إن أخطر أنواع الغزو الحضاري وأشدها تمكناً من ثقافات الأمم تلك التي تبدو متنكرة في شكل بضاعة فنية تدجن الأذواق، أو في قالب سلعة تجارية محكمة التزيين تلائم الحاجات. وأكثر الأمم اليوم تتوسل في تأثيرها الاقتصادي برصيدها من الفن والقيم الجمالية وتراثها الثقافي لتضمن توجيه نمط حياة المستهلكين وحاجاتهم المتجددة لمنتوجها. أما الطريق إلى ذلك الغزو فلا تخرج عن إستراتيجية متمكنة قوامها ربط القيمة الاقتصادية للبضاعة بقيمتها الفنية المؤثرة.
هل قيمة الإبداع اقتصادية أم فنية؟
يوما بعد يوم تزداد في عصرنا الصلات بين الثقافة والاقتصاد، فتحول إنتاج الأعمال الفنية إلى صناعة ذات مردودية وصارت الصنائع التقليدية تتوسل بالرؤية الفنية الجمالية لتسوق بضائعها وتقنع الزبائن بالاستزادة من منتجاتها، وقد واجه الناس في ثقافتنا العربية هذه الحقيقة بحيرة لا تخلو من سذاجة، حيرة يترجمها السؤال: «هل صارت قيمة أي عمل فني تقاس بقيمته الشرائية؟» تخفي تلك الصيغة الاستفهامية قدراً من الصد والإنكار للظاهرة، وهي صيغة في الحد الأدنى لا تخلو من الغمز والتعريض، فالمسكوت عنه في حيرتنا يشير إلى أن العمل الفني يفقد قيمه السامية لمجرد أنه تحول إلى بضاعة تباع وتشترى. وأي ضير في أن يكون الفن سامياً ومربحاً في الآن نفسه؟
الحق أنه لا وجود لفن خارج دورة الاقتصاد ولا يمكننا أن نعيب فناً لمجرد أنه يحقق لصاحبه عائداً ربحياً فقد بتنا اليوم نتحدث عن صناعة الفن بما تحمله العبارة من مضمون تجاري واقتصادي ولا ينقص ذلك من سمو الفن وقيمه شيئاً. وفي أحسن الأحوال ربما قاد تسليم بعض أهل الثقافة - ممن قبلوا الظاهرة على مضض - بأنه لا مهرب من الربط بين الفن والدورة الاقتصادية إلى سؤال بديل قوامه: «هل يملك العرب فناً على قدر من السمو والثراء القيمي ليدخل دورة الاقتصاد العالمي فيحقق مردوداً ربحياً؟».
لا يبدو لنا هذا السؤال أقل سذاجة من سابقه، وهو في صيغته هذه - وإن أقر بعلاقة الفن بالاقتصاد - يبدو حاملاً لوهم كبير ينخر في وعينا الثقافي العربي يجعل جودة العمل الفني ضمانة لتسويقه فيجعل كثيراً من أصحابه يعيشون خارج منطق العصر ومفاهيمه الاقتصادية المتجددة، أفلا تدل هذه الصيغة الساذجة أن مجرد حدوث الإبداع أو إنتاج عمل فني مرموق يمكن أن يضمن مردودية اقتصادية. وكما أن التاجر لا يضمن أن تشترى من رفوف متجره بضاعة ثمينة إن لم يحسن تسويقها وعرضها بذوق فكذلك أعمالنا الفنية العربية لا يمكن أن تغزو الآفاق إن افتقدت إلى إستراتيجية تسويقية مهما سمت قيمها وارتفعت أسهمها في ميزان الفن.
تقابل وهمي بين الفن والاقتصاد
لم يعد ممكناً حينئذ أن نهتم في عصرنا الحديث بالقيم الفنية في الأعمال الإبداعية بمعزل عن طرق تسويقها ومردودها الاقتصادي، ولم يعد بوسع مجتمعاتنا العربية أن تواصل تجاهل حقيقة صارخة قوامها أن كل سلعة أو منتج اقتصادي وافد مهما أوتي من إتقان لا يمكن أن يصل إلى المستهلك العربي دون أن يزين بلبوس فني ودون أن يحمله أصحابه قيماً ثقافية ذات سلطان على النفوس تمارس ضروباً من التوجيه والتأثير.
