مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

المجلة العربية شرف الكلم وأناقة القلم

أعتبر نفسي من المحظوظين ثقافياً عندما أتيح لي في سن مبكرة، وكنت وقتها طالباً في المرحلة الإعدادية، أن أشهد ميلاد أول أعداد المجلة العربية، وما أن وقعت عيناي عليها معلقة في أحد جوانب مكتبات الطائف التجارية بغلاف يحمل صورة الملك فيصل -يرحمه الله- وكنا والعالم مازلنا وقتها أسرى صدمة استشهاده ورحيله المفاجئ عن دنيانا، وتحت تلك الصورة كتب اسم المجلة العربية بخط أبيض عريض وعلى أرضية ذهبية اللون وتحتها وعلى أرضية سوداء وبخط ذهبي كتب (مجلة شهرية ثقافية مصورة العدد الافتتاحي جمادى الآخرة رجب 1395هـ - حزيران يونيو 1975م) فقادني فضولي وولعي منذ الصغر بحب القراءة واقتناء الكتب والمجلات للدخول لتلك المكتبة، ووجدت يدي لا شعورياً تلقفتها وانهمكت في تصفحها غير مكترث بتلك العبارة التي يضعها دائما أصحاب المكتبات بجوار ركن الصحف والمجلات بالتحذير من القراءة المجانية، وطلب عدم التصفح إلا بعد الشراء، ولكوني وقتها طالباً ولا أملك قيمتها المحددة آنذاك بـ(5) ريالات إلا أنني أصبحت حريصاً على تصفحها شهرياً وبأسلوب تطفلي عن طريق امتصاص غضب صاحب المكتبة بشراء إحدى الصحف التي لم تكن تتجاوز قيمتها (8) قروش أدخرها من مصروفي المدرسي اليومي طوال شهر لأحظى بمثل هذه الدقائق الممتعة، ولم يكن ذلك الإجراء العاجل يغنيني ويشبع الرغبة الجامحة لدي في اقتناء أعدادها والعودة لتصفحها وقتما أرغب وأشاء، ولكن صبري لم يطل لأجد الحظ يسعفني مرة أخرى بعد عدة شهور فأجد أعدادها متوفرة في مكتبة (السيد علي قحوان) بباب الحزم بالطائف التي كانت تتعامل مع الكتب والمجلات المستعملة وتباع لديها بأسعار زهيدة جداً، أو في أطراف حراج الشروق ومداخل أسواق الطائف، ولتنظم سلسلتها لدي منذ ذلك الوقت وأجد نفسي أسيراً لها وأقبل عليها شهرياً بلهفة وشوق كما نستقبل عزيزاً طال علينا فراقه.
وأعود للقول إنني منذ أن وقع عدد المجلة العربية الأول بين يدي حتى هالني حجمها الضخم قياساً بالمجــلات الأخرى، ثــــــم مستـــوى إخراجها وطباعتها وورقها الفاخر، ومواضيعها القيمة والمتنوعة، وكوكبة الأدباء والمفكرين العرب الذيــــن يطــــرزون صفحاتها حتى حسبتها لأول وهلة تصدر من إحدى الدول العربية الشقيقة إلا أنني عندما قرأت تلك العبارة التي تحملها في ترويستها الداخلية (مكتب المجلة الرئيس مؤقتاً في بناية وزارة المعارف الرياض) فأيقنت حينها أنها وليدة هذه الأرض وأنها غرسة يانعة من غراس بلادي المضيئة ورسالة مشرقة لأبناء الضاد.
ولفت انتباهي أيضاً في هذا العدد ما ضمه من معلومات قيمة عن حياة الشهيد الملك فيصل بن عبدالعزيز وبرنامجه اليومي، ومعلومات مفصلة عن الأسرة المالكة، وعن المملكة والحدث الفاجع باستشهاد جلالة الملك فيصل وانتقال الحكم لجلالة الملك خالد -يرحمه الله- والسير الذاتية لأعضاء الحكومة السعودية الجديدة.
ومنذ انطلاق أعدادها الأولى وحتى عددها الذي بين أيدينا بدت المجلة العربية بين وصيفاتها لا يشبهها شيء، وحملت بين صفحاتها الرصين والثمين من العلوم والفنون والبحوث والدراسات والشعر والقصص والآداب الشرقية والغربية، والحوارات واللقاءات وجديد الكتب والكشوفات، والسوانح والبوارح والذكريات، والاستطلاعات المصورة بالألوان، وأخبار الحركة الأدبية والثقافية، والسير والتراجم، وأخبار الطب، وفتحت ذراعيها للأدباء والكتاب الناشئين، إضافة لتلك الهدية القيمة المتمثلة في كتابها الشهري الذي أضاف المزيد من الثقافة المتخصصة في حقول الفكر والمعرفة والتراث الإنساني وكل ما ينفع القارئ ويثري فكره ووجدانه.
ونحن إذ نحتفل اليوم ببلوغ المجلة العربية عامها الخمسين واستمرارها في العطاء بزخم وعزم فإننا نحيي فيها وطوال هذه المسيرة أنها عاشت بعز وشرف وروح عالية وثابة، وثبات على المبادئ والمثل القويمة، وبلغة عفيفة بالغة التهذيب، والتزمت أمانة ومسؤولية الكلمة، ولم تكن ناقلة أو مصورة وإنما كانت تعتمد الخلق والإبداع والتجديد، واستطاعت أن تخلق لنفسها مساراً مميزاً انفتحت فيه على الفكر بكل أبعاده، وسايرت متطلبات الزمن الذي تلاقت فيه الحضارات وتمازجت فيه الأفكار، وحرصت على التوازن التام ما بين الأصالة والمعاصرة في تناغم فريد، ومثلت جسراً وارفاً من المعرفة الواعية والتلاقي على رفعة الكلمة والمحبة والوئام.
وكما أتاحت المجلة العربية لقرائها المتعة الذهنية في القراءة وما جادت به أقلام كتابها وقرائح شعرائها ومفكريها من أفكار وموضوعات، فقد حلت جيدها أيضاً بالصور الفنية وجسدت للعين متعة جمالية أخرى من خلال خطوطها ولوحاتها ورسومها وألوانها وإخراجها الجذاب المتميز.
ومثل هذه المجلة التي بقيت مستأثرة بهيبتها ومنزلتها بين وصيفاتها من المجلات الأخرى، وباتت وجهاً عربياً واضح المعالم والقسمات، لم تولد لتموت بل لتبقى وتظل سفيرة للثقافة العربية على مطالع الشرق والغرب، ومنبراً فكرياً وروحياً عذباً للأجيال، وإطلالة صادقة على نهضة الفكر العربي المعاصر، ولكل من يقدر ويعي مسؤولية الحرف والكلمة، ولتكون شاهدة بالعطاء والتفوق لمن قاموا عليها وعضدوها بحسن إدارتهم وحكمتهم وإبداعاتهم، ولهم جميعاً من السابقين واللاحقين أقدم بطاقة شكر ووفاء وتقدير مقرونة بأطيب التهاني بهذه المناسبة، متمنياً لهم ولمجلتنا العربية كل خير وفلاح وتوفيق ونجاح وخمسين عاماً أخرى قادمة بمشيئة الله من التألق والإبداع.

ذو صلة