مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

الأمثال العربية بين الماضي والحاضر

المثل العربي نوع من الأدب الشعبي المنتشر بين الناس منذ العصر الجاهلي إلى اليوم، وعرّف المرزوق المثل بأنه: (جملة من القول، مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، تتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خُرِّجت عليها، واستُجِيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يُسْتَجَاز في سائر الكلام).
والأمثال وليدة بيئتها، وناتجة من ممارسة الحياة في جميع جوانبها، ومعبرة عنها بألفاظ موجزة وعبارات محكمة. وتختلف عن الشعر والنثر الفني بأن أغلبها يصدر من عوام الناس وفئاتهم المختلفة، تعبيراً عن مواقف واقعية غالباً، وقد يدخل شخص من عامة الناس التاريخ بعبارة واحدة يطلقها فتصير مثلاً منتشراً، وقليل من الأمثال يصدر من الشعراء والخطباء لحرصهم على اختيار الكلام البليغ والحكم لإقناع الناس.
يبدأ المثل بشخص واحد يطلقه في عبارة، مستخلصاً درساً من مشهد رآه أو تجربة مرت به أو حدث جرى حوله أو واقع مَثُل أمامه أو حقيقة فرضت نفسها عليه، ثم ينتشر المثل بين الناس تدريجياً، وتخضع صياغته النهائية للجماعة، ويكون عرضة للتحوير والتصرف المقصود ليخدم الغرض المنشود من ضربه حتى يأخذ صيغته النهائية. والعبارة قد تصبح مثلاً دون سابق قصد من قائلها، وإنما تأتي في سياق حكاية أو حادثة أو شعر أو لغز من الألغاز، ويرجع أصل بعض الأمثال إلى أخبار ونوادر وأجوبة تروى في بعض كتب الأدب ووصلت أصداؤها إلى أسماع العوام فتمثلوا بها، وترجع أصول بعضها إلى أساطير كانت منتشرة بين الناس، وبعضها إلى قصص دينية أو أدبية، وبعضها إلى حوادث تاريخية، وبعضها تلخيص لمعارف عامة في الطب والفصول وأحوال الجو والأنواء والفلاحة وغيرها، ويرجع بعضها إلى قواعد فقهية.
انتشار الأمثال العربية
تصدر الأمثال في أصلها من أفراد، إلا إن الجمهور هو الذي يذيعها حتى تتواتر، والانتشار من أهم خصائص الأمثال، حتى ضرب العرب بانتشارها المثل فقالوا: (أسير من مثل)، ويعبر عامة الناس عن الانتشار بقولهم: (قالوا في المثل، والمثل يقول)، والشيوع أمر جماعي وقد لا يقصده قائله، والمثل لا يكتب ليشيع بل يشيع فيكتب، فالمثل لا ينتشر إلا إذا حمل قيم الناس واقتنعوا به، والعبارة البليغة لا تشيع ولا تأخذ سمة المثل الشعبي إلا إذا كانت مقبولة للجماهير وملبية لحاجات المجتمع وتعبر عن رغبات الشعب وقيمه وآماله وآلامه، وأن يجمع المثل مع ذلك أناقة أسلوبية تكمل جانبه اللغوي بالاختصار وجودة الألفاظ وجمال التعبير وجودة مضمونه وفحواه ومحتواه.
ومن أسباب انتشار المثل أكثر من المأثورات الشعبية الأخرى الحاجة إلى ذكره وترديده في الموقف اللحظي أو التجربة الآنية التي يمر بها الإنسان، أو أن تكون عبارته قد قيلت في مجمع أو في شخص له وزنه في المجتمع أو وردت في شعر مشهور، ويساعد على انتشار الأمثال اتصال بعضها بقصص حتى صارت بعض الأمثال كالعناوين لقصصها، وللناس ميل واضح إلى القصص وحب سماعها.
ولا يعني ذلك أن كل مثل لا بد أن ينتشر انتشاراً واسعاً يعرفه القاصي والداني والمتعلم والعامي، فدرجة انتشار الأمثال متفاوتة، فبعضها ينتشر في إقليم كبير يحمل ثقافة متشابهة، وبعضها ينتشر في قطر معين لأنه وليد بيئته، وبعضها ينتشر في ولاية من القطر، وبعضها في مدينة أو قرية، وفي داخل المدينة والقرية قد يسمع الفرد بعض الأمثال وتخفى عليه بعضها. ولكن يلاحظ أن الأمثال تنتشر في البوادي والقرى أكثر منها في المدن، وبين الكبار أكثر منها بين الصغار، وبين الأميين أكثر منها بين المثقفين؛ لأن العوام أكثر ارتباطاً بشخصية الجماعة، وأشد وأقوى التزاماً بالقيم والمعتقدات السائدة لاعتمادهم على الثقافة الشفوية، والأمثال أكثر أصنافها حفظاً وسهولة في الاستعمال، ويوجد في كل قرية من له عناية بالأمثال والحكم وحفظها والاستشهاد بها في الحوار ومواقف الحياة المختلفة، وبعض المتعلمين من الشباب أو الكبار أو الكتاب في كل مجتمع لهم عناية كبيرة بالأمثال وضربها في مواقفها المناسبة لها والاستعانة بها في كلامهم وكتاباتهم.
