مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

الأمثال الشعبية عنوان للثقافة وأهلها

تتبلور الأمثال الشعبية داخل إطار ثقافة المجتمع المنتج لها، لذا فإنها تعكس بشكل جلي أفكار هذا المجتمع وقيمه، وهو ما يجعلها موضوعاً بحثياً من موضوعات علوم متعددة، لكل منها مدخلها البحثي ونتاجها المعرفي. ومنها الأنثروبولوجيا الثقافية التي تعني باستقراء المثل الشعبي لاستخلاص الخطاب الفكري للمجتمع، وكذلك توجهاته وقيمه، ورؤية هذا المجتمع لذاته وللآخرين. ولا نغفل ما تقوم به الأمثال الشعبية من دور في عملية الغرس الثقافي والتنشئة الاجتماعية، إذ يقوم المثل الشعبي بدور تعليمي واضح، محاولاً نقل الخبرات من السلف إلى الخلف، حتى يستمر تواجد المجتمع ونماؤه.
تعريف المثل الشعبي
المثل الشعبي هو الأسلوب البلاغي القصير، الذائع بالرواية الشفاهية، والمعين لقاعدة الفروق أو السلوك أو الرأي الشعبي، وتنشأ الأمثال الشعبية نتيجة تجارب إنسانية فردية أو جماعية عميقة الجذور في مجتمع معين، وقد تنتقل من مجتمع إلى مجتمع عبر الاندماج الفكري والثقافي، ويميز الأمثال الشعبية في أي مجتمع منتج ومتداول لها، إيجاز اللفظ وإصابة المعنى، وحسن التشبيه وجودة الكتابة، ويمكن التعرف على طبيعة أي شعب من خلال أمثاله لأنها تمثل فلسفة الجماهير وسلاحها القوي الذي تدافع به عن عاداتها وأعرافها. وسنورد في السطور التالية بعض التعريفات من بين عشرات التعريفات القديمة والحديثة والعربية والأجنبية التي تعرف المثل الشعبي.
ومن التعريفات التي وردت في الكتابات العربية التراثية ما يذكره المبرد في كتابه الكامل (أن المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، فالأصل فيه التشبيه: فقولهم (مثل بين يديه) إذا انتصب أمامه، ومعناه أشبه الصورة المنتصبة، و(فلان أمثل من فلان) أي: أشبه بما له من الفضل، فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول).
وفي العقد الفريد يقول ابن عبد ربه: (الأمثال التي هي وشي الكلام، وجوهر اللفظ، وحلى المعاني، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها حتى قيل أسير من مثل، وقال الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائر يعرفه الجاهل والخابر).
ومن تعريفات المحدثين يعرف أحمد أمين الأمثال فيقول: الأمثال الشعبية نوع من أنواع الأدب، يمتاز بإيجاز اللفظ وحسن المعنى ولطف التشبيه وجودة الكناية، ولا تكاد تخلو منها أمة من الأمم. ومزية الأمثال أنها تنبع من كل طبقات الشعب، وليست في ذلك كالشعر والنثر الفني فإنهما لا ينبعان إلا من الطبقة الأرستقراطية في الأدب. وأمثال كل أمة مصدر مهم جداً للمؤرخ الأخلاقي والاجتماعي يستطيع كل منهما أن يعرف كثيراً من أخلاق الأمة وعاداتها وعقليتها ونظرتها إلى الحياة، لأن الأمثال عادة وليدة البيئة التي نشأت عنها.
ويقول رشدي صالح: (المثل هو هذا الأسلوب البلاغي القصير الذائع بالرواية الشفاهية، المبين لقاعدة الذوق أو السلوك أو الرأي الشعبي، ولا ضرورة لأن تكون عباراته تامة التركيب، بحيث يمكن أن نطوي في رحابه التشبيهات والاستعارات والكنايات التقليدية).
وفي دائرة المعارف البريطانية (المثل جملة قصيرة موجزة مصيبة المعنى شائعة الاستعمال).
وفي دائرة المعارف الأمريكية (المثل جملة قصيرة مصيبة المعنى تستحضر بدقة الحقيقة الشائعة، وتتولد أساساً في المجتمعات الأولى بأسلوب عامي غير أدبي، وتكون شكلاً فولكلورياً شائعاً في كل الأجيال).
