مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

التصميم من الفن إلى التصنيع.. نماذج تونسية

تعد فنون التصميم عالمياً من أكثر الفنون رواجاً وأهمية لقدرتها على اكتساح مجمل المساحات الحيوية سواء تعلق الأمر بالصناعة أو المعمار أو الأثاث والديكور والإشهار أو الموضة أو حتى الطبخ. ولقد نجحت الدول المتقدمة صناعياً في اختراع أشكال مختلفة من التصميم تراوحت بين التصميم الإيكولوجي، والتصميم الإستراتيجي والتصميم الرقمي. ولقد واكبت دول الوطن العربي آخر تطورات هذه الفنون لكنها لم تنجح دوماً في الاستثمار فيها صناعياً لما تتطلبه من نمو تكنولوجي واقتصادي وثقافي. ورغم ذلك يمكن تثمين بعض التجارب في هذا الميدان. وسنخصص هذا المقال للتعريف بالتجربة التونسية في مجال فنون التصميم بما أنها تجربة نجحت في الاستثمار في المخزون التراثي التونسي العميق وتحويله إلى سيرورة إبداعية من أجل تجديد نمط العيش والسمو بالهوية الثقافية التونسية إلى مقام المعاصرة والعالمية.
تمثل التجربة التونسية في مجال فن التصميم إحدى التجارب الرائدة في الوطن العربي رغم حداثة عهدها وضعف الإمكانيات المالية المخصصة لها، بحيث وقع استثمار هذا الفن في مجالات حيوية عديدة من ذلك النسيج والخزف والحلي واللباس والأثاث وفنون الطبخ والديكور والموضة. وفي هذا السياق يمكن التنويه بتجارب تونسية ناشئة نجحت في تحويل التصميم من فن يقع تدريسه في الجامعة، إلى مشاريع صناعية مهمة في مجالات حيوية مختلفة. وضمن هذا الإطار، لا يفوتنا أن نثمن بادئ الأمر نجاح المدرسة العليا لفنون وتكنولوجيات التصميم -وهي أول جامعة في تونس مختصة في التصميم منذ مطلع هذا القرن (2000)- في تكوين مصممين نجحوا في تصنيع أفكارهم ومشاريعهم من جهة، وفي الانفتاح على البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية معاً من جهة أخرى، وذلك في إطار إستراتيجية أكاديمية وبيداغوجية منفتحة على آخر التصورات الرقمية والتكنولوجيات المتقدمة.
يقوم عمل الفنان-المصمم في جوهره على مفهوم التجديد، دون تشويه للمنتوج الثقافي المحلي في أفق التنمية المستدامة. وعليه يحرص المصمم على الجمع بين بصمة المخزون الثقافي لشعب ما، والانفتاح على آخر التصورات الجمالية العالمية، إضافة إلى الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة الرقمية والصناعية. ولقد تعددت فنون التصميم إلى حد بلغت فيه الانتشار على مجمل المساحة الحيوية للمجتمع. بحيث صرنا نتكلم عن (تصميم فكري) و(تصميم إستراتيجي)، و(تصميم رقمي)، و(تصميم تواصلي)، و(تصميم اجتماعي)، و(تصميم عمومي). وبوصفه فناً عابراً للاختصاصات يعدّ فن التصميم نقطة التقاء بين الجماليات والصناعة والتكنولوجيا والأنثروبولوجيا. إنه فن العيش معاً وعليه فهو فن يفكر في تجديد نمط الحياة لشعب ما على نحو دائم. إنه يقترح حلولاً لأزمة تردي نمط سكن العالم في ظل حضارة استهلاكية حولت ميدان الثقافة إلى سوق كبيرة يباع فيها كل شيء ويشترى.
لكن إذا كانت المجتمعات الغربية والقوى العظمى في العالم (أمريكا واليابان والصين)، قد راكمت تجارب عديدة في مستوى تصنيع فنون التصميم في مشاريع عالمية كبرى، في حقل السيارات أو الموضة أو الإشهار أو فنون الصورة والمعمار فلقد اقتصر الأمر في بعض البلاد العربية، من ذلك تونس نموذجاً، خاصة على الاستثمار في حقل الصناعات التقليدية، الملابس والحلي، الأثاث وفنون الديكور الداخلي.
