نتلقى المثل في التراث العربي عن طريق المؤرخين وعلماء اللغة والأدب بصورته المعروفة لدينا، وبأشكاله اللغوية المتمثلة في الجملة القصيرة التي تعبر عن تجربة معينة ومحددة، مع المحافظة على صياغته الأولى، ليعبر عما يجد من تجارب مشابهة في أي زمان وأي مكان دون تغيير أو تبديل.
وإننا نجد العرب كغيرهم من الشعوب الشرقية عامة والسامية خاصة شديدي الميل إلى إرسال الحكمة وضرب المثل، وهما على لسانهم في كل حال، يدعمون بهما الأقوال، ويعللون بهما الأعمال، فيذرونهما عند كل فرحة وترحة، حتى تصبح الأمثال لديهم من ذخائر الدهر النفيسة، ومن سنن الحياة، ومن الأمور التي تسهم في تنظيم شؤونهم القومية والقبلية والحياتية المختلفة، في الآداب السامية، يتفقون على أنها - كما قال ابن عبد ربه في عقده الفريد- : (وشي الكلام، وجوهر اللفظ، وحلي المعاني، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها) وفيها خصائص كثيرة من أهمها: خاصية المجاز، وإحكام العبارة، وصياغتها على نحو لغوي يضمن جمالها فنياً، ليتجاوز بها حدود الابتذال، مما يسهل لها الشيوع والذيوع لفترة زمنية طويلة وهي الخاصية التي ظلت الأساس في بناء المثل وفي تداوله، كما أننا على ضوء هذه الخاصية يمكن فهم تواصل المثل وإنتاجه في اللغات السامية إلى يومنا هذا، مما يسهل تتبعه في العربية عبر تاريخها الطويل.
وقد صنف الباحثون الأمثال الشعبية من خلال دراسات علمية موثقة تناولت نشأة المثل ومعناه، وتطوره التاريخي، أسهمت هذه الدراسات في إحياء هذا الجانب المهم من تراث الأمم وبيان تأثيراته على حياة الشعوب، وأشارت هذه الدراسات العلمية إلى أن الأمثال خلاصة تجارب الشعوب بما فيها من معان عميقة، وحكم بليغة وصيغ مترابطة، وهي مخزون ثقافي للأمم وحياة الناس بعاداتهم وتقاليدهم تم تداوله عبر الأزمنة من جيل إلى آخر، لأنها كما رأى الزمخشري أوجزت اللفظ فأشبعت المعنى، وقصرت العبارة فأطالت المغزى، وكنت فأغنت عن الإفصاح، وعبرت عن الواقع المعيش، بأسلوب مختصر حتى يتداوله جمهور واسع من الناس.
ونظراً لأهمية الأمثال فقد ضرب الله سبحانه وتعالى الأمثال للناس في العديد من السور، مثل سورة الحشر، الآية 21، قال تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)، ومثل سورة إبراهيم، الآية 45، قال تعالى: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال).
ويبدو أنه من الصعب تحديد تاريخ نشأة الأمثال، لأنها قد رافقت الإنسان منذ وجوده، ومع ذلك يمكن لنا في بعض الأمثال تحديد أو تقريب عصرها، ولاسيما أنها انطوت على حوادث تاريخية كثيرة منها المهم كحرب البسوس، ومنها الضئيل الذي لا أهمية له، فكانت سجلاً ضخماً للغث والسمين من الأحداث والوقائع، وهكذا كانت على كل حال ذات قيمة تاريخية واجتماعية وفلسفية وأدبية.
وقد عرفت العرب الأمثال، ففي نهاية العصر الجاهلي، بدأت في تدوين أمثالها خصوصاً بعد ظهور حركة التدوين في العراق بعد الإسلام، فألف صحار بن العباس وعبيد بن شرية الجرهمي كتباً في الأمثال، لكنها للأسف فقدت، كما ألف المفضل بن محمد الضبي كتاباً سماه (أمثال العرب)، وفيه تصوير لحياة العرب في تلك الحقبة الزمنية، كما نجد جمهرة الأمثال للعسكري، وشرح الأمثال لأبي عبيد، ومجمع الأمثال للميداني، والمستقصى في أمثال العرب للزمخشري.
ثم جاءت الأمثال المولدة، فزاحمت الأمثال العربية من القرن الرابع الهجري، لذلك نجد أن معظم الأمثال العربية القديمة قد اختفت، ثم ظهرت الأمثال المحدثة المعروفة في مختلف بقاع العالم.
ويبدو أنه مما يستحق النظر فيه أننا نلحظ قلة أثر الأمثال ودورانها على الألسنة، والاستشهاد بها في السلوك عما كانت عليه منذ جيل، فقد كنا نسمع أجدادنا وآباءنا يكثرون من استعمال الأمثال والاستشهاد بها، فقل ذلك في عصرنا الحاضر خصوصاً على ألسنة الجيل الحديث.
والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا الآن: هل حضرت الأمثال في زمننا الحاضر من خلال أدبائنا المعاصرين في أجناسهم الأدبية المختلفة كالقصة القصيرة والرواية والمقالة والسيرة مثلاً؟
لقد وظفت الأمثال والحكم والأقوال المأثورة بأنواعها المختلفة في فن المقالة إلى جانب النوادر الأدبية والطرائف والقصة القصيرة، ونذكر على سبيل المثال، توظيف الأمثال في بعض القصص العربية الفنية المعاصرة كقصة (الصبي الأعرج) لتوفيق يوسف عواد، إذ استهل قصته المذكورة بالمثل: (كل ذي عاهة جبار)، ومحمد نفاع قد اتخذ من المثل (الله أعطى والله أخذ) عنواناً وفكرة أساسية لإحدى قصصه الواقعية النقدية الاجتماعية.