الآثار المكتشفة حديثاً في بغداد وأطرافها، أن هذه المدينة، مِن المدن الكلدانيَّة القديمة العهد، وكانت عامرة قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، وقد أيدت ذلك الكتابة المنقوشة، على كثير مِن الآجر القديم، الذي وجده الباحثون فيها، وقد كُتب على بعضه بالحرف المسماريّ اسمها (بل دودو)، وعلى بعضه بغدادو، أو بغدانو، ومعنى (بل دودو) مدينة الإله في لغة السّريانيين الكلدان، والظاهر أنَّ هذه الكلمة صُحفت على توالي الأعوام والقرون إلى بغداد، وقد أخطأ مَن زعم أنَّ لفظة بغداد فارسية، وأن أصلها (باغ داد)، بمعنى عطية الصنم)(11). جاء ذلك في كتاب الأعظمي (مختصر تاريخ بغداد)، ونوضح هنا: لا علاقة له بمختصرات (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي (ت: 463هـ) المعروفة.
يؤيد ذلك بحثٌ علميَّ أنجزه الباحثان العراقيان المعروفان، كوكيس عواد (ت: 1992) وبشير فرنسيس (ت: 1994)، جاء في بحثهما: (ظهرت الدراسات الأثرية، أن مثل هذا الاسم قد ورد في الكتابات المسمارية القديمة، التي ترجع إلى العصرين البابلي والآشوري بصورة بغدادو، وبغدادى، ويكدادو، وتُقرأ خدادو أيضاً، يُرقى زمن هذه الكتابات إلى أوائل الألف الثَّاني قبل الميلاد، ويتبين منها أيضاً أنَّ مدينة قُرب بغداد الحالية، وإقليماً أيضاً، كانا يعرفان بمثل هذا الاسم في العصر البابليّ)(12). كما (أرجع البعض اسم بغداد إلى أصل آرامي، مركب مِن بيت وكداد، ومعنى ذلك: بيت، أو دار، أو مدينة الضَّان، أو الغنم، وأيدوا رأيهم بإيراد أسماء آراميَّة لمدن عراقيَّة، مبدوءة بالباء على شاكلتها)(13).
كذلك ذكر الباحثان ما تردد عند بعض المؤلفين (أنَّ أصل اسم بغداد فارسيّ، وهو ما ذهب إليه بلدانيو العرب أيضاً، فقالوا: إن اسمها مركب مِن كلمتين فارسيتين: بغد -داد، ومعنى ذلك عطية الإله)(14).
ما يخص اسم بغداد الفارسي المزعوم، عند القدماء، كتب الخطيب البغدادي (ت: 463هـ): (إنما سميت بغداد بالفرس لأنه أهدي لكسرى خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لهم صنم يعبدونه بالمشرق يقال له: البغ. فقال بغ داد. يقول: أعطاني الصَّنم. والفقهاء يكرهون هذا الاسم مِن أجل هذا، وسماها أبو جعفر مدينة السلام، لأنَّ دجلة كان يقال لها: وادي السلام)(15).
كذلك جاء عند ياقوت الحموي (ت: 626هـ): (قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ مِن عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصَّنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان، وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد، فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأنَّ بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل، من الفرس اسمه داذويه)(16). مِن المعلوم، عندما قال الحموي (بعض الأعاجم) يقصد الأصفهانيّ، الذي سنأتي إلى ذِكره.
