إذا درست علم اجتماع، أو إدارة، أو تسويق؛ فلا بد أن يقابلك هرم ماسلو وصاحبه السيد أبراهام ماسلو الذي لا تخلو الدراسات الحديثة في تلك المجالات من حديث عنه وعن هرمه الشهير.
وقد قابلت هذا الهرم وصاحبه عدة مرات أثناء دراستي في مرحلتي الليسانس والماجستير، وأثناء دراسة التسويق، وتوقفت معه كثيراً، حتى أصبح ذهني يستدعيه في أوقات كثيرة ليس (كموضوع) دراسة، بل (كمصدر) للتفكير.
أبراهام ماسلو (1908-1970) عالم نفس أمريكي يهودي، من أصول روسية، وهو صاحب النظرية الشهيرة بتدرج الحاجات، والتي يوضحها هرمه الذي يشرح كيف يتدرج الأفراد/الشعوب من سفح الهرم إلى قمته، من تحقيق الحاجات الأساسية للعيش، حتى تحقيق أهم الحاجات الإنسانية وهي تحقيق الذات.
هرم ماسلو المدرج للاحتياجات يقوم على خمس درجات، في أسفلها الحاجات الفسيولوجية التي لا يمكن أن يعيش الإنسان وحتى الحيوان بدون إشباعها، وهي حاجات ضرورية جداً، ولا بد أن يتم إشباعها، وإلا يمكن أن يفقد الإنسان حياته نفسها، لكنها في التحليل النهائي حاجات حيوانية لا فرق بين الإنسان أو حيوان في الحاجة إليها، وإن اختلفت طرق إشباعها، مثل الطعام والماء والجنس والتنفس والإخراج.. وغيرها.
ثم ترتقي الاحتياجات الإنسانية بالصعود إلى الدرجة الثانية من هرم ماسلو، لنواجه احتياجات أكثر رقياً من احتياجات الدرجة الأولى، وإن كان الحيوان يشترك في بعضها مع الإنسان بشكل أو بآخر، ومن هذه الاحتياجات السلامة الجسدية والأمن الوظيفي والصحي والأسري وأمن الموارد والممتلكات، وهي ما أطلق عليه ماسلو (حاجات الأمان).
وترتقي حاجات الإنسان أكثر، فيضع ماسلو الحاجات الاجتماعية على الدرجة الثالثة من هرمه، حاجات مثل: الصداقة والعلاقات الأسرية، والألفة الجسدية، وليس مجرد ممارسة الغريزة.
أما في المستوى الرابع فتصبح الحاجات أكثر عمقاً والتصاقاً بالنفس الإنسانية، حاجات عديدة يشملها وصف الحاجة إلى التقدير، كالثقة بالنفس، وتقدير الذات، وتحقيق إنجازات، واحترام الآخرين وتلقي الاحترام منهم.
أما أعلى قمة الهرم فيضع فيها أبراهام ماسلو الحاجة إلى تحقيق الذات، حيث يتقبل الإنسان الحقائق العميقة للحياة، ويبتكر لحل المشاكل، ويعثر على ذاته الحقة.
وبرغم الانتقادات العديدة التي وجهت إلى ماسلو وهرمه، سواء من علماء نفس أو اجتماع؛ حيث لم يشمل الهرم كل الاحتياجات الإنسانية بتركيزه على الجوانب المادية والحسية من الإنسان، وحيث أن الترتيب الهرمى الصارم لا يمكن أن يحدث بنفس الشكل التراتبي في الحياة؛ إلا أنني أرى أن هذا الهرم لا يزال يصلح لأن يضع أيدينا على أمور مهمة فيما يخص الفرد والمجتمع أيضاً، يصلح لذلك بذاته وبما وجه إليه من نقد مهم كذلك.
فالفرد/المجتمع الذي لا يستطيع أن يحقق الإشباع المناسب لحاجات المستوى الأول والثاني من هرم ماسلو؛ سيصعب عليه أن يرقى إلى المستويات الأخرى، وهو ما يعني أن هذه الاحتياجات لم تعد أحلاماً أو طموحات يتمنى الفرد أن يحققها، وقد يقضي حياته حالماً ببعضها من دون أن يصل إليها، بل هي حقوق واجبة على المجتمع أن يوفرها لأفراده؛ لأن المجتمع الذي لا يستطيع توفير الاحتياجات الأساسية لأفراده هو في الدرك الأسفل من التخلف، وهو يفقد بالضرورة كل ما لدى هؤلاء الأفراد من قدرات وإمكانات ومواهب يمكن أن ترتقي به وبهم، أما المجتمع الذي يؤمّن لأفراده تلك الحاجات ولا يشغلهم بها فإنه يطلق قدراتهم لأن يفكروا ويبدعوا ويثروا مجتمعهم والمجتمع الإنساني كله بنتاج عقولهم الحرة والمتحررة من السقوط في بئر الحاجات الأولية.