ويبدو لنا هذا التقييم الذي يفصل بين مجال الربح الاقتصادي ومجال الفن المتعالي عن الكسب غير السالم من الحيف والتبسيط. أما الحيف فلأنه يجعل التجارة والتسويق في العمل الفني شبهة وتهمة، وأما التبسيط فلأنه يجعل ميزان القيم عند الحديث عن علاقة الثقافة بالاقتصاد ضمن ثنائية استقطاب حادة لا تعكس علاقة مركبة ومثمرة بين المجالين حتى بتنا نتحدث اليوم في مجال القيم عن ثقافة الاقتصاد وعلاقة الفن بالتسويق ومفهوم الاقتصاد الأخلاقي فهل ما زال هناك مجال للجزم بأن الفن والثقافة يكتسبان قيمهما السامية فقط حين يبقيان مثاليين متعاليين على منطق الربح والخسران؟
يبدو هذا الاستقطاب في نظرنا أمراً موهوماً وهو يدل على منطق أرسطي قديم همه تصنيف الأشياء إلى ثنائيات متضادة يناقض بعضها بعضاً والحال أن المنطق المعاصر متعدد القيم يجعلنا ننظر إلى الأشياء وما يجمع بينها من علاقات خارج سجون الثنائيات. لذلك يحسن بنا أن نستدرك هذه النظرة المعيارية الضيقة إلى علاقة الفن بالكسب فما يوجد في حياتنا يدل على أنه لا حياة للفن خارج منطق الربح والخسارة.
وتشير الدكتورة إريك مورتون المتخصصة في التاريخ الثقافي الكندي والأعمال الثقافية المرئية إلى أن التراث الفني الشعبي مثلاً يصبح ذا مردودية اقتصادية عندما تراهن عليه سياسات الدول وتستثمر ما فيه من تعبير جمالي جذاب وتضيف في كتاب صدر منذ سنة يعتني بعلاقة التراث الفني بالاقتصاد في القرن العشرين ويحمل ذات العنوان أن ددد ‑دددد الاقتصادي لموروثنا الفني يغذي شعوراً جمالياً بالحنين إلى خصوصياتنا الثقافية ويوفر للفنانين في مختلف القطاعات مجالاً لاستلهام أعمال جديدة قابلة للاستثمار الاقتصادي. ولذلك بدل أن نضيع الوقت في البحث عن شكل فني متعال عن منطق الربح ومتمسك بتحقيق قيم مثالية نبيلة سامية في إطار محلي، علينا أن نبحث عن الأشكال التجارية الملائمة التي تجعل من زواج القيم الفنية والاقتصاد زواجاً شرعياً مثمراً يضمن لثقافتنا إشعاعاً بين الأمم ويفتح للرزق أسباباً وسبلاً جديدة.
وجوه متعددة لاستثمار الفن
لقد ارتبط الإبداع تاريخياً بانخراطه في الدورة الاقتصادية لكل مجتمع، ومن النادر أن تجد نحاتاً أو شاعراً أو رساماً أو موسيقياً لا يقتات من إنتاجه وبيع أعماله، إلا أن لهذا الانخراط وجوهاً شتى، لكل وجه منها انعكاس على قيم الفن. ويمكن أن نحصي لهذه العلاقة ثلاثة وجوه رئيسة:
أما الوجه الأول ففردي يتعلق برغبة الفنان في أن يحيا حياة كريمة ويضمن لنفسه وعياله قوته اليومي، ولنا في تراثنا ما يدل على رسوخ هذه العلاقة من خلال الشعراء المتكسبين الذين يمدحون فيحصلون على المال. لكن المال هنا ليس مجرد ثمن لبضاعة بل هو قيمة تتغير وترتفع كلما كان الشعر جيداً. ولنا في تراثنا زخم كبير من الأخبار والسير التي تدل على أن الشاعر وهو يمدح يحقق ذاته ويعلي من قيم يؤمن بها، وقد اجتهد الدكتور مبروك المناعي في مؤلفه الشهير «الشعر والمال» في إثبات وجود قيمة جمالية للمال في الشعر العربي القديم فيتحول بها إلى سبب للإبداع وحلية أسلوبية تزيد من شرف المعنى وشعريته. وهو في الحد الأدنى يمثل آلية من آليات الإبداع الأدبي، ولا نذكر أن كبار النقاد قد حط من شأن شاعر لمجرد أنه كان يتكسب بشعره.