لكنَّ مِن أين دخل هذا (التفريس) على اسم بغداد، وقد أصبحت عاصمة الدُّنيا؟ ولم يقل به ابن واضح اليعقوبيّ (ت: 292هـ) في كتابه (البلدان)، ولم يقله محمَّد بن جرير الطّبريّ (ت: 310هـ) في تاريخه، ولا غيرهما مِن بلدانيين ومؤرخين، قبل القرن الرابع الهجري. يبدو أنّه نشأ في الفترة البويهيّة، وحكم أسرة آل بويه لبغداد كسلاطين مع وجود الخلفاء العباسيين، وهم قوم مِن الفرس الدّيلم. قال به اثنان مِن الكُتاب الفُرس، أحمد بن محمَّد المعروف بابن الفقيه الهمذاني (ت: 365هـ): (سميت بغداد لأنَّ كسرى أهدي له خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لقوم ذلك الخصي صنم بالمشرق، يقال له البغ. فقال الخصي: بغداد. يعني ذلك الصَّنم أعطاه ذلك الموضع)(17).
أشار لي الباحث الأهوازي الصَّديق عبدالنَّبي القيم إلى أن مؤلفاً فارسيَّاً آخر معروف بالتّعصب، كان وراء بث ادعاءات مِن هذا القبيل، وهو حمزة بن الحسن الأصفهاني (ت: 360هـ)، لم يلحقه اللَّقب مِن مرور بأصفهان، أو تعليم، إنَّما مدينته أصفهان، وله كتاب (تاريخ أصفهان)، وكتاب (أصبهان وأخبارها)، وكتاب (أعياد بغداد الفرس)، وقد ذكره ياقوت الحموي بالقول: (وكان مع ذلك رفيعاً ناقص العقل، غير ثبت، ولم يُعرف في عصره أعرف منه بالفارسيَّة، ولا أحسن تصرفاً فيها منه)(18)، وهو الذي نقل عنه الحموي، وأشار إليه بالحمزة بن الحسن، وهو الأصفهانيّ نفسه.
قال أبو الرّيحان البيروني (ت: 440هـ) في عصبية حمزة بن الحسن الأصفهاني الفارسية، وهو يتحدث عن التقويم وأسماء الشُّهور، وادعاء المؤرخين بالمعرفة بها، وهم ليسوا كذلك: (كلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ حزب بما لديهم فرحون.. ولمثل هذا تَعرَّض حمزة بن الحسن الأصفهانيّ، في رسالته عن النَّيـــروز، حيث تعصـــب للفـــرس، في عملهـــــم في سنـــة الشَّمــــس..) (19). مَن يقرأ كتب البيروني، سيجده ضد التعصب الشعوبي أو الديني تماماً، فقد شكل حالة مبكرة مِن التَّسامح، فليس عليه غريبة هذه الملاحظة عن أمثال الأصفهاني.
أما عن ترهات هذه الرواية، فليس من عاقل يعقلها، بأنَّ الصين أو الهند أهدت لكسرى خصياً، ليعطيه بغداد بقراها وبساتينها هديةً، وأنَّ اسمه (البغ) وداد أعطى، فيكون المعنى (الصنم أعطاني)، غير أن فُرس اليوم أخذوا يتشبثون بهذه النسبة، ليس جهلاً إنما قصداً، كي يظهروا العراق بستاناً فارسياً، وهم من أبناء الثورة ومن خصومها، لكنهم متفقون في ترهات حمزة الأصفهاني(20).
بناء بغداد
يعد الخطيب البغدادي أحد أوسع الذين كتبوا عن تاريخ بغداد، أو تاريخ مدينة السَّلام، ويمكن أن يكون ابن طيفور (ت: 280هـ)، في كتابه (بغداد) هو الأوسع، لكن لم يصلنا منه إلا جزء واحد، تضمن أيام الخليفة عبدالله المأمون (ت: 218هـ). قال الخطيب: (بلغني أن المنصور لما عزم على بنائها، أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، فمثل لهم صفتها التي في نفسه، ثم أحضر الفعلة والصناع من النَّجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كلِّ بلد بحمل من فيه ممن يفهم شيئاً من أمر البناء، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة، ثم اختطها وجعلها مدورة. ويقال: لا يعرف في أقطار الدنيا كلها مدينة مُدوَّرة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم)(21).