ورغم ذلك علينا هنا أن نثمن هذه المشاريع الصغرى التي نجحت في الارتقاء بالمخزون التراثي التونسي إلى ميدان العالمية، في إطار إبداع أشكال جديدة من تصميم المنتوج والفضاء واللباس وإستراتيجيات العيش معاً. يتعلق الأمر بالاستثمار الإيكولوجي في مواد تحافظ على البيئة وتتصالح معها، من جهة، وفي تجديد المخزون الثقافي والجمالي المحلي من جهة أخرى وذلك من أجل التعريف بالهوية الإبداعية التونسية وتجديد قوى التنمية البشرية في آن معاً. ونكتفي هنا على سبيل الذكر لا الحصر بالإشارة إلى بعض التجارب أو الأمثلة: يتعلق المثال الأول بمشروع فاكاي (Vakay) للنظارات سنة 2014 (للمصممين آدم جابر وسليمان غربال) وقع فيه تصميم نظارات من خشب، وهو أول مشروع من نوعه في العالم. أما المثال الثاني فهو مشروع (مولود في تونس) (Né à Tunis) 2016 (للمصمم التونسي شمس الدين المشري) الذي نجح في تجديد صناعات النسيج والأثاث والإضاءة والحلي وفي استلهام منتوجاته من التراث مع منحه طابعاً جمالياً وإيكولوجياً جديداً. والمثال الثالث يخص تجربة الفنانة المصممة (زهور غيدارة) في مشروعها المسمى Genre، بحيث نجحت في تصنيع تصاميم فنية إبداعية في الموضة والحلي. والمثال الخامس خاص بمشروع الفنانة (رحمة نجاح) التي نجحت منذ 2014 في تصنيع نموذج من الأحذية الفريدة من نوعها للرجال، وهو نموذج يحمل اسمها. إضافة إلى الفنانة المصممة التونسية (مامية تقتق) التي أصبحت لها شهرة عالمية منذ حصولها على جائزة عالمية في تصميم المعمار سنة 2014. إن جملة هذه التجارب التونسية وتجارب كثيرة أخرى، لا يتسع المقام لذكرها، إنما تمثل عينة إبداعية حية على حركة ثقافية ثرية تعد بإمكانيات لا متناهية لتجديد الذائقة الجمالية ولتحسين نوعية العيش في أوطاننا، وذلك ضمن حركية تقدمية وتنمية بشرية مستدامة. إن تجديد المخزون الثقافي لشعب ما على نحو فني وإبداعي إنما هو علامة على انتماء صحي إلى أنفسنا العميقة وقدرة على الارتقاء إلى مستوى الكونية في الآن نفسه. ولا يفوتنا هنا أن نثمن أيضاً كل مشاريع فنون التصميم التي نجحت في إعادة تأهيل التراث التونسي العميق بلباسه ومطبخه وطرق تأثيثه للفضاءات السكنية ومعماره الإيكولوجي وفنون عيشه المختلفة، والسمو به إلى مقام المعاصرة في أفق تنمية مستدامة ومصالحة مع البيئة الثقافية والطبيعية. وضمن هذا المجال يشتغل الطلبة المتخرجون من المدرسة العليا لفنون وتكنولوجيات التصميم، تحت إشراف أساتذة هم مصممون وفنانون في نفس الوقت، على مشاريع واعدة وإستراتيجيات جديدة، ولقد نالت بعض هذه المشاريع جوائز محلية وعربية.
لكن ضمان نجاح التجربة التونسية في مجال تحويل فنون التصميم إلى مجال التصنيع من أجل تغيير نمط الحياة ونوعيتها وتحسين أساليب العيش وتجديدها، يتطلب تغييراً جوهرياً في السياسات الاقتصادية والثقافية معاً. إذ إن هذا القطاع لا يزال يشكو من إهمال من طرف السياسة الثقافية، بحيث لم تتوضح منزلته بين الثقافة والصناعة، ولأن التصورات الثقافية المحافظة لا تزال تفصل بين ما هو ثقافي وما هو اقتصادي وصناعي وبيئي. في حين أن العالم اليوم قد تجاوز هذه السياسات الثقافية التقليدية نحو إستراتيجيات جديدة قائمة على مناهج تتقاطع فيها كل الاختصاصات، وتؤمن بقدرة الشعوب على إبداع أشكال ذكاء جديدة من أجل أن يكون العالم بيئة صالحة للسكن. وعليه تحتاج فنون التصميم في تونس تحديداً، من أجل التحول إلى حقل التصنيع الناجح، إلى ضرورة التعريف بها ثقافياً والتسويق لها إعلامياً. وذلك لا بوصفها مجرد سلع استهلاكية، ولكن بما هي نماذج على قدرة شعب ما على تخريج فني لهويته الثقافية الخاصة. إضافة إلى ضرورة تشجيع المشاريع الشبابية للمتخرجين من الجامعة من أجل إنجاز مشاريعهم والمساهمة في تجديد المنتوج وفي اختراع قيم جمالية وثقافية جديدة تليق بانتماء موجب وإبداعي إلى الإنسانية الحالية.

ذو صلة