مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بعض الطقوس الوثنية في الحج قبل الإسلام

إن الحج إلى بيت الله الحرام هو من أقدم الطقوس الدينية التي عرفها العرب من القدم، أي منذ أيام سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، إذ يقول الله تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ). واعتبره بعض المستشرقين أنه من أقدم الممارسات الدينية عند الساميين، كما وأقرت الديانات السماوية هذه الشعيرة وعدت في الإسلام من أعظم الشعائر الدينية التي يؤديها المسلم كل سنة.
ومن المعروف أن الديانة الحنيفية التوحيدية وهي ديانة سيدنا إبراهيم والتي كانت منتشرة في الحجاز قبيل بعثة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام كانت تؤكد على هذا الطقس بشكل سنوي، وكذلك العرب الوثنيون الذين لم ينسوا شعائر هذه العبادة على الرغم من انحرافهم عن الملة الإبراهيمية، فقد ظلوا متمسكين ببقايا هذه الديانة، إذ أقدموا على إشراك بعض الطقوس الوثنية في هذه الشعيرة، فيقول ابن هشام في سيرته: (بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه). فهذا النص يوضح صراحة محافظة أهل مكة على شعيرة الحج مع إدخال بعض الطقوس الوثنية مثل الأصنام.
لم يقتصر الحج قبل الإسلام على أهل الحجاز أو أتباع الوثنية بل كان الحجاج يأتون نحو مكة من كل حدب وصوب مثل الشام واليمن والعراق ومن أتباع الحنيفية والصابئة، وكلهم يحجون مع عبدة الوثنية نحو هذا البيت المقدس، فقد كان لكل من تلك الأديان المسوغ الرئيس الذي من شأنه أن يجعل الحج من ضمن طقوسه المقدسة، فالحنيفية تعتبر الحج أحد أهم الطقوس المتوارثة عن النبي إبراهيم عليه السلام، أما الصابئة فمن المحتمل أن حجهم نحو مكة كان على اعتبار أن مكة هي بيت زحل المبني على طوالع النجوم، وهذا إن دل على شيء يدل على أهمية البيت الحرام لدى الجميع.
ومن خلال الروايات التاريخية المنتشرة في مصادرنا والتي تتحدث عن الحج عند العرب قبل الإسلام يتضح لنا، أن الحج عندهم لا يختلف كثيراً عن طقوس الحج بعد الإسلام إلا في بعض التفاصيل التي كانت تدخل بها الرموز الوثنية بشكل أو آخر وهذا ما سنوضحه بعد قليل، فقد كانوا يقصدون البيت الحرام في أوقات محددة والوقوف في أماكن معينة مثل عرفة والمزدلفة وغيرها، ولهم بعض التلبيات الوثنية التي كانوا يرددونها في أثناء عملية الطواف، بالإضافة لملابس الإحرام وتقديم الأضاحي وإراقة دمائها.
إن موسم الحج عند العرب قبل الإسلام كان محدداً ومعلوماً لدى الجميع وهو التوقيت ذاته الذي اعتمده الإسلام، وقد كان يسبق موسم الحج أسواق العرب المشهورة وعلى رأسها عكاظ والمجنة وذي المجاز، فقد كانت هذه الأسواق ملتقى يجتمع به العرب من مختلف المناطق لقراءة الشعر والأدب وتبادل السلع، فقد كانت هذه الأسواق بمثابة منتديات ثقافية تزخر بالعديد من صنوف الأدب والشعر واللغة، فهي ظاهرة اجتماعية اقتصادية ثقافية وهي بمثابة مهرجان احتفالي سنوي، وقد أشار المؤرخون إلى أن تلك الأسواق التي تسبق الحج، كان لها الدور الأساس في نشأة الفصحى وبداية التوحيد اللغوي عند العرب.
كان الحج يبدأ في اليوم التاسع من ذي الحجة أي بعد انتهاء موسم الأسواق الثقافية السالفة الذكر، فيذهب الحجاج نحو عرفة ليقضوا ذلك اليوم بالتعبد وإقامة الصلوات والدعاء، فإذا مالت الشمس نحو الغروب أفاض الحُمس من أنصاب الحرم وأفاضت الحلة من المواقف حتى يلتقوا بالمزدلفة جميعاً فيبيتون بها، ويقيمون بها حتى تشرق شمس اليوم العاشر من ذي الحجة فيذهبون نحو منى، ويقولون: (أشرق ثبير كيما نغير) أي أشرق بالشمس حتى ندفع من المزدلفة، وفي منى يرمون الجمار في أماكن معينة ثم يقومون بذبح الهدي، ثم السعي بين الصفا والمروة والطواف بالكعبة، وبذلك ينتهي حجهم ويبدؤون بالعودة نحو ديارهم.
كانت عملية الانتقال من عرفة إلى المزدلفة إلى منى عملية منظمة يقوم بها أشخاص معينون هم الذين يجيزون الانتقال فمنهم الغوث بن مر بن أد الذي يلي الإجازة من عرفة، وأبو سيارة من بني عدوان كان يجيز الحجاج من المزدلفة إلى منى، وهي عملية منظمة ومحددة للقيام بهذه الإفاضة.
أما عن أهم المظاهر الوثنية التي كانت ترافق مراسم الحج والتي رفضها الإسلام مثل الارتباط بين الحج والأصنام فقد كانت القبائل تحل إحرامها عند صنمها بعد الطواف حولها ويعتبر هذا الفعل هو المتمم لحجهم. ومثل التصفيق والتصفير، أما التلبية فيقول اليعقوبي: (كانت العرب إذا أرادت حج البيت الحرام وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده ثم تلبوا حتى يقدموا مكة). ومن بعض تلك التلبيات المعروفة عندهم:
لبيك اللهم لبيك
لبيك لا شريك لك
إلا شريك هو لك
تملكه وما ملك
أبو بنات في فدك
وأخرى لهُبل:
لبيك اللهم لبيك
لبيك أننا لقاح
حرمتنا على أسنة الرماح
يحسدنا الناس على النجاح
فقد كان هناك العديد من التلبيات التي تميز كل قبيلة عن الأخرى، إضافة لبعض الطقوس الوثنية التي لامجال لذكرها هنا والتي أنهاها الإسلام مع نشره للتعاليم الصحيحة وتخليص هذه الشعيرة من كل تلك الوثنيات التي كانت تسيء لله وتوحيده.

ذو صلة