ما جاء به الخطيب البغدادي، قد ذكره اليعقوبي، وهو قد سبقه بنحو قرنين من الزمن، ما قاله عن جلب أبي جعفر المنصور لأهل المعرفة والفنون الهندسية، قال: (وجه في إحضار المهندسين، وأهل المعرفة بالبناء، والعلم بالذَّرع (مسح الأرض) والمساحة، وقسمة الأرضين، حتى اختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر المنصور، وأحضر البنائين والفَعلة، والصُّناع، من النَّجارين والحدادين والحفارين، فلما اجتمعوا وتكاملوا، أجرى عليهم الأرزاق، وأقام لهم الأجرة، وكتب إلى كلِّ بلدٍ في حملِ مَن فيه، ممَن يفهم شيئاً مِن البناء، فحضره مائة ألف مِن أصناف المهن، والصّناعات، خبرَ بهذا جماعة مِن المشايخ، أنَّ أبا جعفر المنصور لم يبندِ البناء حتَّى تكامل له الفعَلة، وأهل المهن مائة ألف، ثم اختطها في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، وجعلها مُدوَّرة، ولا تُعرف في جميع أقطار الدُّنيا مدينة مُدوَّرة غيرها)(22).
حفرت تزامناً مع البناء الآبار وشقت القنوات، لتدخل المدينة للشرب، ولصناعة اللّبن (الطَّابوق غير المفخور أو المشوي)، وتحضير الطين كمادة في البناء، ومِن اللِبن كان البن (العظام) المربعات، بقياس ذراع في ذراع، ويصل وزن الواحدة منها مئتي رطل، واللبنات الأنصاف، طولها نصف ذراع ووزنها مئة رطل(23).
كان المهندسون، الذين كلفوا بتصميم وبناء المدينة المدورة أربعة، ذكرهم ابن واضح اليعقوبي كالآتي: (وكان الذين هندسوها: عبدالله بن مُحَّرز، والحجَّاج بن يوسف، وعُمران بن الوضاح، وشهاب بن كثير)(24). قسمت بغداد إلى أربعة أرباع، وكلُّ مهندس اختص بربع. كان معهم عدد مِن المنجمين، ويمكن إضافة مهندس خامس إلى الأربعة، الذي اختص بعمارة المسجد، وهو الحجَّاج بن أرطأة، فـ(هو الذي خطَّ مسجد جامعها بأمر أبي جعفر)(25). جعل المؤرخ المصريّ أحمد تيمور (ت: 1930) هؤلاء مهندسي بغداد الأربعة ضمن كتابه (أعلام المهندسين في الإسلام) (طبع 1957).
قد يثار السؤال أو الاستفسار: لماذا أمر المنصور، أو أشير عليه، أن تكون مدينته مُدوَّرة الشّكل، والقصور عادة تكون مربعة، فيأتي الجواب مِن الخطيب البغدادي: (أنَّ أبا جعفر بنى المدينة مُدوَّرة، لأنَّ المُدوَّرة لها معان سوى المربعة، وذلك أنَّ المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض، والمُدوَّر من حيث قسم كان مستوياً، لا يزيد هذا على هذا ولا هذا على هذا)(26). هذا، ولكم النَّظر في ما عُرف بالطَّاولة المستديرة.
أمر أبو جعفر المنصور، مِن الكوفة، الحجاج بن أرطأة لخط المسجد الجامع، مثلما تقدم ذِكره، وصاحب المذهب أبا حنيفة النُّعمان (ت: 150هـ)، فعمل الأخير على عدِّ اللِّبن للبناء، وقصة ذلك (أنَّ المنصور أراد أبا حنيفة النُّعمان بن ثابت على القضاء، فامتنع مِن ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألاَّ يفعل، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللِّبن وعدَّه، وأخذ الرّجال بالعمل. قال: وإنَّما عمل المنصور ذلك ليخرج مِن يمينه، قال: وكان أبو حنيفة المتولّي لذلك، حتَّى فرغ مِن استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة)(27). كان أبو حنيفة يعد اللّبن بالقصب (على رجلٍ كان لبَّنه)، فكان أول مَن عدَّ بالقصب(28).