أما الوجه الاجتماعي فيتعلق بدخول الفن إلى الدورة الاقتصادية باعتباره حرفة أو صناعة، ومن اللافت أن العرب تسمي الحرف والفنون على حد السواء صنائع، فكل من الموسيقى والشعر والغناء تمثل صناعة مثلما تكون الحياكة والنجارة والحدادة صناعة، ومن الواضح أن ابن خلدون يقصد هذا البعد الاقتصادي الاجتماعي الذي يحول الفن إلى مهنة حين يزيد في تدقيق المصطلح فيعتبرها كلها «صناعة معاشية». وشرط ذلك أن تنخرط في وجوه المعاش فتكون جزءاً من حضارة الإنسان لأن الحضارة عنده «إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه النفوس من الشهوات والملاذ والتنعم بأحوال الترف وما تتلون به من العوائد». ويدل منطوق كلامه على أن دخول الفن إلى ميدان الصنائع علامة على الترف ودرجة عالية من التحضر والثقافة.
أما الوجه الحضاري لهذه الصلة بين الاقتصادي والفني فيتعلق بتحولات كبيرة في الفكر الإنساني الحديث ارتبطت بثورة اتصالية وإزالة الحدود بين المجالات فأصبح منظرو الاقتصاد يتحدثون عن أبعاد عميقة في النشاط الاقتصادي من بينها البعد الفني والبعد الثقافي. ولم يكن ذلك ترفاً في التفكير بقدر ما هو إيمان راسخ بقدرة الفن على تسويق المنتوج الثقافي ونشر قيم بعينها والتأثير بها اعتماداً على سلاح مزدوج الفن/التجارة، وهنا يطرح الوجه الحضاري قضايا متعددة تتصل بعلاقة الاقتصاد بالفن؛ منها قدرة الفنان على أن يسوق السلعة دون أن يشيء قيمه الفنية السامية ومنها قدرة البضاعة على التأثير في المستهلك اعتماداً على ما تحمله من قيم فنية وثقافية خاصة. ومنها خاصة قدرة المجتمعات على أن تتحكم في هذه الظاهرة وتطوعها لخدمة ثقافاتها الوطنية بدل أن تكون مدخلاً لغزو حضاري.
الاقتصاد الأخلاقي وتصنيع الفن
الاقتصاد العالمي يميل إلى سوق موحدة تجمع ثقافات متعددة وهذا ما خلق ضرباً من التصنيع لكل شيء ليلائم متطلبات سوق حرة منفتحة قائمة على المبادرة الخاصة. الفن لم يسلم من ذلك وتحول إلى سلعة حمالة لقيم. ويتحدث البروفسور بيتر كوسلفسكي من معهد البحوث الفلسفية بهانوفر عن الاقتصاد الأخلاقي بوصفه تفسيراً للعوامل الثقافية المسببة للسلوك الاقتصادي في مجتمع ما، فيكون ضرباً من اختبار القيم الثقافية والفنية التي تجمع الناس على الاستهلاك فيكون الإنسان مركزاً للنشاط الاقتصادي، وبطبيعة الحال تكون ذائقته الفنية هي الأكثر استهدافاً فتحمل البضائع لبوساً يناسب ميولاته. ومن الواضح أن البيئة العربية لا تزال في هذا الصدد تنفعل بتأثير السلع وطرق تسويقها الفنية لأنها بيئة لا تحسن دمج منتجاتها الفنية في ما تعرضه من بضائع للسوق العالمية.
