مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

إتيان دينيه.. من الولع بأجساد النساء إلى كفاح الإنسان الشرقي

لا نستطيع إنكار أن الفنان الفرنسي (الفونس إتيان دينيه 1861 - 1929) أو الحاج ناصر الدين دينيه هو فنان استثنائي بكل المقاييس، رفض أن يكون فناناً استشراقياً كباقي المستشرقين يكتفي بالسفر للشرق ليعود بمجموعة من لوحات تخلد الحياة الشرقية، بل تحول هو نفسه لجزء من هذه الحياة.
ولد دينيه في عائلة فرنسية برجوازية عام 1861 لأب يعمل بالقانون وبناء على مهنة والده فهو ينتمي لطبقة النبلاء، نشأ في بلدة ذات طبيعة خلابة تسمى (ايرسي) في قصر رائع على ضفاف نهر السين، ومنذ صغره كان يميل نحو العزلة فلا صحبة له سوى فرشاته وألوانه لممارسة الرسم، وضع منذ سن العاشرة في مدرسة هنري الرابع الداخلية في باريس، كان متميزاً في التاريخ والجغرافيا عنه في الرياضيات والعلوم، وميله نحو الرسم جعله يحصد كل جوائز الرسم، وفي الوقت الذي رفض فيه والده أن يمارس ابنه الرسم لأنه نبيل ولا يجوز له أن يمتهن هذه المهنة كانت أمه المحبة للفنون تشجعه وفي الأخير استسلم الأب ووافق لالتحاق ابنه بكلية الفنون الجميلة.
تتلمذ تحت يد الفنان فكتور غالون لكنه لم يبق طويلاً هناك فتركها وذهب للالتحاق بعدها لأكاديمية جوليان وهي واحدة من أكبر أكاديميات الفنون في العالم، تتلمذ هناك تحت يد الفنان الفرنسي الشهير (البوغرو) ولكنه لم يكن يميل لنوع الفن الأكاديمي الذي يتبعه أستاذه، كان ميله للطبيعة وصخب الحياة والعالم الحقيقي أكثر بكثير، بدأ مشواره الفني عام 1880 أي بعد أعوام قليلة من ظهور الانطباعية وإنجازاتها المهمة في عروضها الأولى وبذلك يكون دينيه عاصر عهداً نمت فيه أهم إبداعات التشكيل.
 في هذه الفترة الزمنية كان الاستيطان الفرنسي في الجزائر وكانت فرنسا تشجع على رحلات سياحية واستكشافية لهناك، وكانت مدينة بوسعادة وهي بالفعل مدينة السعادة التي تقع على بعد 250 كيلو متر من جنوب الجزائر على سفح جبل كردادة وادي بوسعادة وهي مدينة قديمة جداً وتمتاز بجمال خاص ومن أكثر المناطق جذباً للسياح، وهي المدينة التي وقع دينيه في عشقها وارتبط بها بقصة حب أبدية لن تنتهي فصولها حتى بموته. كانت المصادفة وحدها وراء زيارة الفنان لهذه المدينة، فكان لدى دينيه صديق يسمى سيمون له أخ مختص في علم الحشرات وكان يجهز نفسه للذهاب لبوسعادة للبحث عن حشرة (خنفساء نادرة) فطلب من أخيه مرافقته فاشترط الأخ أن يصطحب معه صديقه دينيه، وفي سياق هذه الرحلات الاستكشافية للجزائر جاءت هذه الرحلة وهناك اكتشف دينيه الصحراء والعالم النقي الجميل البعيد كل البعد عن عالمه، كانت بالنسبة له عالماً جديداً للرسم لم يكتشف بعد ولكن هذا الشاب الأوروبي المسيحي الغريب كان بحاجة ضرورية لمفتاح لهذا العالم الصحراوي المحافظ الغريب عن عالمه ولم يكن المفتاح سوى (سليمان بن إبراهيم) الذي أصبح فيما بعد صديق عمره، كان سليمان شخصاً مميزاً ومختلفاً عن أقرانه لأنه كان يمتهن مهنة لم يعتادوها أو يعرفوها فكان يعمل مرشداً سياحياً ودليلاً للأجانب، بالإضافة أنه كان يتقن اللغة الفرنسية جيداً وقد فتح سليمان الطريق لدينيه للتعرف على المجتمع الجديد عليه فمن خلاله اكتشف المجتمع البدوي الساحر والجذاب، وبفضله كان دينيه في غضون سنوات قليلة يتحدث العربية بطلاقة كبيرة وتعرف أكثر على الثقافة الإسلامية.