تكاليف البناء
تذكر السجلات التي كشف عنها عيسى بن أبي جعفر المنصور، أنَّ تكاليف بناء بغداد، وجامعها، وقصر الذَّهب، وتشييد الأسواق، والخنادق، والقباب، والأبواب (أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثلاثين درهماً)، أي مئة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرين ألف فلس، بلغة الأرقام اليوم تبلغ أربعة ملايين درهم، أو مئة مليون فلس، وكانت أجرة البنَّاء الواحد في اليوم قيراط من الفضة(29).
واجه أبو جعفر المنصور نقصاً في الخشب والسّاج المجلوب مِن الهند، فبعد أن هُيئت مواد البناء ومنها الخشب والسَّاج، نشبت الثورة ضده بالمدينة والبصرة، فترك البناء لمواجهة الثائرين، مثلما تقدم، وقد تضاربت الأخبار، فشاع خبر عن هزيمة الجيش العباسي، فقام مولى المنصور، الذي أوكله على بغداد بحرق الخشب والسّاج، كي لا يكون تحت يدي الثّائرين، وبهذا كان المنصور حريصاً على المال، حتَّى اُتهم بالبخل، وأخذ يُلقب بالدَّوانيقي، والدَّانق يمثل أصغر عملة آنذاك، قد يُقابله بلهجة العراقيين اليوم، عندما يصفون بخيلاً يقولون: (أبو فليس).
كان المنصور دقيقاً في الحسابات ومواجهة الفساد، الذي يحصل عادة في الصَّرف على مشروع مثل هذا، قال أحد الموكلين بالبناء: (لما فرغتُ مِن بناء ذلك الرُّبع، رفعت إليه (المنصور) جماعة النّفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي عليَّ خمسة عشر درهماً، فحبسني بها، في حبس الشَّرقيَّة أياماً، حتَّى أدَّيتها)(30).
خيال مبكر بالرَّادار
ذكر الخطيب البغدادي عن أحدهم، وهو يتحدث عن القبة الخضراء التي شيدت لأبي جعفر المنصور بمدينته المُدوَّرة: (قال: سمعتُ جماعة من شيوخنا يذكرون: أنَّ القبة الخضراء كان على رأسها صنم، على صورة فارس في يده رمح، فكان السُّلطان إذا رأى أنَّ ذلك الصَّنم قد استقبل بعض الجهات، ومدَّ الرّمح نحوها، علم أنَّ بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار، بأن خارجياً (متمرداً) قد نجم من تلك الجهة، أو كما قال)(31).
أما عن مصير القبة الخضراء، فيُفيدنا صاحب (تاريخ مدينة السَّلام) بالآتي: (أنبأنا إبراهيم بن مخلد القاضي، قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: سقط رأس القبة الخضراء، خضراء أبي جعفر المنصور، التي في قصره بمدينته يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمئة، وكان ليلتئذ مطرٌ عظيمٌ، ورعد هائل، وبرق شديد، وكانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى هذا الوقت، فكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة)(32).
خلاصة القول: دخلت في اختيار بغداد عاصمة حكايات وأوهام، مِن قِبل القصاصين، كاسم أبي جعفر المنصور (مقلاص)، وأنَّ الرُّهبان عندهم في كتبهم الدّينيَّة يبنيها شخص اسمه مقلاص، أو الدّوانيقي، لكن ما أدخله حمزة بن الحسن الأصفهاني على اسمها، وجعله صنماً أو بستاناً فارسيين، كان وهماً مقصوداً، كي تكون هذه المدينة داراً من حقّ الديلم الفرس، وهم البويهيون، واليوم يتجدد الوهم عليها، بسطوة جديدة، والتوطئة تكون باستبدال (البغ وداد) الفارسية ببغدادو البابلية.