إننا نحتاج حينئذ إلى دمج ميزانين لتكون بضائعنا أكثر رواجاً بين الأمم؛ ميزان الفن وسموه وما يحمله من قيم تقدمنا للآخر في صورتنا الأصلية وميزان التسويق وفنونه الذي يضفي على منتجاتنا طابعاً تأثيرياً يقدم للآخرين أسباباً ذوقية مقنعة ليقبل على ما نعرضه عليه. وفي هذا الميزان الأخير ميزان التسويق تحتاج الثقافة العربية إلى طاقة الابتكار ومعرفة بالآخرين وذكاء الاختيار، وتبدو هذه المهمة على قدر من الخطورة والعسر لسببين على الأقل. أما السبب الأول فيتعلق بارتباط فن التسويق بمعطيات كثيرة تتصل بالجمالي والاجتماعي والنفسي والتجاري، وأما السبب الثاني فيتعلق بنجاعة الاعتماد على عمل المؤسسات التي تحسن توظيف الفن في تخطيطها وليس هناك ما هو أنسب من مراكز البحث الإستراتيجي وهياكل البحث في الجامعات في هذا الخصوص.
يشير السياسي الديمقراطي لورانس ليسيج في كتاب حديث صدر سنة 2008 حول مزج الفن بالتجارة إلى أن ترك الحرية المطلقة لهذا الامتزاج يشكل خطراً على أطفالنا وأن المتعة التي ترافق شراء البضائع ونحن منبهرون بجمالها وتصميمها الفني يمكن أن تكون ذات عواقب وخيمة ولذلك وجب تقييد الشركات حتى لا تعبث بحقوق الفنان وتزيف رسائله السامية وتطوعها لخدمة غايات ربحية تزيف قيم الفن فيتحول ذلك المزيج الفني التجاري من نعمة إلى نقمة. في المقابل يقترح أن نربي الأجيال الجديدة على نمط جديد من التفاعل بين الفن والتجارة يسميه «اقرأ واكتب» read / write وهو يتعلق بنمط التجارة الإلكترونية عبر الإنترنت حيث يتحول المستهلك من مجرد متقبل إلى مبدع لأشكال فنية. وهو بذلك ينظر لنمط اقتصادي جيد يسمى الاقتصاد التشاركي أو الاقتصاد المختلط يختار فيه المستهلك ما يساهم فيه المستهلك في القيمة الفنية للبضاعة.
مبدأ الاستثناء الثقافي
إن الأعمال الفنية حتى وإن تحولت إلى بضاعة ثمينة عالية القيمة حمالة لقيم ثقافية فليس بديهياً أن تكسر جدار المحلية فترتاد الآفاق والأسواق العالمية. لأن الأمر في هذا النوع من البضائع يثير مسألة غزو الثقافات الأخرى بقيم جديدة. ويستدعي ذلك وعياً من الفنان بالأبعاد الاقتصادية لتوظيف فنه يكون قادراً متمكناً على الملاءمة بين جمال الشكل ونفعية القصد وعمق الرسالة الثقافية. فعليه أن يتقن مخاطبة النفوس واستنهاض الذوق فتألف عمله نفوس جديدة من خارج ثقافته المحلية. ذلك ما تفعله كثير من الشركات العالمية حين توطن مواهب الفنان وتخصص قسماً للتصميم والابتكار ودراسة الذائقة الفنية للأسواق المزمع ارتيادها.
ولا نعتقد أن القرائح العربية بعيدة عن هذا الأفق فما أكثر المبدعين العرب وما أعمق ما ينتجه كثير منهم من أعمال لا تقل شأنا عن نظرائهم في الإنسانية، لكن قل أن تجد تلك الأعمال طريقاً صائباً لتسويقها بين الأمم وندر أن تعير مؤسساتنا الاقتصادية اهتماماً بمواهبهم فتستثمرها لتضمن لاقتصاداتنا الوطنية مزيداً من الإشعاع ومسالك جديدة لأسواق لم ترتدها من قبل. إن ما هو أعسر من إنتاج الفن حينئذ هو تصنيع الفن وتسويقه، وأعسر من ذلك كله تسويق ما فيه من قيم فنية وحضارية وسط ثقافات جديدة.
