مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الموسيقى اليهودية في المغرب

مصطلح الموسيقى اليهودية، يظل مصطلحاً واسعاً في تعريفه، فهل الموسيقى اليهودية هي الموسيقى التي ألفها موسيقيون يهود؟ هل هي موسيقى دينية؟ أو هل هي مدرسة موسيقية مغاربية؟ يقول محمد الحداوي، الباحث المغربي في الموسيقى اليهودية: الغناء اليهودي هو الغناء الذي غناه مطربون يهود، لكن اليهود لم يركزوا على لون موسيقي واحد، وإنما غنوا كل أنواع الغناء المغاربي، كالموسيقى الأندلسية، والغناء الشعبي، والغناء العصري، وبخاصة الموسيقى الغرناطية.
الموسيقى والأغنية الأندلسية في المجتمع اليهودي
يضفي الغناء والموسيقى على الأثر الشعري بعداً ودلالة تتجاوزان مضمونه، ويمنحانه نغماً يضاف إلى أنغامه المكونة الطبيعية. والغناء والموسيقي هما المظهران الرئيسان للشعر. ويمكن القول إن الغناء هو المناسبة الممتازة التي تمكن اتحاد العبقرية الشعرية اتحاداً وثيقاً مع العبقرية الموسيقية.
لقد اعتمدنا في بحثنا حول مساهمة يهود المغرب في الإشعاع والمحافظة على التقاليد الموسيقية الأندلسية، على تحليل الأنطولوجيات الشعرية المغربية بالدرجة الأولى، سواء المطبوعة أو المخطوطة، منها تلك التي استخدمتها الجمعيات وجمعية (حراس الفجر) خلال الأمسيات السبتية المسماة بـ(البَاقَشُوتْ) (الابتهالات). كما اعتمدنا أيضاً مصادر أخرى لم تكن مهتمة بكيفية مباشرة بالموضوع. ولكنها جميعها تستخدم رموزاً وأوزانا لـ(نُعاَمْ) و(لَحْن) (قطع غنائية مقتبسة من منظومات قديمة أو معاصرة) ومقامات (مقام وطبع ونوبة). وكانت هذه النماذج كلها تستعمل، ماعدا استثناءات قليلة؛ اللغة العربية والاصطلاحات الموسيقية العربية، للموسيقى والغناء الأندلسيين، مما يشهد على معرفة كاملة بـ(الفن الموسيقي الأندلسي) (الآلة) نظرياً وتطبيقياً. وكان يتم اكتساب هذه المعرفة، في أغلب الأحيان شفاهياً. مما يدل كذلك على اضطلاع كبير بمضمون المجموعات الغنائية كـ(الحايك) الذي ما زال يمثل قبلة ومرجعاً وكتاباً مفضلاً للموسيقي المغربي البارع والهاوي والمحترف. إلا إن معرفة المغني اليهودي تتجاوز إطار (الحايك)، ويقتبس أنواعاً وأنماطاً موروثة من تقاليد أكثر قدماً، تعرف بـ(طريق قديم) تلك التي ترجع إما إلى ألحان أندلسية مهملة، في جهات أخرى، وستصبح شائعة ومنتشرة في الملاح والبيع. وإما إلى قطع موسيقية من أصل فلسطيني قديم، وستصبح شائعة ومنتشرة في الملاح والبيع، وإما إلى قطع موسيقية من أصل فلسطيني قديم، أو وردت حديثاً من الشرق مع الأحبار المبعوثين جامعي الأموال، هؤلاء الذين ينقلون الثقافة والعلم اليهودي من بين أولئك الذين كانوا يزورون بانتظام الطوائف البعيدة في الشتات.
