مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

إستراتيجية الفن والفنان في البناء الحضاري والإنتاجي

لا مجادلة في أن الإبداع فن، وأن الفن إبداع، ويمكن القول إن (الفن) مصطلح شاسع وعميق، ذلك لاتساع دائرة مجالات اشتغاله. ويتحدّد مفهومه من خلال مقاربة المجال الذي يصبّ فيه، أو يحدده، أو المصاحب له أو الإطار الذي يحتويه، مثل (فن الشعر، فن الكلام، فن التشكيل، فن الرسم، فن الخط، فن التصوير الضوئي، فن النحت، فن المعمار أو الهندسة المعمارية، فن الموسيقى، فن التمثيل، فن السينما..) وغيرها من الفنون المتنوعة التي يضيق المقام هنا لحصرها، والتي يحتل فيها (الفنان Artiste ) المكانة الأساسية، باعتباره العمود الفقري في العملية الإبداعية، كما تلعب المهارة والبراعة والحِذق هنا دوراً رئيساً، إذ تجعل من إبداع الفنان ومنتوجه الإبداعي مختلفاً ومميزاً عن غيره، وبخاصة إذا علمنا أن «الفنّان هو من يأتي بالعجائب...» (المعجم الصافي في اللغة العربية، تأليف صالح العلي الصالح وأمينة الشيخ سليمان الأحمد / الصفحة 505). كما يطلق على (الفن) أيضاً: «ما يساوي الصنعة... وأنه تعبير خارجي عما يحدث في النفس من بواعث وتأثرات بواسطة الخطوط أو الألوان أو الحركات أو الأصوات أو الألفاظ...» (معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب...) الصفحة 278 و279).
و(الفن) ذلك اللّون المتميز من التعبير المختلف، الذي يسمو عالياً بالروح والوجدان، ويتغلغل في أعماق النفس الإنسانية والكيان. ومن خلال تشكّلاته الفنية، وتمظهراته الجمالية؛ يبني الإنسان عالمه الوجداني الجميل، ويؤسس للحضارة تاريخها المجيد، ويغرس في عالم البشرية قيم الذوق الرفيع والحسّ النبيل والنظرة الثاقبة للكون، وللأشياء المحيطة بنا. 
وأعتقد كذلك أن (الفن) خطاب بصري بامتياز، يرتكز على الرؤية البصرية، وعلى المحسوس أكثر من غيره من الأعمال الإبداعية الأخرى، التي يلعب فيها الشفهي دوراً أكبر، لذلك فالخطاب الفني بمختلف أطيافه وأشكاله يمتطي صهوة المقصدية، ويركب جناح الرسالة المتاحة في عملية التواصل الأفقي مع حاسة البصر، إذا كان الموضوع تشكيلاً صامتاً كاللوحة التشكيلية، أو الجدارية. ومع حاستيْ البصر والسمع؛ إذا كان العرض سينمائياً يعتمد على المشاهدة والاستماع. ومع حاستيْ البصر واللمس، إذا كان الإبداع نحتاً تجسيدياً. إضافة إلى التذوّق الجمالي الذي يجعل المتلقي يحس شعورياً بالنواحي الجماليّة في العمل الفني. والتي تربط في رسالتها بين ثلاثة عناصر أساسية وهي (الفنان/المرسل) = (الفن/الرسالة) = (المتلقي/المُستَقبِل)؛ ومدى تفاعلها وتأثيرها في نفسية جمهور المتلقين، وعلى بنية المجتمع، ونسقيته الثقافية والفكرية.