ولا يذهبن في ظننا أن مجرد استثمار الفن في الاقتصاد سيفتح آلياً أسواقاً جديدة تعد بكسب وفير وتضمن مستهلكين طيعين. أبداً فكل ثقافة من طبعها أن تحترز من الوافد الجديد خصوصاً إذا كان ذلك الوافد يحمل مضموناً ثقافياً أو فنياً مختلفاً. فالأمر يتعلق بمناعة الأمم وتأبيها عن الغزو الثقافي خصوصاً تلك الأمم المتقدمة التي يدرك أهلها أن أي بضاعة وافدة خاصة إذا أُلبست لباس الفن فلا شك أنها تحمل معها قيمة ثقافية تبحث عن موطئ قدم بينهم، فمعلوم أن لكل ثقافة قيماً خصوصية تستميت في الدفاع عنها وتنكر على غيرها أن تأخذ مكانها.
قد لا تطرح هذه المسألة مع الأعمال الفنية الوافدة فنحن ندرك مسبقاً أنها تصدر عن ثقافة مختلفة وتحمل قيمها الخاصة ولنا الخيار في تبنيها أو الإعراض عنها أو التفاعل معها، لكن الأخطر من ذلك هو تضمين تلك القيم في السلع التجارية فتتسرب إلى النفوس من طريق خلفي، طريق غير واع لا يدركه إلا المتمرسون في تحليل الخطاب وتفكيك آليات التسلط الثقافي المدروس، ولذلك يحدث أن تكون القيمة الفنية للبضاعة مقدمة لغزو ثقافي ماكر، يحدث ذلك بتخطيط ويضمن خصوصاً في تلك البضائع التجارية التي تتوسل بالفن رسماً وموسيقى وتصميماً، فن غير مقصود لذاته إنما هو حصان طروادة يمهد العقول للتدجين والذائقة لقيم بعينها فلا نستهلك البضاعة من باب سد الحاجة الاقتصادية فحسب بل نتلقى منها إضافة إلى ذلك توجيهاً ثقافياً إلى قيم محددة قد تكون اجتماعية أو دينية أو جمالية، فيكون ما هو أولى بالاحتراز حقاً هو ما تحمله البضاعة المتزينة بالفن من قيم وافدة قد لا تكون جميعها قيماً مناسبة للثقافة المستهلكة.
لهذا السبب ابتدع الفرنسيون سياسية حمائية إزاء البضائع التي تحمل مضموناً فنياً سموه «مبدأ الاستثناء الثقافي» Cultural exception وقد ضمنته فرنسا في الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية (GATT) عام 1993 وكان هدفه الاحتراز من السلع والبضائع المتعلقة بالمصنفات الثقافية والفنية المستوردة فيقع استثناؤها من حرية الدخول في اتفاقات منظمة التجارة العالمية، وهو مبدأ يعبر عن قلق من تأثير الأعمال الفنية الأجنبية والأشكال الفنية المضمنة في السلع على الثقافة الوطنية. ويكون هذا المبدأ مدخلاً لتخصيص سياسة حمائية تدافع عن هوية البلد وخصوصياته وقيمه الثقافية حين تتحول المصنفات الفنية إلى سلع اقتصادية ذات قيمة ثقافية.
الثقافة العربية واقتصاد القيم
إن المتابع للكتب الصادرة في كبرى الجامعات الغربية يلاحظ أن المنظرين للاقتصاد يركزون على التحولات الكبرى في الاقتصاد العالمي وخصوصاً هذا الزواج بين الجانب الثقافي والفني والجانب الاقتصادي، ولذلك نراهم يتحدثون عن اقتصاد القيم، والقيم هنا ليست قيماً اقتصادية بالمعنى الخلدوني الذي يعبر عنه الاقتصاد السياسي بميزان التبادل والندرة والكلفة والثمن، وهي ليست كذلك قيماً أخلاقية بالمعنى الديني والاجتماعي، بل هي قيم ثقافية بالمعنى الفني الجمالي. الاقتصاد يتشكل ويبني إستراتيجيات التسويق والإنتاج والغزو بناء على القيم الثقافية والجمالية التي تميز ثقافة المنتج وهو في نفس الوقت يبني الخطط والإستراتيجيات ليطوع القيم الثقافية للمستهلك لتلائم منتوجه وتخلق عنه شعوراً دائماً بالاستزادة، وأخطر ما في الأمر أن هذا الشعور يمر في سلوكنا دون وعي به أو انتباه لأبعاده الثقافية والاقتصادية بعيدة المدى.