 شكلت بوسعادة مصدر إلهام لريشة دينيه وأصبح ملاذ السكان البسطاء لدى المستعمر الفرنسي للدفاع عنهم والتوسط لمظالمهم واعتبرته السلطات الفرنسية شخصاً مزعجاً لأنه كان مناضلاً معروفاً في كل النزاعات التي كانت تتعلق بحقوق الأهالي وبفضل تداخلاته رفع عنها الحكم العسكري لتصبح مدينة ذات حكم مزدوج مدني وعسكري، وقرر دينيه الاستقرار بشكل نهائي في بوسعادة وشراء بيت في الحى العربي وفي بيت متواضع جدرانه من الجص الأبيض قضى دينيه مع صديقه سليمان بقية عمره بعد سنوات قليلة قرر اعتناق الإسلام عن اقتناع وثقة وقد أخذ بعض الوقت قبل أن يعلن إسلامه وبدل اسمه ليصبح (ناصر الدين دينيه) وصلت أصداء الخبر إلى فرنسا وزلزل دوائر الفنانين والمستشرقين، اعتبره البعض خائناً لفرنسا واعتبره آخرون عاراً على جوقة الشرف التي حاز عليها سابقاً وتحاشى الجميع شراء لوحاته وتوقفت الجوائز التي كان يحصل عليها وأقصي من جميع المعارض التي كان يعيش من ربحها، وأمام هذه الحملة الشرسة زاد إصراره وجنّد قلمه وريشته لإظهار الحياة الدينية والاجتماعية للمسلمين وألف مجموعة من الكتب أغلبها كانت قصصاً من التراث وكتباً عن حياة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكتب قصة عنترة وربيع القلوب، وهي عبارة عن مجموعة قصص شعبية مستوحاة من حياة البدو وكان له الفضل على تصويت البرلمان الفرنسي بإنشاء مسجد في باريس تكريماً للجنود المسلمين الذين سقطوا من أجل فرنسا وساهم بخبرته الفنية في تصميم المسجد وزخارفه.
 وأعمال دينيه التشكيلية تجمعها ميزة واحدة (الدفء) دفء شمس الصحراء- دفء ألوان ملابس البوسعاديين -دفء العلاقات الأسرية- ومن شدة حبه للصحراء كانت لوحاته توحي بأنه يستعمل الرمال نفسها في تشكيل الألوان ويعود له الفضل لنقل الفن الاستشراقي المولع بأجساد الحريم والنساء إلى كفاح الإنسان الشرقي ومعاناته اليومية، التفاصيل في رسومه كانت غزيرة ودقيقة فمثلاً في لوحة «الفتاتان الراقصتان» نرى في خلفية الصورة رجلاً بطربوش أحمر، وفي لوحة جمع المشمش يتهافت الأطفال لجمع حبات المشمش عدا طفل استغل انشغال الأطفال وتسلق هو الشجرة للحصول على عدد أكبر منها، كذلك اهتم بأدق تفاصيل الملابس والحلى وأشكال الوشم المختلفة على أجساد البدو من الرجال والنساء ولوحاته بمثابة توثيق لعادات وتقاليد وطقوس أهالي هذه المدينة.
 لم يختلف دينيه عن فناني الربع الأخير من القرن التاسع عشر في التحين للحظة المناسبة لرسمها، لذلك من السهل استنتاج أن هذه الأعمال مرسومة لشخصيات حقيقية ومنه فإن هذه اللوحات رسمت في ورشته ربما من خلال اسكتش لما قد شاهده يوماً ومن خلال صور كان قد التقطها بنفسه، وفي مجمل أعماله وجدنا أنه لم ينطلق يوماً من نمط محدد، ويعود ذلك إلى تكوينه الكلاسيكي، لقد تابع نفس مسار الذين سبقوه ولكنه طوره بشكل سريع بوضع لمسة خاصة به بألوان نابضة بطريقة مغايرة لأي فنان آخر حيث إن طريقته الخاصة أعادت ذلك البريق للألوان تحت إضاءة خاصة. اعتبر النقاد أن أعمال دينيه متفردة، فمن ناحية نجده صور عالماً مسروراً لأطفال يلعبون بحجارة، لشيوخ يلعبون مع صغار، لعائلة تلتف حول بعضها في دفء حميم، ومن ناحية أخرى هو الأرقى بين الفنانين الاستشراقيين لأنه فهم العرب بطريقة مغايرة ومختلفة ويعد أفضل مترجم ومعبر لهذا العالم.
في عام 1929 ذهب للحج وخلّد رحلته الروحية في لوحة سماها الانطلاق إلى مكة المكرمة، أرهقته الرحلة وأتعبت جسده الستيني الضعيف وسافر إلى باريس للعلاج وفارق الحياة هناك ونقل جثمانه ليدفن في بوسعادة بناء على وصيته، وخرج في وداعه الجميع وحضر علماء ورجال الدولة والحاكم العام الفرنسي، كما حضرت أخته جان ورفيق دربه سليمان الذي سيجاوره في الموت فيما بعد كما جاوره في الحياة. وزعت لوحاته في المعارض العالمية وبيعت في العشرين سنة الأخيرة أكثر من 200 لوحة له، لوحته شهيد العشق بيعت بـ200 مليون يورو وبيعت أيضاً لوحته (معركة حول فلس) وهي لوحة صغيرة الحجم بمليون يورو، وأقامت له وزارة الثقافة متحفاً باسمه في مدينة بوسعادة.

ذو صلة