خصائص الأمثال الشعبية
تتميز الأمثال الشعبية بعدة خصائص منها:
1 - الأمثال الشعبية جمل قصيرة وعبارات مختصرة، تشبه القصة القصيرة وتتحدث عن تجربة معينة مر بها أشخاص في زمن معين، يتناولها الناس عندما يعيد الزمن نفسه ووقائعه.
2 - الأمثال الشعبية مخزن من التجارب الإنسانية التي مرت على المجتمعات من قديم الزمان، من خلال حوادث ومواقف استطاع العقل البشري أن يصوغها بجمل قصيرة مكثفة الفكرة.
3 - تعد الأمثال الشعبية من أبرز عناصر الثقافة الشعبية، فهي مرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم لتغلغلها في معظم جوانب حياتهم اليومية.
4 - تعد الأمثال الشعبية من أهم الخصوصيات الثقافية التي يتسم بها كل مجتمع من المجتمعات.
5 - لا تتطلب الأمثال الشعبية جهداً كبيراً في التعلم أو الحفظ أو الأداء كالأشكال الفنية القولية الأخرى كالغناء والرقص.
6 - تعبر الأمثال الشعبية عن الجانبين الواقعي والمثالي في حياة أفراد المجتمع وسلوكهم.
آليات انتشار القيم من خلال الأمثال الشعبية:
يعرف هابرماس الفضاء العمومي لآليات تكوين الخطاب الفكري للمجتمع بأنه: (المجال الذي تمارس فيه عمليات النقد والنقاش العام في المسائل السياسية والاجتماعية التي تهم المجتمع، أو هو المجال الذي تصنع فيه القيم).
ومن خلال الممارسة العلنية للعقل يتحقق (الخطاب الفكري للمجتمع)، الذي يقوم بدوره بالفصل بين الخاص بالفرد، والعام المتعلق بالمجتمع. ولهذا فإن المأثور الشعبي في هذا المجال لم يعد نتاجاً للنقاش الحر والعقلاني للفرد، بل يصدر عن العقلية الجمعية التقليدية، ويرد التساؤل عن عوامل السيطرة والهيمنة على العقلية الجمعية في العصر الحاضر، وآليات الغرس والترويج لخطاب معين وقيمه، فنجد أنها -في الأغلب- ثلاثة عوامل تقليدية أضيف لها عامل رابع حديثاً، والعوامل الثلاثة التقليدية هي:
1 - التجمعات الشعبية:
التجمعات الشعبية هي مناسبات دورية يتجمع فيها أبناء المجتمع دون تمييز ويتم فيها إعلاء قيم الجماعة وتأكيد خطابها، تنتشر وتعلو حينئذ قوالبها وخطابها الفكري، وينحاز الخطاب إلى ثقافة المجموع، وهو انحياز ثقافي ضد الفردية وقيمها، وضد مبدأ الاختيار وتصبح التجمعات الشعبية سياقاً ثرياً لنشاط القيم وانتشار الأمثال الشعبية.
2 - المجالس الخاصة:
تتميز هذه المجالس أنها مقيدة ويربط بين أفرادها رباط خاص، ويتسم حديثهم غالبًا فيما بينهم بالصدق والصراحة، خصوصاً إذا كانت الروابط بين أفرادها عائلية، أو كانت العلاقة بين الأفراد مبنية على صداقة طويلة. وتتسم هذه المجالس بخلوها من التحفظات، لوجود الثقة والألفة لدى أعضاء التجمع من المشاركين فيها سواء من المتحدثين أو السامعين.
3 - وسائل الإعلام:
تعد وسائل الإعلام من الوسائط المؤثرة جداً في تشكيل العقلية الجمعية، خصوصاً أن هذا الوسيط يأخذ مساحة كبيرة لدى أفراد المجتمع التقليدي، والذي لا تشكل فيه القراءة حيزاً معتبراً من ممارسات الأفراد أو اهتماماتهم، وتشكل الأمية أيضاً وأسلوب الحياة فرصة كبيرة للوسائط الإعلامية لتكون صاحبة التأثير الأكبر.
