شهد القرن الماضي تغيراً ملحوظاً في طريقة التفكير حول كيفية الحصول على الغذاء والمنتجات الزراعية في بعض المدن. في العصور القديمة، وبشكل أساسي خلال الفترات التي سبقت الثورة الصناعية، كانت أشكال الزراعة الحضرية أوسع انتشاراً وأكثر حضوراً بل وشبه ضرورية في المدن، الكبيرة منها والصغيرة، وكان يتم عكس هذا الواقع المزدهر للزراعة الحضرية في الأسواق المحلية الدورية والدائمة ضمن المدينة.
مع مرور الوقت، وارتفاع أسعار الأراضي والعقارات، وتحول المجتمع بشكل كبير نحو الصناعة، وتدفق الملايين نحو المدن، ناهيك عن تطبيق سياسات النظافة العامة ضمن المدينة، وضرورة تحقيق الأمن الغذائي في بيئة عالمية متحضرة ومستدامة، كل هذه الظروف دفعت النشاطات الزراعية للتحول تدريجياً إلى خارج أسوار المدينة، لتستقر حصراً في الأرياف، الأمر الذي أدى إلى زيادة التباعد بين المدينة وغذائها، وشمل هذا التباعد العديد من الأشكال الجغرافية والاقتصادية والمعرفية والسياسية في آن واحد.
بعد مرور عشرات السنين، وبخاصة في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، ازدادت الرغبة للعودة إلى الماضي، وظهرت الحاجة لتطوير المفاهيم التي لطالما اتبعتها البشرية خلال سنوات طويلة خلت لتعزيز العلاقة بين المُنتِج والمستهلك وتحقيق الأمن الغذائي، من خلال الاستفادة من التجارب السابقة في مجال الزراعة الحضرية، ولكن باستخدام تقنيات أكثر حداثة، تكون ملائمة للواقع الحالي، بالنسبة للإنسان والمدينة والطبيعة على حد سواء.
اليوم، وبعد مرور ثلاثة أعوام تقريباً على بداية الجائحة وبسبب صعوبة الوصول إلى بعض المحاصيل والمنتجات الزراعية الضرورية، خصوصاً في أوقات العزل والإغلاق الشامل الذي شهدته أغلب دول العالم تقريباً، ناهيك عن حالة العزلة والملل بعد قضاء أوقات طويلة جداً بين جدران البيوت، والتي استمر بعضها لأشهر متواصلة، وعاد بعضها الآخر ليتكرر مجدداً كما هو الحال اليوم في بعض مناطق الصين، ازدادت الحاجة للعودة إلى الماضي وضرورة أن يكون لدى الناس محاصيلهم ومساحاتهم الزراعية الخاصة، للاستفادة منها سواء للحصول على الطعام أم لقضاء أوقات أكثر متعة وانشغالاً حتى ضمن المنزل.
غذاؤك في بيتك
قد يتصور البعض أن موضوع نمو الطلب والرغبة بتطبيق الزراعة الحضرية ضمن المدن هو نوع من النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي، وقد يبدو للبعض الآخر وسيلة للتسلية وربما لملء أوقات الفراغ خصوصاً بالنسبة للأشخاص المتقاعدين أو المتقدمين في العمر، ولكن الواقع أن هذا الموضوع لم يعد كذلك اليوم، بل أصبح وسيلة حقيقية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج واستهلاك بعض المحاصيل الزراعية الضرورية للغذاء، بل ووسيلة لتوفير النفقات وتوليد الدخل وتحسين الوضع الاقتصادي والمساهمة في تحقيق الأمن الغذائي بالنسبة للبعض الآخر.
في كل الأحوال، مهما اختلفت الأسباب والمبررات، فهنالك الكثير من الفوائد التي يمكن تحقيقها من خلال الاعتماد على الزراعة الحضرية. وأولى هذه الفوائد الحد من الانبعاثات السلبية في الجو، وهذا الأمر أصبح ضرورة حتمية اليوم نظراً لمشاكل التلوث ومخاطر وتأثير الانبعاثات السلبية في تغير المناخ وتبدلات الطقس. ويؤكد الخبراء على أن الزراعة الحضرية توفر الظل، وتمتص ثاني أوكسيد الكربون والملوثات، فوجود سطح مزروع مساحته 6 أمتار مربعة يمكن أن يزيل التلوث الذي تسببه سيارة عادية على مدار عام كامل.