وأكثر الأمثال عامة لجميع الناس، ولكن بعضها ينتشر بين بعض الشرائح والفئات، فالنساء يقلن: (يا ضامن الرجال يا ضامن الماء في الغربال)، وبعضها بين المتعلمين كقولهم: (العلم في الصغر كالنقش في الحجر)، وبعضها بين الفقهاء كقولهم: (الضرورات تبيح المحظورات)، والمنتشر بين المتعلمين مأخوذ غالباً من كتب الأمثال العربية القديمة أو كتب الأدب أو من نصوص شرعية.
تاريخ الأمثال العربية
الأمثال العربية المنتشرة اليوم صدر بعضها في الجاهلية أو في صدر الإسلام، وما زال الناس يتمثلون ببعضها بصيغته نفسها، وبخاصة ما كان على صيغة (أفعل من) كقولهم: (أبعد من النجم)، (وأحر من الجمر)، و(أحلى من العسل)، وما كان موجزاً كقولهم: (البادئ أظلم)، و(الحسود لا يسود)، و(خالف تذكر)، و(لا في العير ولا في النفير)، وهذا منسوب لأبي سفيان بن حرب أيام غزوة بدر.
وتلتها أمثال فصيحة بعضها قديم وبعضها انتشر حديثاً بتوسع التعليم، ويوجد عدد كبير من هذا النوع في العالم العربي، وبعضها يرجع إلى نصوص القرآن والسنة والأقوال المأثورة، وبعضها يروى عن علماء أو أمراء أو بلغاء وحكماء في عصور لاحقة، وبعضها من شعر أبي تمام وأبي العتاهية والمتنبي ونحوهم ممن اعتنى بالحكم والأمثال في شعره، وبعضها من أقوال الفئات الخاصة كالأطباء وأصحاب المهن المختلفة.
ثم جاءت الأمثال المولدة في العصر العباسي، وبعضها تحور قليلاً عن صيغته الجاهلية أو الفصيحة، وورد كثير منها في كتب الأدب العربي، وانتشرت بالشام ومصر والمغرب والأندلس، وتعد حلقة وسطى بين أمثال الجاهلية وبين الأمثال العامية التي تلتها والتي جمعتها كتب التراث الشعبي المعاصرة، وكثير من أمثال العوام فصيحة الأصل، صيغت صياغة جديدة غيرت ألفاظها وتراكيبها أو معانيها فيما يسمى بالابتذال.
ويلاحظ أن الأمثال المولدة والشعبية أكثر من أمثال الجاهلية، لأن الثقافة العربية بعد الإسلام أوسع جداً مما كانت عليه في العصر الجاهلي مكاناً وزماناً وتنوعاً، فالأدب الجاهلي كان محصوراً في الجزيرة العربية، وبعد الإسلام اتسع الوجود العربي ليمتد من الأندلس غرباً إلى الصين وجزر المحيط الهادي شرقاً، ومن أوروبا شمالاً إلى أدغال أفريقيا وإندونيسيا جنوباً، وتنوع البيئات المكانية يؤدي إلى تنوع الأمثال.
ومن حيث الزمان فأقدم ما وصل من الشعر الجاهلي لا يزيد عن ثلاثة قرون قبل الإسلام، وبعد الإسلام امتد عمر الأمة إلى أكثر من أربعة عشر قرناً، وهي مدة تقارب خمسة أضعاف فترة الجاهلية، ونشأت في هذه الأزمنة الطويلة كثير من المعارف والخبرات والعادات والأعراف والقيم والأمثال والعناصر الثقافية المتراكمة بتتابع الأجيال.