4 - الوسائل التفاعلية:
استحدثت في العصر الحديث الكثير من الوسائل التفاعلية التي منحت الفرد صفة المشاركة دون التقيد بشرط الزمان والمكان والصفة أو التخصيص، من خلال شبكة المعلومات الدولية، وبعض وسائل الإعلام التفاعلي والتي أصحت وسيلة لإعلاء صدى الاتصال الشفاهي، فأصبحت شبكة المعلومات الدولية وقنوات الإعلام التفاعلي امتداداً للفضاء العمومي الذي يحكم إطاره الأفراد.
مراحل تكون المثل الشعبي
تمر المقولة أو الجملة بعدة مراحل كي تصير مثلاً شعبياً، وبيانها كالتالي:
1 - يبدأ بصياغة فردية، فلابد أن كل مثل قد نطق به فرد في زمان معين ومكان معين.
2 - فإذا مست هذه المقولة أو الجملة حس المستمعين له، فهو حينئذ ينتشر بينهم كأنه عبارة ذات أجنحة.
3 - تتعرض المقولة أو الجملة للتحوير والتهذيب، حتى توضع في قالبها الأخير بوصفها مثلاً شعبياً.
4 - بعد مرحلة الصياغة يأتي دور تأثير الجماهير والعامة (فإذا كانت العقول الفرادى هي التي صاغت الأمثال، فإن جمهرة الشعب هم الذين أذاعوها وروجوها، لهذا السبب ظهر التحوير والتصرف في أساليب الأمثال، على حين لم تكن هذه التحويرات متعمدة فيما يختص بالحكايات الشعبية، بل كانت للنسيان أو لقصور الذاكرة، فإن الأمثال تعرضت للتحويرات المقصودة والتصرفات المتعمدة).
ويصير المثل شعبياً عندما يشيع بين العامة والخاصة ويكون عبارة مجنحة باكتساب الموافقة الشعبية.
الخصائص اللغوية والمعرفية للأمثال الشعبية:
تتسم الأمثال الشعبية بعدة خصائص معرفية ولغوية، منها:
1 - الأصالة: فالأمثال الشعبية -في جزء كبير منها- عربية المنشأ، مع أنها دائماً ليست بلفظها اللغوي (الرسمي)، ذلك لتعلق الجماعة الشعبية بالقيم والأفكار التي ترسخها الثقافة العربية، حيث اكتسبت محتواها تاريخياً واجتماعياً، وأخذوا بعضها بلفظه، أو بمعانيه من الأدب العربي القديم أو الدين الإسلامي مثل مضمون بعض الأحاديث النبوية: (خير القوم خادمهم).
2 - الواقعية: تمتاز بواقعيتها، ذلك لتميز الحياة المجتمعية الشعبية بالواقعية، مثل: عمر سجره ما وصلت لربها.
3 - البلاغة: تمتاز بإيجاز اللفظ وتركيزه، وبإصابة المعنى ودقته، وبعد المغزى، مثل: في الخفايا خبايا.
4 - موسيقى المثل الشعبي: لا تخلو الأمثال الشعبية من الرشاقة اللفظية، ففيها جرس موسيقي، وتناغم بين ألفاظها، وتأتي موسيقاها إما من السجع، أو من اختيارها للأحرف المتجانسة ضمن الكلمات، والكلمات المتوافقة ضمن الجمل، كما تتميز بالتوازن، فينقسم المثل إلى شطرين متوازنين، مما جعل للجمل إيقاعاً مناسباً فيزيد من جمالية ذلك السجع (أبو عاهه.. ما يسلاها).
5  - أغراض الأمثال الشعبية: تعكس الأمثال الشعبية بصدق، مشاعر أفراد المجتمع، وأحاسيسهم، وآمالهم، وتفكيرهم، وحكمتهم. ومن خلالها يستكشف الباحثون توجهات المجتمع في مختلف شؤون الحياة، وموقفه منها ونظرته إلى الكون، وتفسيره لظاهراته (إن كبر ولدك خاويه). وبهذا تصبح الأمثال الشعبية أداة طيعة لنقل التجارب من جيل إلى جيل.