لقد احتفظ السكان المسلمون واليهود، في المغرب الكبير بشغف، وخصوصاً في المغرب الأقصى، بذكريات الموسيقى الأندلسية العربية التي هاجرت معهم من المدن الأندلسية عندما اضطروا إلى مغادرتها، وكان هؤلاء وأولئك يتذوقون هذه الموسيقى ويعشقونها بولع وشغف، يصل بهم أحياناً إلى درجة الإجلال. وكان اليهود في الأندلس كما في المغرب، من الحفظة المتحمسين للموسيقى الأندلسية، والحراس الغيورين على تقاليدها العتيقة. وفي كثير من الأحيان، كانت هذه الموسيقى تجد عندهم الملجأ الأمين، كلما تعرضت للمنع، وكلما ارتأى سلطان أن يطبق حرفياً حدود العقيدة الإسلامية وقوانينها المحرمة لها. وكذا كلما رغب أحد السلاطين في أن يجدد العهد مع الموسيقى، وأن يفصم عراه مع التقاليد المانعة لها؛ فإنه كان يجد ضالته في الملاح فيكون جوقة القصر (ستارة) يرفعون صوت الموسيقى بعد صمت طويل. واصل اليهود المغاربة الحفاظ على التقاليد الموسيقية الأندلسية بطريقتين: أولاً: كان المسمعون يطربون ويغنون (نوبات) وأغاني شعبية خاصة بهم في الأعراس والحفلات العائلية المتنوعة، دون أن يغيروا من النصوص الشعرية. كما كانوا يغنون الموشحات والأزجال الأصلية بالعربية الفصحى واللهجة الأندلسية. ثانياً: كيّف اليهود المغاربة بالمغرب، مثلهم في ذلك مثل إخوانهم في الطوائف الأخرى في المغرب العربي والشرق؛ الموسيقى الأندلسية لتلائم (البيوطيم) والشعر العربي والشعائري أو الشعر الخاص بإحياء أعز المناسبات في الحياة العائلية.
تأثير الموسيقى اليهودية المغاربية
على ألوان موسيقية أخرى
وهناك مهرجان خاص بالغناء الذي اختص فيه اليهود، ففي مدينة الصويرة الساحلية المغربية، حيث ما يزال يعيش عدد من اليهود المغاربة، يقام سنوياً مهرجان للموسيقى الأندلسية، تنظمه جمعية يترأسها مستشار ملك المغرب أندري أزولاي، وهو مغربي يهودي الديانة. يقول أزولاي في حديث سابق مع دويتشه فيله: (مهرجان الموسيقى الأندلسية هو تظاهرة يشترك فيها اليهود والمسلمون في غناء لون موسيقي، يسمى (المطروز)، وهو نوع من الموسيقى الغرناطية).
ولا يقتصر حضور الغناء اليهودي المغاربي في الدول التي أنتجت هذا الغناء، بل إن بلداً كفرنسا يحتضن حفلات للموسيقى الغرناطية اليهودية، نظراً لوجود جالية يهودية مغاربية هناك. كما أن فرنسا هي بلد اختاره العديد من نجوم العصر الذهبي للغناء اليهودي كمحل إقامة دائم. وقد استطاعت الموسيقى اليهودية أن تُدخِل أنغامها وخصائصها على الأغنية الفرنسية، في شخص نجم الأغنية الفرنسية إنريكو ماسياس، وهو المطرب الفرنسي اليهودي، ذو الأصول الجزائرية، والذي تتلمذ في بداية حياته على يد واحد من أهم المطربين اليهود في الجزائر، وهو الشيخ ريمون. وقد قام ماسياس بوضع كلمات أغانيه الفرنسية على ألحان بعض الأغاني اليهودية. وهي أغانٍ حققت نجاحاً كبيراً وأعطت نفساً جديداً للأغنية الفرنسية.
زهرة الفاسية أول فنانة قدمت أسطوانة غنائية بالمغرب
زهرة الفاسية، لقب فني اشتهرت به مطربة يهودية مغربية الأصل، ولدت بفاس عام 1905 ونشأت في أوساط فنية هيأت لها أن تصبح مغنية واسعة الشهرة، تستقدم لإحياء الحفلات العائلية، وبخاصة في فترة ما بين العشرينات والأربعينات، وقد تجاوزت شهرتها الأوساط الفنية في فاس بعدما انتقلت إلى الجزائر، حيث تبنت الفن الجزائري المعروف بالشعبي، ولحنت على نسقه أغاني كثيرة.
