الأمثال الشعبية ليست مجرد شكل من أشكال الأدب الشعبي التي يتناقلها الأجيال من جيل لآخر عبر العصور، وليست شأنها شأن الحكاية الشعبية والسير والملاحم والأسطورة والموال والأغاني الشعبية والمدائح النبوية والابتهالات؛ لكنها هي السحر الذي لا يستهان به، فهي (حاضرة) على لسان الأجداد، فلا يتردّد أي جد أو جدة في استحضارها بإحدى المناسبات أو في موقف ما. ويحرفها الأبناء والأحفاد لتوظيفها للمواقف الحياتية اليومية (أجيال التيك توك).
إن الأمثال الشعبية مرآة صادقة تعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لمختلف الشعوب، وتعبر عن تجاربها وحنكتها وحكمتها في تحليل المشكلات وكيفية معالجتها والتغلب عليها. ونعتقد بأن العرب من أكثر الشعوب التي تتميز بالتنوع والغزارة في الأمثال والأقوال الشعبية. والمثل في الأصل يعتمد على التشبيه، ويستخدم أساليب عدة مثل: التهكم والسخرية، والتعرية، والدهشة، والتساؤل، والاستنكار، والتحذير. والأمثال والمقولات الشعبية غالباً مجهولة المصدر، وتعتمد على الشفاهية والنقل بالتواتر، ويتم توارثها من جيل إلى جيل، ويتناقلها مجموع الناس، على اختلاف جنسياتهم وقومياتهم وطوائفهم وعقائدهم وطبقاتهم وانتماءاتهم، لكي تُعبّر عنهم، فالأمثال الشعبية تحيا بالمكان وتتجدد بالزمان.
الأمثال الشعبية النشأة والتطور
وحول ظاهرة تشابه الأمثال ثارت تساؤلات كثيرة، فمن يرى أن ذلك يرجع إلى نشأتها في مصدر واحد، ثم ارتحالها من موطنها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، كما هو الحال بالنسبة للحكايات الشعبية، بينما يرجع البعض ذلك إلى نشأتها في ظروف اجتماعية متشابهة، ولذلك تماثلت وتقاربت، فإذا مر المجتمع بنفس المرحلة التاريخية التي مر بها شعب آخر تشابهت أمثاله مع هذا الشعب، ولكن الاختلاف يكون في التفاصيل. أما التشابه اللفظي والمعنوي وانطباق المثل مع شبيهه تماماً، فإن ذلك يعني الارتحال والهجرة.
وقد مرت الأمثال بمراحل ثلاث، الأولى: بدأت في منتصف القرن الثاني الهجري على يد عدد كبير من الجامعين، وتتجلى في هذه المرحلة سيادةُ المثل الفصيح سيادة كاملة، حيث جُمعت أمثال الجاهلية والإسلام. أما المرحلة الثانية: فقد بدأت مع اختلاف البيئات وانقسام الدول العربية والاتصال بالثقافات الأخرى، فحرفت اللغة، ونتج عن ذلك أمثال تبدو عربية في مبناها لكنها محرفة لغوياً، عامية في مظهرها، ومثال ذلك: (إن للحيطان أذاناً).. صارت: (الحيطان لها ودان)، (رب حاصد لنفسه حاصد سواه) صارت (انت تزرع وغيرك يقلع)، (اعقل وتوكل) (صارت اعقلها وتوكل)، (صاحت عصافير بطنه) صارت (عصافير بطنه زقزقت).
والأمثال الشعبية العربية تتخذ حالياً اللهجة المحلية في كل قطر عربي، مع أنه كانت لبعضها على ما يبدو أصول عربية فصيحة. وتلك الأمثال القديمة نوعان: حكم مأثورة عن شعراء العرب مثل (رضيت من الغنيمة بالإياب). (امرؤ القيس)، وأمثال ترتبط بحوادث بعينها مثل (لا يطاع لقصير أمر). وعلاوة على ذلك فإن بعض الأمثال تشير إلى تاريخ استعمالها مثل ما يظهر منها في كتب الأمثال القديمة، مثل: (آخر خدمة الغز علقة) الذي ورد عند الأبشيهي في كتابه (المستطرف في كل فن مستظرف)، وهو ممن اهتموا بالأمثال عموماً في القرن الثامن الهجري، ويشير إلى فترة الحكم التركي. كما اهتم الميداني في مصنفه (مجمع الأمثال) بإيراد الأمثال فصيحة اللغة، كما خصص فصلاً لأمثال المولدين. وكذلك ابن عثمان في مؤلفه (الفاخر).