وليست المجتمعات العربية بمعزل عن هذه التحولات، فموقعنا الجغراسياسي والاقتصادي يجعلنا جزءاً من هذه التحولات وهدفاً محتملاً لسياسات اقتصادية تستهدف أسواقنا ولكنها تستهدف تمهيداً لذلك قيمنا وثقافتنا ووعينا. لأن الفن وسيلة للاقتصاد ومحمل من محامله، وليس للنخب الفكرية الاقتصادية العربية خيارات كثيرة في هذا الخصوص، فإما أن يكونوا فاعلين متبنين لخيارات اقتصادية تضمن لهم حضوراً اقتصادياً في المشهد العالمي اعتماداً على ثراء مخزونهم الثقافي، أو أن يكونوا سوقاً مستهدفة تنفعل بقيم الآخرين، ولا يمكن حينئذ للسياسات الحمائية أن تدفع شراً لابد منه أو تقيهم مخاطر الغزو الثقافي بما يحمله من توجيه لوعي المستهلكين وتدجين لمجتمعاتهم.
إن الفن والقيم الثقافية التي يحملها تمثل رأس مال رمزي يمكن للاقتصاديات العربية أن تستثمر فيه، ولا يمكن لنا نحن أبناء جيل الثورة الاتصالية والاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية والبضائع اللامادية واقتصاد القيم أن نواصل في تجاهل مردوديته العالية في عصر تحول فيه العالم إلى قرية صغيرة. ولا شك أننا مهما تقاعسنا في إدراك هذه التحولات فسنجد أنفسنا مدفوعين إلى سلوكين متكاملين سلوك حمائي يقاوم ما في البضائع من تأثير للقيم الوافدة، وسلوك تجاري توسعي يهدف إلى استثمار قيمنا الثقافية والبحث عن موطئ قدم في أسواق جديدة. وهناك بالتأكيد من قيمنا الثقافية المتصلة بالعائلة والتقاليد والفن ما يمثل خط الدفاع الأول أمام الغزو الاقتصادي والثقافي، ولذلك تحرص الشركات عبر توظيفات فنية على استهدافه لأنه يشكل حاجزاً أمام انتشار سلعها لكن علينا أن لا نبقى دائماً في محل الدفاع لأن أفضل أسلوب حمائي هو أخذ زمام المبادرة والتأثير في الآخرين وتسويق قيمنا اعتماداً على فنون التسويق التجاري ووسائله الفنية المستحدثة.
إن لنا في ما تقوم دول ذات اقتصاديات كبرى عبرة وأسوة حسنة. فالملاحظ أن الصناعات الكبرى في الصين وألمانيا واليابان تحرص عبر سياسات شركاتها على خلق ثقافة اقتصادية تحيط بسلعها يمكن أن تكون ثقافة الجمالية في العطور ومواد التجميل الفرنسية، وثقافة القوة في السيارات الألمانية، وثقافة ذكاء الآلي عند اليابانيين، وثقافة الفخامة والرفاه عند الأمريكيين. تلك قيمهم الفنية المكتسبة ولنا القدرة بالتأكيد على اكتساب طابعنا الفني والثقافي في بضائعنا. ولعل ما نحتاجه اليوم هو الاشتغال على القيم المبثوثة في تراثنا أو استحداث قيم خاصة بنا لتسويق منتوجاتنا، وقد نجحت في ذلك شركات عربية كثيرة في قطاعات كثيرة مثل تسويق قيم الكرم والضيافة والعراقة في مجال الطيران والسياحة. وتبدو المجالات رحبة وفسيحة لطاقة الابتكار إذا ما أحسنت استثمار الفن في الاقتصاد، المهم أن تتحلى بضرب من الليونة والقدرة على التأقلم مع متطلبات السوق العالمية، فأحياناً تتطلب حيازة موطئ قدم في مجال شديد التنافس قدراً من الفطنة الفنية قبل السيولة المالية؛ هي أولاً وهو المحل الثاني.