ومن هنا يمكن القول بأن الإنتاج العربي قد استفاد من مهارة الفنّان في الوطن العربي، خصوصاً في مجالات (فن الهندسة المعمارية)، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (حضارة بلاد الأندلس)، إذ تميزت فيها يد الفنان العربي بالإتقان، والدقة المتناهية في رسم الأشكال الهندسية، وزخرفتها بالفسيفساء، كما تميزت بالنقش على الخشب، وبتطويع الجبس على الجدران في تشكّلات فنية راقية. وفي مجالات (فن النحت) نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (حضارة بلاد الرافدين.. والحضارة المصرية)، حيث تميزت ببناء الأهرامات بأروع الطرق الهندسية المُحكمة، ونحت التماثيل الضخمة من الحجارة بمهارة فنية عالية (أبو الهول مثلاً) ،هذا الفن الذي لا يزال في عصرنا الحاضر شاهداً على ذلك.
كما حظي اليوم في البلدان العربية وفي المغرب خاصة (فن الجبس) باهتمام الفنّان العربي، فأبدع وابتكر الجمال الرائع، بما أنتجته يده ومخيلته في هذا الفن من جمال، ولما احتله من تفرد خاص، وامتياز منقطع النظير في مجال تزيين سقوف المنازل والبيوت، وأقواسها، ومداخلها.. وغير ذلك. وابتكر أيضاً في مجال (فن الزخرفة) لوحات تشكيلية وجداريات مذهلة من الفسيفساء التي زينت الساحات العظيمة والنافورات المائية وأقواس المساجد ومحاربها وصوامعها وجدرانها، ناهيك عن تفوق الفنان العربي على غيره في (فن الزخرفة الخشبية) أو ما يعرف بالأرابيسك.
وقد أصبحت المنافسة قوية في الارتقاء بهذه الفنون الإبداعية اليدوية، التي اعتمدت في حقيقتها وجوهرها على المكتسبات والمهارات والقدرات الذاتية والابتكارية، والتي ساعدت أيضاً على تطوير الإنتاج العربي ومنحه دفقة قوية نحو النمو والازدهار.
ولو رجعنا قليلاً إلى تاريخ الفن المعماري في البلدان العربية؛ لوجدناه عبارة عن لوحات تشكيلية خالدة من الفسيفساء والنقوش المنحوتة لا يضاهيه فن، طوّعته يد الصانع/الفنّان العربي، وجعلت منه كتاباً مرئياً مُشاهداً وشاهداً في ذات الآن على أصالتها وأصولها وأخلاقها وقيمها. 
ومن جهة أخرى فقد ساعدت التكنولوجيا الحديثة اليوم على تفعيل دور الفنان (المصمم Designer)، لما أتاحته له من وسائل وتقنيات وبرامج حاسوبية تعمل على تطوير وتجويد منتوجه الفني، مسايرة لمتطلبات السوق الإنتاجية التي سيطرت فيها المنافسة المادية والاستهلاكية على بعض القيم المعنوية الأخرى، وهذا ما جعل بعض الدول الغربية، تحمل شعار (الفن للفن) الرامي إلى تقديم الاعتبارات الجمالية (النفعية) على الاعتبارات الأخلاقية.
فصناعة السيارات مثلاً وغيرها من وسائل النقل أو التجهيز المنزلي، تنال الحظ الأوفر من الفنية والجمالية، وذلك وفق (إستراتيجية) معينة، وعندما نتحدث عن إستراتيجية في مجال الفن أو التجارة أو الصناعة أو الإنتاج، فإنما نقصد عموما كل «عمل يتم القيام به (بطريقة) منسقة لبلوغ هدف ما...» (معجم تحليل الخطاب/باتريك شارودو- دومينيك منغو صفحة: 532). بمعنى أن الفن هنا سيغدو مقيّداً بشروط، يسعى ويطمح إستراتيجياً إلى دراسة مُحْكمة قبلية، للمجتمعات المستهلكة (نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً..)، ترتكز في محورها على الإنتاجية واستجلاب نظرة المستهلك، وفتح شهيته للاستهلاك وتقديمه له في طبق من ذهب، حيث يقوم (الفن) في هذه الحالة بواسطة فن الدعاية والإشهار.

ذو صلة