كما أن الزراعة الحضرية تساعد في إنتاج المحاصيل العضوية وتأمين غذاء صحي للمستثمر والوسط المحيط به، علماً أن العلاقة الوطيدة التي قد تربط المزارع بالمستهلك في هذه الحالة تساعد على الشعور بالثقة وتحد من عملية الغش أو استخدام مواد وأسمدة ومبيدات حشرية ضارة. ولا يمكن التغافل أيضاً عن القيمة الكبيرة التي تقدمها الزراعة الحضرية على الصحة النفسية وتخفيف التوتر، إذ يتم الاعتماد على الزراعة الحضرية والبستنة غالباً كممارسات علاجية في المشافي ومراكز إعادة التأهيل ومؤسسات الطب النفسي نظراً لدورها في تخفيف التوتر وتهدئة الأعصاب.
ولعل من أهم المزايا التي تحققها الزراعة الحضرية هي الفوائد الاقتصادية، فالزراعة الحضرية تختصر عملية الإنتاج والاستهلاك بشخص واحد، مما يؤدي إلى اختصار نفقات ومصاريف كبيرة تتعلق بالنقل والشحن والتخزين وهامش الربح التجاري الذي يضيفه المُنتِج. كما أن المُنتِج يطرح في هذه الحالة محاصيل زراعية يمكن أن تتجاوز خدمة الاستهلاك الشخصي ليتم بيعها وطرحها في السوق بقيمة تجارية مربحة، وقد يمكن بيعها لأشخاص ومستهلكين آخرين مما يساهم في توليد الدخل.
بكل الأحوال، لا يجب المبالغة في تصور مقدار التوفير الذي يمكن أن تحققه الزراعة الحضرية، فهذا الأمر يتعلق غالباً بحجم المشروع والمساحة المزروعة ونوع المحاصيل التي يتم زراعتها، وهي في أحسن الأحوال يمكن أن توفر الغذاء للمُنتِج وعدد محدود جداً من المستهلكين الآخرين. ولكن هذا الأمر يختلف تماماً عند استخدام التقنيات الحديثة التي أصبحت أكثر انتشاراً اليوم، والتي تدمج بطريقة عملية ومربحة بين تقنيات الزراعة الحضرية الحديثة والهندسة المعمارية، وتعرف باسم المزارع العمودية.
بين هندسة العمارة وتقنيات الزراعة
لا شك أن إنتاج كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية باستخدام الزراعة الحضرية تحتاج إلى تقنيات زراعية حديثة مثل الزراعة المائية (الحد من استخدام التربة)، أو الزراعة الهوائية (استخدام بيئة هوائية رطبة عوضاً عن التربة)، أو الزراعة المائية السمكية (الاعتماد على مخلفات الأسماك كوسيلة لتغذية النباتات)، وهذا الأمر يقودنا بشكل مباشر إلى مفهوم المزارع العمودية، ونعني بها المحاصيل التي يتم زراعتها باستخدام طبقات عمودية مكدسة من الأرفف - التي يتم وضعها ضمن المباني، أو المستودعات المهجورة، أو حتى حاويات الشحن - داخل أو على أطراف المدن.
ولا تؤدي هذه المزارع إلى استثمار الأبنية والهياكل المعمارية المهملة والمهجورة بطريقة عملية وفعالة والاستفادة منها لتحسين البيئة ضمن المدينة وتحقيق أثر إيجابي على الوسط المحيط فحسب، بل تساعد أيضاً على تحقيق الأمن الغذائي وتوفر العديد من المحاصيل بشكل مباشر وسريع لسكان المدينة، الأمر الذي يساهم في الحد من التلوث ويوفر الخضار والمحاصيل الزراعية الطازجة على مدار العام.