وإذا استطاع المجتمع بداية من الأسرة والمدرسة وجماعة الأصدقاء والمدرسة تحقيق إشباع صحي وسليم لاحتياجات أفراده في المستويين الثالث والرابع من مستويات هرم ماسلو؛ أصبح لدينا مجتمع ذو علاقات اجتماعية متوازنة، ونفوس مستقيمة، قادرة على التفكير فيما هو أبعد من مرمى البصر وامتداد اليد، لتصل إلى قمة الهرم، حيث تتربع الحاجة لتحقيق الذات بكل ما يحيط بها من قدرة الإنسان على الابتكار والاختراع والتفنن في جميع مجالات الحياة.
فالفن إذن هو قمة هرم الاحتياجات الإنسانية، هو الحاجة العليا التي يحتاج الإنسان إلى إشباعها، وهي في الوقت ذاته الحاجة التي إذا أشبعها الإنسان شعر بإنسانيته وتميزه.
وإذا كان الفن في اللغة هو تطبيق عَمَليّ لقواعِد نَظَريَّة ووسائل تحقيقها، ومجموع قواعِد تتعلَّق بحِرْفة أو مِهْنة أو نشاط اجتماعيّ، وهو جملة الوسائل التي يستعملها الإِنسان لإِثارة المشاعر والعواطف، وبخاصة عاطفة الجمال، كالتصوير والموسيقى والشعر، أي أنه تعبير جَماليّ مِثالي يختصّ بحَضارة معيَّنة، إضافة إلى أنه مهارةٌ يَحكُمُها الذوقُ والمواهب؛ فهو في مجال العلوم يشير إلى إحسان تحصيلها والقيام عليها.
فالفن في جوهره هو الإبداع، والإبداع في أبسط وأعمق صوره هو الخلق على غير مثال، وهو ما يعني قدرة الإنسان على إثارة الدهشة بتوليد وإنتاج الجديد من الأفكار والأعمال والمبتكرات، بما يدفع الحياة الإنسانية لأن تكون أرقى وأعمق وأجمل، سواء على المستوى المادي من تطور في وسائل الحضارة، أو على المستوى الفكري من ارتقاء في استخدام مهارات العقل الإنساني، أو على المستوى الإنساني من عمق في التعرف على الروح الإنسانية ومحاولة الوصول بها إلى مرحلة سلام لا تزال تنشدها.
الفن ليس بعض الممارسات المبتذلة ضيقة الأفق غير المسؤولة التي يقوم بها البعض الآن، وكان يقوم بها البعض في كل العصور، بل هو معنى وجوهر الإنسان والحضارة الإنسانية ذاتها، كان البعض يرفضون الشعر لما في بعضه من فحش، فأجيبوا (حسنه حسن، وقبيحه قبيح)، وربما تكون هذه العبارة هي القول الفصل في مسألة الرفض المبدئي للفن، فلا يمكن رفضه كله لاعتراضنا على بعض من ينتسبون إلى بعض مجالاته، كما لا يمكننا أن نتوقف عن شرب الماء لأن بعضهم غص به فمات (وفقاً لرد ابن رشد على الغزالي في تهافت التهافت - مشيراً إلى رفض الغزالي للفلسفة!).
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، وكان بلال هو مؤذن الرسول لأنه (أندى صوتاً)، وكان حسان بن ثابت ينشد أمام الرسول (بانت سعاد)، وكان العرب يغنون للإبل لكى تهون عليهم المسافات، على الإبل والمسافرين معاً.
الإنسان لا يرتدى من الثياب ما يستره فقط، بل ما يرضى حاسته الجمالية، ولا يأكل ما يحشو به بطنه فقط، بل ما يشبع ذوقه في الطعام، ولا يسكن في بيوت بلا جمال ولا زينة، ولا يتحدث بلا لباقة، ولا يفكر فيما تحت قدميه بل في مستقبل البشر لسنوات وقرون قادمة، الإنسان يتفكر في خلق الله، ويشعر بجمال الكون المسخر له، ويعبر عن أفكاره هذه، ويعبر عن مشاعره تلك، ويواجه تعقيدات الحياة اليومية الفردية والاجتماعية والنفسية باستخدام ملكاته جميعاً، ليبتكر الحلول التي تجعله أكثر سعادة، وتجعل حياته أكثر يسراً وغنى وعمقاً، هذا الإنسان الذي يسعى طوال الوقت إلى الارتقاء بمستوى احتياجاته، وبوسائل إشباعها، هو الفنان في أكثر صوره قرباً إلى الحياة، لقد جعل الأوروبيون الجمال في المتاحف، وكان العرب يعيشون الجمال في بيوتهم، وأثاثها، وخيولهم وإبلهم، بل حتى في شبابيك البيوت وفى (المبصقة)، فكيف ينقلب الحال بالبعض ليرفض الفن فيرفض معه الجمال، والتفتح على الحياة، والارتقاء المادي والنفسي والروحي، أليس من المناسب أن يعيدوا النظر في موقفهم الآن بعد أن فات الأوان بالفعل منذ زمن بعيد؟!