تتعدد وتتنوع الأشكال الظاهرة في بنية المثل الشعبي مثل:
1 - من أشكال التعبير في المثل الشعبي ما يبدأ بكلمة (اللي) التي تحل محل اسم الموصول (الذي)، أو (التي)، ولذا يليها دائماً جملة هي صلة الموصول يتبعها خبر الاسم الموصول مثل: (اللي يزمر ما يخبيش دقنه).
2 - وهناك مجموعة من الأمثال الشعبية التي تأخذ شكل الحوار بين شخصين، وتأتي الصيغة في شكل سؤال وجواب، على سبيل المثال: (قالوا للحرامي احلف، قال: جالك الفرج).
3 - وقد يأتي المثل الشعبي في صورة جملتين متتاليتين، تبدأ كل منهما ب (يا)، مثل: (يا مآمنه للرجال، يا مآمنه للميه في الغربال).
وهذا النمط من الأمثال الشعبية يتكون من جملتين، بينهما علاقة تماثل وتشابه، فمن تأمن للرجال هي واهمة وغافلة فهي مثل من تأمن للمياه في (الغربال) الذي يعتبر في صورته الحقيقية مجموعة من الثقوب المتجاورة.
4 - وقد يبدأ المثل الشعبي ب (ياما) دليل على الكثرة الغالبة مثل: (ياما في الجراب يا حاوي).
5 - وهناك أمثال شعبية تعمد إلى المقارنة وتأخذ شكلاً ثابتاً من حيث الصياغة، وتبدأ ب (زي) أو (كيف) ومثال لذلك: (زي القرع يمد لبره).
6 - وقد يأتي المثل الشعبي في صورة استفهام، ولكنه استفهام استنكاري، لتأكيد عدم المنطقية أو المعقولية، مثل: (أيش تعمل الماشطه في الوش العكر)؟
7 - وقد يستخدم المثل الشعبي شكل الأمر للحث على تنفيذ ما يشتمل عليه من مبادئ وقيم، مثل: (اسأل مجرب ولا تسأل طبيب).
8 - وقد يتضمن الأمر في المثل الشعبي معنى الشرط مثل: (اجري يا بن آدم جري الوحوش غير رزقك لن تحوش).
9 - وقد يأتي المثل الشعبي في شكل جملة تقريرية، ويكون في الأغلب حاوياً لمعارف خاصة بالحرف ومعلومات عن الحيوان أو النبات مثل: (البطيخة القرعة لبها كتير).
الخصائص اللغوية للمثل الشعبي
ترتكز على فهم ثقافي، فاللغة هي وعاء الفكر فنجد:
أولاً: المفارقة:
والمفارقة في أحد جوانبها قائمة على التضاد، ومعنى من معاني الازدواج، ومعنى من معاني التبادل بين الخفي والواضح، ويثور تساؤل هنا هل المفارقة هي مفارقة اللفظ؟ أم مفارقة الفعل؟ أم مفارقة الحال؟ والواقع أنها تجمع بين الثلاث ومن دلالاتها:
أ- دلالة عدم التناسب: (سبع صنايع.. والبخت ضايع).
ب- دلالة الاستحالة: (العين ما تعلاش عن الحاجب).
ج - دلالة الإتاحة: (اللي معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره).
د- دلالة التعاكس: (في الوش مرايه وفي القفا سلايه).
هـ- دلالة المجاوزة: (علشان الورد ينسقي العليق).
و- دلالة الاستبدال: (ظل راجل ولا ظل حيطه).
ثانياً: الجناس الصوتي:
التسجيع هو العنصر السمعي الذي يجعل للملفوظ الشفهي تأثيراً أكبر وأشد فاعلية في حافظة المرء وله موقعه الدائم في الذاكرة، يجعله دائم الاستدعاء مرة بعد أخرى مثل: (لبس البوصه تبقى عروسه).
ويفترض الجناس الصوتي (التوقف) مرتين، وهو بذلك يعطي مجالاً نفسياً للتردد بين قطبي التضاد الشكلي الذي ينطوي على تماثل مضموني.
ثالثاً: التناسب النحوي:
يعد التوازي أحد الخصائص النحوية للشعر، ويخلق التوازي كذلك نوعاً من التعادل الصوتي المتبادل بين الوحدات اللغوية، لأنه ينبع أساساً من تكرار الصيغة الصرفية، ويعد شكلاً من أشكال اللعب في الكلام.