بل إن (كميات المحاصيل التي تنتجها المزارع العمودية لكل متر مربع هي أكثر من كميات المحاصيل التي تنتجها المزارع التقليدية أو البيوت الزجاجية في نفس المساحة، كما أنها تحتاج إلى كميات أقل من الماء وتنمو فيها النباتات أسرع مما تنمو في المزارع التقليدية) كما تؤكد إحدى الشركات الرائدة في هذا المجال في أوروبا.
وتعتمد الزراعة العمودية على تقنيات الزراعة الداخلية والبيئة المحكومة، وتعني التحكم الاصطناعي في درجة الحرارة والضوء والرطوبة والغازات ما يجعل زراعة المحاصيل وإنتاجها أمراً ممكناً على مدار العام بغض النظر عن موسمها الحقيقي. كما يتم إعادة تدوير المياه المستخدمة في الزراعة عدة مرات بعد أن تتبخر ويتم استعادتها من خلال الهواء الرطب، الأمر الذي يؤدي إلى توفير في استخدام المياه بنسبة كبيرة تصل إلى 90%. ولا شك أن الزراعة العمودية يمكن اعتبارها خطوة مهمة لتحقيق الأمن الغذائي لسكان المدن والمناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية.
ومن المؤكد أن هذا النوع من الزراعة يناسب إلى حد كبير المنطقة العربية التي تعاني من شح في المياه والعديد من العوامل الطبيعية والبيئية والاقتصادية المؤثرة. وهذا ما يؤكد عليه الدكتور محمد الأسد، مؤسس ورئيس مركز دراسات البيئات المبنية في عمان (الأردن) وعضو اللجنة التوجيهية السابق لجائزة الآغا خان للعمارة، الذي يقول: «إن المستقبل واعد في العالم العربي بخصوص الزراعة الحضرية التي تعتمد على الزراعة في فراغات مغلقة، وبخاصة في أبنية متعددة الطوابق تبنى خصيصاً للإنتاج الزراعي، أو ما يسمى بالزراعة العمودية».
ويضيف: «يعود التفاؤل بمستقبل هذه التكنولوجيا لعدة أسباب، من بينها شح مصادر المياه والأراضي الزراعية في العالم العربي نسبة إلى عدد سكانه، كما أن الزراعة العمودية تستهلك فقط نحو 5% من المياه نسبة إلى الزراعة التقليدية لإنتاج نفس كمية المحاصيل، وتنتج ما لا يقل عن عشرة أضعاف كمية المحاصيل في نفس الرقعة المزروعة من الأرض، وتزيد هذه النسبة بأعداد كبيرة حين نأخذ بالاعتبار الزراعة في أبنية متعددة الطوابق. كما أن الزراعة العمودية مناسبة جداً للبلدان والمناطق ذات الكثافة السكانية الحضرية العالية، كما هو الحال في العالم العربي، إذ يمكن تشييد هذه الأبنية حول المدن وبالقرب منها، وبذلك يمكن أن تكون مناطق الإنتاج الزراعي قريبة جداً من مناطق الاستهلاك، وألا تحتل مساحات شاسعة».
وحول الجوانب السلبية والتحديات التي ترتبط بهذا النوع من الزراعة يختم الدكتور محمد الأسد قائلاً: «يكمن التحدي الرئيسي الحالي بخصوص الزراعة العمودية في تكاليف الطاقة المرتفعة المرتبطة بتوفير الإضاءة الاصطناعية والتحكم الحراري من تدفئة وتبريد. ولكن يمكن للتطورات في تكنولوجيات الطاقة المتجددة أن توفر هذه الاحتياجات بأسعار مقبولة. وعلى أي حال، فإن جميع هذه التكنولوجيات وتكلفتها ما تزال في مرحلة تطور سريع ومستمر».
تجارب رائدة
هنالك العديد من التجارب الملفتة التي تتعلق بالزراعة الحضرية والعمودية في العالم، وبخاصة في شرق آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، مع تجارب محدودة في المنطقة العربية، في طليعتها المملكة العربية السعودية. ورغم أنه من الصعوبة بمكان اختيار الأمثلة المناسبة من بين العشرات بل المئات من التجارب الناجحة والملفتة في العالم، إلا أننا سنسلط الضوء في هذا المقال حول بعض المبادرات المهمة والتجارب الرائدة، كمثال على الزراعة الحضرية الناجحة والزراعة العمودية الواعدة في العالم.