ومن حيث الغنى والتنوع حمل أدب الجاهلية أدب القبائل الصحراوي، حيث لا علوم ولا كتاب يدرس، مع قلة العدد، وانتشار القبلية التي تضعف التواصل، والانغلاق إلى حد كبير، والبعد عن التأثر بالعالم من حولهم والتأثير فيه، وبعد الإسلام دخلت عوامل كثيرة زادت غنى الثقافة العربية، وأولها وأكبرها أثراً نصوص القرآن والسنة وآثار السلف والعلوم الكثيرة التي نشأت وتطورت في عصور متعاقبة، وأدى اختلاط العرب بأمم مختلفة وعريقة حضارياً إلى دخول عناصر ثقافية كثيرة انصهرت في ثقافة الأمة بعد ترجمتها إلى العربية، وأدى نشاط الحضارة الإسلامية وكثرة ما حوته من علوم وفنون وكتب ومهن وصناعات وخبرات إلى توسع ثقافة الأمة إلى حد كبير، والأمثال الإسلامية والمولدة والشعبية شملها جانب من جوانب التوسع في الثقافة العربية.
وحدة الأمثال العربية وتشابهها
هناك تشابه كبير بين أمثال العرب من المحيط إلى الخليج، ويبرز التشابه بدرجة أكبر بين أمثال الإقليم الواحد الذي يحمل سمات ثقافية أشد تقارباً، فالحجاز إقليم، وشرق الجزيرة العربية وسواحل الخليج والعراق إقليم، واليمن إقليم، والشام إقليم، ووادي النيل إقليم، والمغرب العربي والأندلس إقليم، قال التكريتي: (إن توارد أمثال هذه الأقطار المنتشرة في دنيا العرب بصيغ متشابهة مع اتحاد المعنى والمغزى رغم تباعد أقطارهم واختلاف لهجاتهم لدليل قاطع على الترابط الفكري والاجتماعي بين أبنائها، لأنهم من أصل واحد يجمعهم وطن واحد).
ومن أسباب وحدة أمثال العرب هجراتهم التي انتشرت في الماضي، ووحدة مراحل تاريخ الأمة، وخضوع أقاليم واسعة لخلافة أو سلطنة واحدة إلى عهود قريبة، ووحدة المعتقدات والقيم والبيئة الثقافية والفكرية، وتشابه الأوضاع الاقتصادية والنفسية، والالتقاء في مواسم الحج وقوافل التجارة، والرحلات العلمية الواسعة للطلاب في العالم الإسلامي كله، واستمرار التبادل الثقافي عبر حقب تاريخية طويلة، وكل ذلك يمكن الأفراد من الحركة والتواصل في أقاليم الخلافة أو السلطنة كلها دون حواجز تذكر.
وفي المجتمعات العربية التقليدية كانت تمارس مهن محدودة يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد في كل بادية وقرية ومدينة، وقامت المجتمعات على نظام الأسرة الممتدة، وكانت أساليب الحياة ونظمها متشابهة إلى حد بعيد، وصدور الأمثال باللغة العربية سهل انتشارها بلفظها نفسه أو ما يقاربه، ولذلك كانت الأمثال المولدة والعامية واحدة، فتجد المثل يضرب بصيغته نفسها أو ما يقاربها في جميع الدول العربية أو في أكثرها، ولذلك ما زال للأمثال حضورها الكامل بألفاظها القديمة نفسها في البيئات الريفية التي لم تندمج اندماجاً كاملاً في الحياة الحديثة.
هناك عوامل عديدة تزيد التوحد في العصر الحديث كسهولة السفر وكثرته وازدياد التبادل التجاري والعلمي والثقافي والتعليم الحديث والدراسة المشتركة والصحافة والإعلام والتلفاز والشبكة العنكبوتية والاتصال الكثيف بين أبناء البلاد العربية وازدياد أعداد الحجاج والمعتمرين.
الأمثال في العصر الحاضر
أحدثت الحياة الحديثة تغيرات ضخمة في الاقتصاد بتعدد الوظائف والمهن واختفاء ظاهرة توارثها، وحدثت تحولات اجتماعية كبيرة بانهيار نظام الحوش والأسرة الممتدة، وتغير نمط التعليم والصحة والعلاج إلى الأنظمة الحديثة، وبانفتاح الأمة الواسع على أمم الأرض ظهرت أقوال مقتبسة من فلاسفة وقادة وزعماء من تلك الأمم، وبخاصة الأوروبية منها؛ لأنها كانت الأسبق إلى الحياة الحديثة، وانتشرت كثير من أقوالهم نتيجة لاطلاع العرب على آداب تلك الأمم وترجمة كثير من منتجها الأدبي إلى العربية، وانتشاره بانتشار التعليم وأجهزة الإعلام المتنوعة وبوسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية، وزادت الاقتباسات نتيجة للإعجاب بالقوة العلمية لتلك الأمم وبالأسماء الرنانة لبعض فلاسفتها ومفكريها، وبالدعاية الإعلامية الضخمة لتلك الأمم في نفخ وتضخيم كل ما تنتجه من علوم ومعارف وآداب وأفكار، وكثير من تلك الأقوال المقتبسة ليست بأوضح معنى ولا أدق تعبيراً ولا أحكم صياغة ولا أكثر ارتباطاً بوجدان الأمة من الأمثال والحكم العربية.