تتميز زهرة الفاسية من بين المطربات اليهوديات في المغرب برقة صوتها وامتداد مواويلها، كما تتميز بكونها أول فنانة كانت تجمع بين القدرة على النظم والتلحين والغناء، واستطاعت بفضل جوقها الخاص الذي شكلته من عناصر مسلمة ويهودية أن تسجل مجموعة من الأغاني الخفيفة التي تتوزعها موضوعات عاطفية ووطنية، ومن بينها أغنيتان شعبيتان: (ها هي جات) و(ياللي فيك الدموع ابكي امعيا)، سجلتا في شريط ضم أيضاً أغاني لمطربين يهود من معاصريها، هم: إبراهيم الصوبري، ولطيفة، وليلى الشرقية، وألبيرسوسان.
ومن بين أغانيها الأخرى، أغنية يا بلادي وأغنية ياناس ياناس. رحلت زهرة الفاسية إلى إسرائيل عام 1960، ومنذئذ توقفت إذاعة أغانيها بالإذاعات الوطنية والجهوية. وقد انتهى بها المطاف إلى الإقامة في إحدى مؤسسات العجزة، وقبل أن يدركها أجلها يوم 23 يونيو 1995 كانت قد أعربت عن أملها في العودة إلى المغرب بلدها الأصلي لتقديم أغنية جديدة تمجد فيها المغرب وقائده.
تكريم زهرة الفاسية
طبعت وزارة الثقافة المغربية، أسطوانة خاصة بالفنانة زهرة الفاسية ضمن أنطولوجيا الموسيقى المغربية في الجزء الخاص بالمغنين اليهود المغاربة. والأسطوانة تتضمن ثماني أغان هي: (حبيبي ديالي فين هو)، (يا محلى وصولكم)، (حبك تلفني على شغالي)، (يا وردة)، (الغربة)، (زاد علي الغرام)، (شعلت النار)، (سعدي ريت البارح).
وجرى تكريم أيقونة الطرب اليهودي المغربي، بمتحف التراث اليهودي المغربي في مارس 2022، وتم خلال هذا الحفل، المنظم من قبل جمعية (نغم)، بشراكة مع مؤسسة (التراث الثقافي اليهودي المغربي)، تقديم ورقة تعريفية بمسار الفنانة الراحلة زهرة الفاسية، التي بصمت، ولا تزال، عن حضور قوي في الساحة الفنية المغربية، من خلال أغانٍ خالدة على رأسها (سيدي حبيبي) و(مزينو نهار اليوم).
مهرجان الأندلسيات الأطلسية أو التعايش عبر الموسيقى اليهودية
شهدت مدينة الصويرة جنوب المغرب، خلال الفترة من 27 إلى 29 أكتوبر 2022، دورة جديدة من مهرجان الأندلسيات الأطلسية، وذلك بعد توقف لمدة ثلاث سنوات، فرضته جائحة (كوفيد-19). وذكر بلاغ لجمعية (الصويرة - موكادور)، التي تنظم هذه التظاهرة، أن (170 فناناً جاؤوا للتعبير من القلب عن المشاعر والفرح، التي يشعر بها الآلاف من عشاق الموسيقى، الذين يستعدون للالتحاق بالصويرة لربط الصلة مجدداً مع المهرجان، من خلال 14 حفلاً موسيقياً وبرنامج متنوع). ويشير المنظمون إلى كون هذا المهرجان استثناء للمغرب والمدرسة المغربية التي تجسدها التظاهرة الموسيقية من خلال (أسلوب صويري)، يجعل منها (موعداً فريداً من نوعه في العالم، حيث يختار مئات من المسلمين واليهود، ليس فقط الالتقاء من أجل فرحة الحضور معاً، والغناء معاً، بل الاستماع والنقاش معاً، واهتمام كل منهم بالآخر).
يُذكَر أنّ أصول انتشار الغناء اليهودي في المغرب، وباقي بلدان الشمال الأفريقي، كالجزائر وتونس؛ تعود جذورها إلى حملات التهجير التي تعرّض لها اليهود والمسلمون من أرض الأندلس، بعد سقوط الحكم الإسلامي هناك. فأقامت جالية من اليهود الأندلسيين في المغرب، حاملة معها فنون التأليف والغناء الموسيقي.

ذو صلة