البداية من المملكة العربية السعودية، حيث تم قبل عامين تخصيص ميزانية تبلغ نحو 100 مليون ريال سعودي من أجل تعزيز ودعم تقنيات الزراعة العمودية في المملكة، في محاولة لتطوير الزراعة والمحافظة على المياه، كما تم تنظيم وتسهيل إجراءات الحصول على التراخيص الخاصة بالعمل ضمن هذه التقنية. ونتيجة للاهتمام المتزايد من قبل المملكة بالزراعة العمودية كوسيلة للمساهمة بتحقيق الأمن الغذائي، تم تنفيذ عدة مزارع عمودية في مدينة جدة المطلة على البحر الأحمر، بينما قامت شركتان سعوديتان متخصصتان في التكنولوجيا الزراعية في أواخر العام الماضي (2022)، وهما (مورق) و(ياس هيلث جروب) بتأسيس مشروع مشترك يسمى بـ(شركة المزارع العمودية). وتنوي الشركتان من خلال هذا المشروع القيام بإنشاء شبكة من المزارع العمودية في مختلف أنحاء السعودية، تبدأ من العاصمة الرياض، حيث من المتوقع أن تدخل تلك المزارع العمودية حيز التشغيل في الربع الرابع من عام 2023.
وفي فرنسا افتتحت عاصمتها باريس أكبر حديقة نباتية مغلقة على سطح مركز بورت دو فرساي للمعارض بمساحة إجمالية تبلغ 14 ألف متر مربع. ولا يوفر هذا المشروع محاصيل زراعية طازجة للباريسيين فحسب بل يتضمن الكثير من المشاريع والنشاطات المرافقة، كمسابقات التذوق وورش العمل الفنية والدورات التدريبية وحتى ساعات التأمل. وأكثر ما يثير الإعجاب في هذا المشروع، الذي قد يكون الأول من نوعه في العالم، أنه يوفر نحو 135 قطعة أرض قابلة للزراعة للعموم، ويتم طرحها للإيجار حيث يمكن لأي شخص حجز واحدة من هذه المساحات لزراعة المحاصيل التي يحتاجها بإيجار سنوي لا يزيد عن 320 يورو.
في الطرف الآخر من العالم، وتحديداً في سنغافورة، تبرز تجربة المهندس (جاك إن جي) الذي كان يحلم أن يعمل في مجال الزراعة، بعد أن عمل لمدة 28 عاماً في مجال العمارة والبناء. ولتحقيق حلمه، اعتمد (جاك إن جي) على خبرته الطويلة في بناء أبراج سكنية يدخل في تصميمها مادة الألمنيوم، ليصل إلى فكرة بناء مزارع عمودية تناسب طبيعة مدينة سنغافورة التي لا تتوافر فيها الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة. وبعد استشارة سلطات الأغذية الزراعية والبيطرية في سنغافورة بالإضافة إلى قضاء عامين من البحث والدراسة، أطلق (جاك إن جي) نموذجاً أولياً للمنظومة من مدخراته الخاصة من خلال تأسيس شركة تجارية لإنتاج الخضروات والمحاصيل الزراعية أطلق عليها اسم (سكاي جرين).
يقول (جاك إن جي): إن هنالك مساحات شاسعة واعدة للزراعة العمودية ضمن أكثر من ألفي برج سكني وإداري في سنغافورة، وقد تم بالفعل تدشين مشروعات زراعية باستخدام البعض منها، مشيراً إلى أن الأمر يستغرق فقط 28 يوماً لإنبات المحصول. ورغم أن الرجل يشعر بسعادة بالغة لتحقيق حلمه من خلال مشروعه التقاعدي المميز، إلا أنه يختم قائلاً: «أنا لا أريد أن أكون مزارعاً، لكن أريد أن أمنح حلولاً لمشكلات ومساعدة المزارعين باستخدام مهاراتي الهندسية».