لكن مع ذلك لا زال كثير من الناس يتداولون الأمثال الفصيحة والمولدة والعامية، وما زالت الأمثال العربية تمثل حضوراً لا بأس به، وإن لم يكن بقوة حضورها القديم قبل الاحتكاك بالحضارة الحديثة، وتحورت صيغ بعض الأمثال القديمة لتناسب العصر الحديث فمثلاً كانوا يقولون: (ثلاثة لا تعار سلاحك ومرتك وفرسك)، وتحول إلى: (ثلاثة لا تعار المرة والسلاح والسيارة)، فجعلوا السيارة مكان الفرس، ومثله قولهم: (حَجَّة وتجارة) و(حجة وحاجة) و(حجة وعودة)، يضرب لنيل منفعتين بعمل واحد، وبتحسن الأحوال قيل: (حَجَّة وزَوْغَة) أي هروب من الشرطة، وصار كثيرون يذهبون للعمرة وينتظرون الحج ويحجون ثم يهربون إلى مناطق أخرى للعمل، وصار الهروب عندهم أهم من العودة، وفي جزيرة العرب كانوا يقولون: (ضارب الدنيا بقين حمار) أي بحافره، يضرب لعدم المبالاة بالحياة والمال ومتاع الدنيا، وصار يقال: (ضَارِبْ الدُّنْيَا طَبَنْجَة)، ويقال للعانس: (فَاتَها القِطَارْ)، وظهر هذا بعد أن عرف الناس القطارات البخارية، والمثل يوجد في بلاد لم تعرِف القطارات، ويحتمل أن يكون المراد به القطار القديم وهو قطار إبل القوافل في سيرها صفاً خلف بعضها.
ولم يتوقف إنتاج أمثال عربية جديدة، ومن هذه الأمثال الحديثة قولهم: (الحَيَاة تَجَارُبْ) و(الحَيَاة مَدْرَسَةْ)، وقولهم: (كَلام جَرَايِدْ) و(حكي جرايد)، أي أنه كلام لا يؤبَه له، وقالوه لأن كثيراً من الصحف لا تتحرى الدقة وتكون عناوينها أكثر إثارة من مضامينها، وقولهم: (فلان يلعب بالنار)، والمزاح واللعب بالأسلحة النارية قاتل، ثم عمموه في كل مخاطرة، وقولهم (كأنه بالع راديو) ويقال لمن يتكلم كثيراً، وقولهم: (لصقة أمريكاني) و(لَصْقَةْ أَمْرِيكَا)، والصناعات الأمريكية للاصقات فيها جودة فشبهوا بها، وقولهم: (فلان مِتْلَ البِرْمِيلْ) و(تخين زي البرميل)، يقال للشديد السمنة، وقديماً كانوا يقولون: (مثل الفيل) أو نحو ذلك، وقولهم: (مِنْ الحُمَارَة، لَلطَّيَّارَة) أي صار يسافر بالطائرة إلى أقطار بعيدة بعد أن كان يركب حماراً في القرى، ومثله (مِنْ الحَوِيَّة لَلْعَرَبِيَّة) والحوية: سرج البعير، أي بعد أن كان راعياً صار له سيارة، والمثل يضرب لتحول الأحوال إلى الأحسن، وهو مثل قولهم: (مِنْ تَكْ لَلْمَفَكْ)، تك: لفظة لزجر الغنم، والمفك: ما تفك به الصواميل والمسامير، أي انتقل من رعي الغنم إلى امتلاك السيارة، وفي المغرب يقولون: (من المجداف للمنبر) و(من الخمارة للوزارة) و(من الملاسة للرئاسة) و(من الخيمة للعاصمة)، وكلها تدل على أن إنتاج الأمثال ماض ومستمر باستمرار الحياة، وليس هناك زمان أولى من آخر في توليدها، وأنها متأثرة البيئة وبما يوجد فيها من أدوات وآلات وأحوال.


* أستاذ مساعد في كلية الآداب - جامعة البحرين، مؤلف مُعْجَم الأمثال السُّودانيَّة المُقارنة ومقارنتها بالأمثال العربية.

ذو صلة