1 - اليعقوبي، كتاب البلدان (مع كتاب الأعلاق النَّفيسة لابن رسته)، ليدن المحروسة: مطبعة بريل 1892، ص 233.
2 - التَّوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزّين. بيروت: دار الحياة للطباعة والنَّشر 2 ص 27.
3 - الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك، تحقيق: عبدأ علي مهنا، بيروت: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات 6 ص 540 - 541.
4 - النّفط: كان موجوداً ومستخدماً، كمادة محتقرة، آنذاك، يخرج مِن الأرض مِن تلقاء نفسه، ويجمع ويستخدم في الإضاءة والحروب، فهناك فرقة في الجيوش تسمى (النفاطين)، مهمتهم رمي العدو بمشاعل تشتعل بالنفط، وهناك عدد من المعدومين أحرقوا بالنّفط (انظر مقالنا: قانون نفط العراق يعقر الناقة، جريدة الاتحاد 24/4/2018).
5 - الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك 6 ص 542.
6 - مصطفى جواد، هاشمية الأنبار وهاشمية الكوفة، مجلة سومر (مجلة تبحث في آثار العِراق القديمة، صدرت ببغداد)، العدد الثامن، الجزء الثّاني 1952، ص 158.
7 - الرّاونديَّة: فرقة ناصرت العباسيين، وساهمت في ثورتهم، أتباع رجل اسمه عبدالله الرّاونديّ، ثأروا لأبي مسلم الخراساني، فخشي من بأسهم (مشكور، موسوعة الفرق الإسلاميَّة، ترجمة: علي هاشم، بيروت: مجمع البحوث الإسلاميَّة 1995، ص 252).
8 - الطّبري 6 ص 539.
9 - المصدر نفسه 6 ص 543.
10 - ابن رسته، الأعلاق النَّفيسة ويليه كتاب البلدان لليعقوبي، مدينة ليدن المحروسة: مطبعة بريل 1892، ص 108.
11 - الأعظميّ، مختصر تاريخ بغداد، بغداد: المكتبة العربية، طُبع على نفقة نُعمان الأعظميّ الكُتبي 1926 ص 3.
12 - أًصول أسماء الأمكنة العِراقيَّة، مجلة سومر (مجلة تبحث في آثار العِراق القديَّمة تصدر ببغداد)، العدد الثَّامن 1952، الجزء الأول، ص 256 - 257.
13 - المرجع نفسه.
14 - المرجع نفسه.
15 - البغداديّ، تاريخ مدينة السَّلام، تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت: دار الغرب الإسلاميّ 2002 الجزء 1 ص 364.
16 - الحمويّ، معجم البلدان، بيروت: دار صادر 1995 الجزء 1 ص 456.
17 - ابن الفقيه، كتاب البلدان، بيروت: عالم الكُتب 1996 ص 278.
18 - الحموي، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء)، تحقيق: إحسان عباس، تونس: دار الغرب الإسلاميّ 3 ص 1220.
19 - البيرونيّ، الآثار الباقيَّة عن القرون الخاليَّة، لايبزك 1923 ص 52.
20 - انظر مثلاً مقال الكاتب الفارسي أمير طاهريّ (العراق وطهران.. أوهام)، الشَّرق الأوسط، المؤرخ 9/6/2023، وردنا عليه على صفحات الجريدة نفسها في المؤرخ 13/6/2023.
21 - البغداديّ 1 ص 375.
22 - اليعقوبيّ، ص 238.
23 - المصدر نفسه.
24 - اليعقوبي، ص 241.
25 - الطَّبريّ 6 ص 573.
26 - البغداديّ 1 ص 382.
27 - الطّبري 6 ص 543.
28 - المصدر نفسه.
29 - المصدر نفسه 6 ص 576.
30 - المصدر نفسه 6 ص 573.
31 - البغدادي 1 ص 383.
32 - المصدر نفسه.

ذو صلة