لا تكاد تمر بشارع أو حي، أو تصادفك مشاهد على قناة أو صحيفة محلية أو دولية إلا ويشد انتباهك إعلان أو إشهار لمنتوج صناعي ما، أو خدمة ما، على شكل صورة ثابتة أو مقطع حقيقي مصور أو صوت مرنم أو حتى كرتون ملون، يدعوك حتماً لاقتناء ذلك المنتوج أو يعمل على إغرائك أو إقناعك بحاجتك الماسة لاقتنائه.
يعد البعض من منتقدي ترويج الصناعات الحديثة التي باتت تعتمد على إعلانات وإشهارات، قد تصل جماليتها حد تحويل المجتمعات بهذا الأسلوب الجديد للترويج للسلع والخدمات، إلى مستهلكين يرضخون لما يقدم لهم في إحدى الصور دون ترك فسحة للاختيار، إما بسبب التأثير المصور وإما بأسلوب التقديم الجميل الذي يخبئ أكثر مما يظهر عيوب المنتج أو الخدمة.
في مجتمعات العالم العربي وكباقي المجتمعات الغربية السابقة، شكل تطور الصناعات في معظم المجالات، طفرة نوعية رافقت اختراق العولمة للمجتمعات وتحولها لمجتمعات استهلاكية، إلا أن المجتمعات العربية ظلت -وحتى وقت قريب- الأقل في سلم الاستهلاك، مقارنة مع باقي المجتمعات، وذلك لعدة أسباب، هناك من يجعلها متعلقة بضعف القدرة الشرائية للفئات المجتمعية، وهناك من يعد الصناعات العربية في أسلوب تقليدها للغرب لم ترق بعد لسلم المنافسة، إلا أن هناك من يرى السببين السابقين غير مقنعين بقدر ما يشدد على أن ضعف أساليب الترويج وجماليات التقديم هي من تقف حجر عثرة في تطور الترويج للصناعة الإنتاجية في الرقعة العربية.
تطور الإنتاج بالاعتماد على الإشهار بين الماضي والحاضر
يعد الإشهار نشاطاً اتصالياً قديماً قدم المجتمعات الإنسانية، يمتد تاريخياً منذ أن استخدمه الإنسان البدائي كوسيلة لتلبية حاجاته المعيشية والتعبير عن متطلباته للآخرين بهدف إقامة العلاقات التبادلية التجارية، حيث عمل التجار إلى إطراء سلعهم بالمناداة حيناً، وبتعليق اللافتات في واجهاتهم أحياناً أخرى، فعرفته مختلف الحضارات القديمة لكن بصورته البدائية التي كانت تتماشى ومتطلبات إنسان تلك العصور.. كما كان التجار البابليون يستأجرون الناعقين الذين يعلنون عن التاجر وبضاعته للمارة في الطرقات واستعملوا رموزاً وعلامات تشبه العلامات التجارية علقوها فوق محلاتهم لتمييز نوع تجارتهم، أما القبائل العربية فكانت تعلن عن أجود إنتاجاتها من الشعر والأدب في سوق عكاظ، ليكون الإشهار للمنتجات قد أخد في البداية الشكل الشفهي المسموع. ولم يعرف الإشهار تطوراً واسعاً إلا بعد اختراع الألماني غوتمبرغ الطابعة عام 1438م، الشيء الذي أدى إلى ظهور أول أشكال الإشهار الموسع، كالملصقات المطبوعة والإشهارات الموزعة باليد، وفي عام 1472م أخرج ويليام كاكستون أول إشهار دعائي في إنجلترا، والذي كان عبارة عن ملصق تمّ تثبيته على أبواب الكنائس يعلن عن طرح كتاب في المكتبات.
وفي عام 1875م ظهرت وكالة الإشهار الأمريكية إن دبليو آيرولد، فوظفت محررين ورسامين ونفدت حملات إشهارية متكاملة لعملائها، وهكذا أصبحت أول وكالة إشهار حديثة.
الجمالية في خدمة الترويج للمنتوجات
تتفق مبادئ الإنتاج العالمي على أن المادة الإعلانية للمنتوج ولكي تكون أكثر جذباً للمتلقي وتأثيراً في سلوكياته في اتجاه التفاعل الإيجابي مع المنتج/الخدمة؛ يجب عليها أن تتضمن عناصر جمالية محكمة تعتمد بالأساس على ست خطوات أساسية يؤدي اتباعها إلى خلق رسالة إشهارية ناجحة تحقق جميع الأهداف التي صممت من أجلها، للترويج للمنتج الصناعي، ورمزوا لها بكلمة إنجليزية واحدة هي AIDCMA التي هي عبارة عن الحروف الأولى التي تعني الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الإقناع، الاستجابة والذاكرة، وهي العناصر التي لا يقتصر تحقيقها فقط على ما هو تقني محض، بل يتعداه لما هو جمالي فني بنسبة كبيرة، وهو يميز لنا بين مادة ترويجية تزخر بمقومات فنية تؤثر في المتلقي بشكل كبير، وبين مادة ترويجية ناقصة من حيث الجمال الفني، تؤدي بالنهاية لعدم إبراز أفضل خصائص المنتوج، لتجعل منه بالنهاية شيئاً غير مرغوب فيه من طرف المتلقي.