جهود الدول العربية للحفاظ على الأمثال الشعبية
أما المرحلة الثالثة فهي معاصرة حيث تميزت بانتشار المثل العامي، وصدرت فيها معاجم، في مقدمتها أحمد تيمور باشا، إذ كان على رأس من اهتموا بجمع الأمثال في كتابه (الأمثال العامية)، وتبعه في ذلك أحمد أمين الذى أورد في قاموسه عدداً لا بأس به من الأمثال الشعبية، حيث يرى أن المثل يتلاءم مع الطبقة التي أنتجته أو الجماعة التي نشأ فيها، فمثلاً (باب النجار مخلع) نشأ بين فئة النجارين، و(اللي يجاور الحداد ينكوي بناره) نشأ بين الحدادين، أما (اللي مالوش شيخ شيخه الشيطان) فنشأ بين أتباع الطرق الصوفية. ومحمد قنديل البقلي في كتابه الأمثال الشعبية، وإبراهيم شعلان في موسوعة الأمثال الشعبية. واهتم ابن خميس والجهيمان بجمع أمثال نجد ودراستها. واهتم دارسون عراقيون بجمع أمثال الموصل وبغداد.. وهكذا. أما في مصر، فهناك أنيسة فخرو في موسوعة الأمثال والأقوال الشعبية في الخليج العربي بدولة الإمارات، وأخيراً مركز دراسات الفنون الشعبية التابع لأكاديمية الفنون والمعهد العالي للفنون الشعبية بمصر.
هل تراجعت الأمثال الشعبية في زمننا الحاضر؟
يعتقد الناس خطأ أن الأمثال الشعبية قد انتهى دورها، وأنها أصبحت جزءاً من التاريخ الشفهي للشعوب، وأنه بانتشار وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي قد انتهى دورها؛ ولكن العكس هو الصحيح، إن الأمثال الشعبية مثلها مثل كل شيء، لا تكف عن التطور، بل إن الوسائل الحديثة ذاتها أدت إلى انتشار الأمثال، فهي تتدخل في كل أحوال المعيشة في العادات والتقاليد، وكما هو معروف الأمثال مرآة لكل قوم، تصف أخلاقهم وعاداتهم، فهي نابعة من طبيعة المجتمع، ومتأثرة بثقافة أبنائه، وتؤثر في البناء التربوي والتعليمي والاجتماعي والسياسي والفكاهي من جانب آخر، لذا فإن البناء الفكري داخل المثل الشعبي مترابط ومتصل، متأثراً ومؤثراً في المجتمع نفسه. والأمثال تؤدى وظيفة مهمة في تأكيد بعض القيم وانتقالها من جيل إلى جيل. بل يرى البعض أنها تكشف عن بعض السمات النفسية عند الشعب، لأنها مصدر مهم لمعرفة الأخلاق والقيم التي تسود مجتمعاً ما، مثل: النظرة إلى المرأة، الصداقة، الصبر، الجار.. إلخ. ايضاً تكشف بعض الأمثال الأخرى عن الحياة الاجتماعية، مثل: النظرة إلى الحياة الزوجية غير المستقرة، مثل: (يا مأمنه للرجال يا مأمنه للميه في الغربال). ومنها ما يكشف عن القيم الأخلاقية والاستسلام للقضاء والقدر، وغير ذلك من القيم التي تسود بين الشعب.
الأمثال الشعبية في ثوبها الجديد
على مر العصور هناك اقتباسات حلت محل الأمثال، وتم تحريفها، وذلك للتطور الطبيعي للحياة ومفردات الطبيعة المستخدمة أيضاً لدخول ثقافات مختلفة وقاموس للكلمات على المجتمعات، إما عن طريق الاختلاط أو الاحتلال لبعض الدول. وفي ظل وسائل التكنولوجيا ومواقع التواصل ظهرت الأمثال الشعبية في شكلها الجديد ليناسب العصر، ويستخدم للفكاهة والسخرية، أو يتم عمل إسقاط السخرية على المثل الأصلي، ويتجلى ذلك وينتشر على وسائل النقل والمقاهي العامة ووسائل التواصل الحديثة.
مثال: (اسمع كلامك اصدقك.. اشوف امورك استعجب) يقابله (اشوف لايكاتك اصدقك..) (اشوف امورك لا بتهزر بقى!!)، (بره وجوه فرشت لك وانت مايل ايه يعدلك) يقابلها (لا تلبسي لانسزز ولا تعملي تاتوه.. مهما عملتي مش هيطمر في ابوه)، (من بره ها الله ها الله ومن جوه يعلم الله) يقابلها (الشكل هاي كلاس والأخلاق ميكروباص)، (اللي معاه قرش محيره يجيب حمام ويطيره) يقابلها (الا عنده بوست محيره.. يدخل ع الفيس ويشيره)، (لابس البوصة تبقى عروسة) يقابلها (في الشارع عروسة وفي البيت جاموسة)، (في الوش مرايا وفي القفة سلاية) يقابلها (كله في الظهر بيتكم.. وفي الوش يحضن ويسلم)
هكذا تتعانق في ثقافتنا الأمثال الفصحى والأمثال العامية. والجدير بالذكر أن هذه الصورة منتشرة في كل البلدان العربية، ما يدل على سعة ورعاية لغتنا العربية بكل ما هو جميل ومدهش.