مثال: نموذج 2: السلف تلف و الرد خساره
مبتدأ + خبر (حرف عطف) مبتدأ + خبر
رابعاً:    التناقض والمعنى:
تتنوع أشكال التعبير ولكنها تتوحد تحت شرط التكثيف والاختزال مثل: (القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود).
من قضايا الأمثال الشعبية
تتردد عدة قضايا مرتبطة بالأمثال الشعبية نوضح بعضها باختصار، منها:
1 - قضية تشابه الأمثال الشعبية في مجتمعات مختلفة:
رغم سمة الخصوصية التي تتسم بها المجتمعات المختلفة، إلا أن هناك تشابهات كبيرة بين الأمثال الشعبية في المجتمعات المتنوعة، أي أنه مثلما تختلف الأمثال وتتباين في التعبير، نجدها أيضاً تتماثل وتتشابه، ويرجع سبب هذا التشابه إلى:
أ- عمليات التثاقف من الخارج (Acculturation):
هي عملية التغير في المجتمعات من خلال الاتصال الثقافي الكامل، وذلك بانتقال العناصر الثقافية من مجتمع إلى آخر، ويتم ذلك عن طريقين الأول هو: انتقال الأفراد والجماعات من مجتمع إلى آخر، بثقافتهم وأفكارهم، والثاني: قد يتبنى أفراد المجتمع المهاجر إليه بعض عناصر ثقافة الوافدين أو المهاجرين، ويتبنى أبناء المجتمع المهاجر إليه المواد الثقافية عن طريق انتقاء ما يتوافق مع بناء ثقافته الأصلي.
ب- الأصول المتشابهة:
ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الأصول المتشابهة تنتج عناصر ثقافية متشابهة، وذلك لتشابه التجربة الإنسانية، وتشابه ما يمر به أفراد المجتمع من أحداث، وهو ما ينتج أفكاراً متشابهة وعناصر ثقافية متشابهة كذلك، وهؤلاء هم أصحاب المدرسة التطورية (Evolutionism).
2 - قضية شعبية المثل وعاميته:
تتردد في الكثير من الكتابات الأنثروبولوجية والفولكلورية توصيفي (شعبي) و(عامي) مرتبطين بالمثل، على أنهما مترادفان، والحقيقة أن التوصيفين مستقلان في الدلالة، كل منهما عن الآخر، فالتوصيف ب (الشعبية) معياره مدى تبني أبناء المجتمع المحلي للمثل، ومساحة واستمرارية تداوله وانتشاره، والتوصيف بـ(العامية) هو معيار مرتبط ودال على اللغة المستخدمة، أو بتعبير أكثر دقة اللهجة المحلية المتداولة والدارجة على لسان أبناء المجتمع المحلي.
وعلى هذا فصفة (الشعبية) تستغرق (العامية)، فالأمثال - وإن كانت - باللغة الرسمية تكون (شعبية)، ما دامت منتشرة ومتداولة ودارجة الاستخدام على ألسنة أفراد المجتمع، ومترددة في تعبيراتهم سواء مكتوبة أو منطوقة، مرتكزة على أسس ثقافتهم وأساليب حياتهم، وقد يكون ما هو عامي غير شعبي بنفس المعيار.
وقد تحتفظ لغة المثل الشعبي برسميتها، متأثرة في هذا بالمصدر الأول الذي انطلق منه المثل، ولا ينتقص هذا من شعبية المثل ومدى تعبيره عن أفراد المجتمع، كما أن هناك بعض الأمثال الشعبية التي تحتوي بعض المفردات الأعجمية وذلك نتيجة عملية التثاقف التي تتم في سياق عمليات التواصل الثقافي بين الشعوب وبعضها البعض.
3 - تناقض الأمثال الشعبية:
ويتناول بعض الباحثين - بلا ترو- ما يدعونه من تناقض للأمثال الشعبية، ويعددون الأمثال الشعبية التي تحمل من وجهة نظرهم تناقضاً مثل: (اصرف ما في الجيب.. يأتيك ما في الغيب). (القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود).