يعد خبراء التسويق في الشركات الغربية، الإعلان كأقوى أداة لإنشاء (الوعي awareness) عن الشركة أو المنتج أو الخدمة أو فكرة ما، فتكلفة الوصول إلى الآلاف من الناس فرادى تبقى صعبة إن لم تكن مستحيلة، في مقابل الفرص التي توفرها الإعلانات، خصوصاً إذا كانت هذه الإعلانات مبتكرة، حيث تستطيع أن تبني صورة ذهنية image، بل بعض القدر من التفضيل Preference أو -على الأقل- قبولاً للعلامة التجارية brand acceptability.
أغلب الإعلانات التي تميز الإنتاجات العربية وحتى وقت قريب مع بعض الاستثناء مؤخراً، والتي يظهر غالبها على وسائل الإعلام والاتصال العربية، تبدو بحسب الكثيرين غير جذابة، ويكفي تفحص إعلانات عدد من المنتوجات ليرى كيف أنها متشابهة وليست ذات صلة بالموضوع.
ينفق الغرب أموالاً طائلة على إعلانات تجارية، قد تصل ملايين الدولارات، فقط لإنتاج وصلة إعلانية بمقومات فنية عالية، فتصدمنا أحياناً أخبار هذه الصفقات بين مشاهير وفنانين من الغرب وشركات عالمية، حتى يتساءل المرء عن جدوى كل هذا، ومنه عن موقع الشركات الإنتاجية العربية في هذا السباق نحو تقديم الأفضل للمتلقي، وحول ما إذا كانت إعلانات الشركات العربية تستفيد من خدمات الفنانين والمبدعين في صياغة إعلانات صناعية وتجارية تحترم المتلقي بالدرجة الأولى، وتصل غايتها وأهدافها، لكن بالنهاية تحافظ على قيمة الفنان العربي.
ترويج الفنان العربي للإعلانات
غزت الفضاء العربي مؤخراً موجة واسعة بين الفنانين العرب وخصوصاً المغنين الشباب، يعملون من خلالها على بيع مضامين إنتاجاتهم الغنائية إلى الشركات التجارية العالمية، إما عن طريق ربط المنتوج الصناعي بالكليب الغنائي مباشرة، وإما بتحوير كلمات الأغنية الأصلية لتتماشى كلمات تمجد في المنتج الصناعي، الخطوة تلك ورغم أنها جاءت في سياقات متعددة تبتدئ باضطرار الفنان العربي مكرهاً بسبب ظروفه المادية أحياناً أو رضوخه للإغراء المادي أحياناً أخرى، إلى قبول شروط مجحفة في حقه وحق فنه الذي لا يقتصر عليه ليصبح منذ طرحه ملكاً لجمهوره.
لقد دأبت الشركات التجارية تستعين بنجوم الغناء في العالم العربي لإطلاق حملاتها الإعلانية، وكانت تلك الحملات تتضمَّن أغاني مصورة، تنتج خصيصاً لترافق الحملة الإعلانية، كما اتجه بعض المطربين إلى إدراج الإعلانات عن المنتجات التجارية داخل الفيديو كليب، فالكليبات التي يدّعي أصحابها أنها أنتجت لأغراض فنية حملت طابعاً تجارياً، وذلك أثّر بالسلب على جودة الفيديو كليب في العالم العربي. إذ أرغمت التعاقدات مع الشركات التجارية، المخرجين، على أن يبنوا مشاهد وحبكات درامية خارجة عن سياق الفيديو الكليب، فقط لتصوير المنتج.. وعام 2003، قامت الفنانة اللبنانية نانسي عجرم، بتصوير أغنية خاصة بشركة (كوكا كولا)، وهي (قول تاني كده)، وحينها لم يكن موضوع تسويق المنتجات عن طريق النجوم أمراً مستفزاً، خاصةً أنَّ الشركات كانت تتحمل عبء إنتاج وتصوير وتسويق الفيديو كليب للفنان، باعتباره جزءاً من الحملة الإعلانية، وشكّل ذلك حافزاً لدى بعض الفنانين للتعاقد مع الشركات التجارية سعياً لتحقيق انتشار أوسع لكلا الطرفين .
يعد الفنان الكوميدي المغربي عبدالإله عاجل، وهو أحد المعارضين لتوظيف وجه الفنان في الإعلانات التجارية أو الصناعية بشكل فج، أن (سرّ نجاح الإشهار يكمن في التكرار، موضحاً بأنه وإذا كان الفنان يربح أموالاً طائلة من الإشهار فأين هو الإبداع؟ أين هو الفن؟ ويجيب بأنه غير موجود، مبرراً ذلك بأن الإشهار يأخذ من الفنان أكثر مما يعطيه).
لقد أثرت الصناعات الإنتاجية في وقتنا الحاضر في تحريك المنتجين في المجال العربي نحو البحث عن بدائل جديدة للوصول لوعي المستهلك، إلا أن الاقتصار اليوم وبأسلوب وحيد على إفراغ الفنان من قيمته الفنية من خلال استغلال فج لمضمونه الفني عوض إشراكه في العملية الإنتاجية منذ البداية على أساس مبدأ رابح/رابح، يحافظ فيه الفنان والمبدع على قيمته وتصل فيه الشركات الإنتاجية إلى أهدافها بشكل أفضل، يسائل اليوم واقع الفن والإنتاج الصناعي عندنا.