فالمثل الأول يحث متلقيه على الإنفاق وببذخ، ولا يهتم بقادم الأيام، فهي آتية برزقها ومالها. والمثل الثاني يحث على الحرص، الذي قد يصل إلى حد التقتير، لأن أقل مال ينفع في أحلك الأيام.
ولكن بقراءة متأنية نجد أن السياق الذي يقال فيه المثل الشعبي هو الفيصل في الرسالة أو الخطاب، فالمثل الأول لا يقال إلا للبخيل، وفي سياق يظهر فيه هذا السلوك، أي بخله.
أما المثل الثاني فيقال للمسرف المبذر، الذي لا يعمل حساباً لغد قادم لا محالة، فالمثل يطلب منه إعمال العقل في سلوكه، وعمل حساب للمستقبل وحوادثه.
مصادر الأمثال الشعبية
هناك عدة مصادر تنطلق منها صياغات الأمثال الشعبية، على اعتبار أنها ناتج خبرات حياتية، عاشها المجتمع وعركها الزمان واختبرها. ويمكن إرجاع الأمثال الشعبية إلى عدة مصادر منها:
أولاً: حادثة واقعية:
تعد الروايات الشفاهية للأحداث والوقائع التاريخية مصدراً مهماً من مصادر دراسة المجتمع، مثال لهذا: (جاب راس غوما): وهو مثل ليبي، وغوما المحمودي مناضل من فرسان ليبيا المشهورين والذي قاوم استبداد الأتراك، فوعدوا بمكافآت كبيرة لمن يأتي برأسه، أو يدل على مكانه، وأصبحت (رأس غوما) هي الأغلى، والحلم الصعب.
ثانياً: ما نتج عن حكاية شعبية:
هناك الكثير من الأمثال الشعبية التي ترتبط بحكايات شعبية رمزية، مثل: (اللي اختشوا ماتوا) وفي صياغته الليبية (اللي اتحشموا ماتوا) وهو مثل يرتبط بحكاية تراثية مختصرها أنه في أحد العصور اشتعل أحد الحمامات الخاصة بالنساء، واشتد وطيس الحريق، فلم تجد الكثير من النساء سوى الخروج من الحمام مسرعات دون ملابس تسترهن، فنجين من الاحتراق، أما من خجلت من عريها فقد ماتت محترقة، وهذا المثل يضرب في حالة أنه لا يجب أن يكون الخجل عائقاً أمام التصرف اللازم والضروري.
ثالثاً: ما استمد من السير الشعبية:
هناك بعض الأمثال الشعبية التي ترتبط بالسير الشعبية العربية وتنتمي لها، مثل (السيرة الهلالية)، فنجد مثلاً شعبياً يقول: (سكة أبو زيد كلها مسالك) و(يا ريتك يا بو زيد ما غزيت).
رابعاً: أمثال مستمدة من القرآن الكريم:
يعد القرآن الكريم بلغته ومحتواه جزءاً فنجد صدى ذلك في بعض الأمثال الشعبية مثل: (العين بالعين والسن بالسن) و(ياكل ناقة الله وسقياها) و(براءة الذيب من دم بن يعقوب).
خامساً: أمثال مرتبطة بالبيئة:
هناك أمثال شعبية ترتبط بالبيئة، وتتسم هذه الأمثال بالعفوية والواقعية، وتكون مصاغة بأسلوب مختصر، متناه في البساطة والسهولة، فهي إبداع العامة المرتبط بالحياة المعيشة. (ظل الحجر ولا ظل الشجر) (أيبس من قبلي).
سادساً: أمثال شعبية تمثل انعكاساً لقواعد قانونية:
يعد العرف من آليات الضبط الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية، وهو مجموعة من القواعد التي تعارف الناس عليها في مجتمع ما، وفي زمن ما لتحكم سلوكهم وأفعالهم. (قاطع شورها عن زورها.. غارم) و(من كبر هده مات بوه قبل جده) و(الدم مغطي العيب).
ومما سبق يتضح أن الأمثال الشعبية تشغل حيزاً كبيراً من ميدان ثقافة المجتمعات المتنوعة، وعن طريق هذا الفن القولي يمكن تحديد هويات هذه المجتمعات وانتماءاتها الحضارية.

ذو صلة