مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

تشارلي شابلن

حينما مثل أول أفلامه كان في الحادية والعشرين من عمره، لكنه كان قد قام بالتمثيل في بعض المسرحيات منذ الرابعة عشرة من عمره، مثّل: دور بيلي في مسرحية (شرلوك هولمز)، فضلاً عن ممارسته للغناء والرقص والبانتوميم. والأخير، ورثه عن والدته الفنانة، بالإضافة لتعلمه عليها أن يدرس الإنسان ويترجم العواطف والأحاسيس بيديه ووجهه، وعن طريق ملاحظات أمه البارعة عرف ما يثير ضحك الناس.
وخلال جولته مع فرقة فريد كارنو في الولايات المتحدة الأمريكية، وقع عقداً مع المخرج ماك سينيت. أما شخصية الصعلوك، فلم يجسدها إلا عام 1915م بعدما طلب منه المخرج أن يضع مكياجاً مضحكاً، فارتدى بنطلوناً منفوخاً وسترة ضيقة وحذاء ضخماً وقبعة صغيرة وحمل عصا. لازمه هذا الزي، 22 عاماً، وأصبح أشهر زي سينمائي. ثم ارتجل مشية، فأعجب المخرج بالملابس، وبالشخصية المستوحاة من تقاليد الإيماءات الفرنسية وأساليب الأداء في المسرح الإنجليزي. تركيبة أبدعها شابلن للعديد من الإنجليز الذين رآهم حينما سكن في لندن، بشواربهم الصغيرة وملابسهم الملتصقة بأجسامهم، وعصا البامبو في أيديهم، متخذاً أنموذجه منهم.
ربما كانت فكرة العصا هي أسعد لقطة عنده -طبقاً لمذكراته-، حيث يقول: العصا هي التي عرفت الناس بي بأسرع ما يمكن، فطورت استعمالها حتى أعطيت لها شخصية مضحكة خاصة بها، وكثيراً ما أجدها معلقة بساق أحد الناس أو ممسكة به من الكتف، هي بذلك تثير الضحك عند الجمهور، دون أن ألاحظ تلك الحركة، ولا أظن أني أدركت في البداية كم من الأشياء ممكن أن تقولها، حينما تعد عنواناً للرجل الغندور Dandy بهيئته الجادة.
فيلسوف الضحك
بنيت أفلام شابلن على استحداث مواقف مربكة له، وللآخرين. مقتصداً في وسائله بمعنى أنه بحركة واحدة يستطيع إثارة قهقهات الجمهور، بدلاً من حدثين منفصلين. ففي فيلمه (المغامر) يجلس في بلكون يأكل آيس كريم. في البلكون السفلي، كانت سيدة ضخمة أنيقة. تسقط قطعة آيس كريم في بنطاله ومنه ومن البلكون، سقطت في قفا السيدة. هنا الضحكة الأولى نشأت عن ارتباكه الشخصي، والثانية وهي الأشد نتيجة وقوع الآيس كريم في قفا السيدة. حدث واحد أربك شخصين وأثار قهقهتين.
الشيء الذي لطالما كان يخشاه، المبالغة. وذلك، لأنها تقتل الضحك. فالاقتصاد في التعبير أمر في غاية الأهمية، كما أن العينين المفتوحتين والروح اليقظة لكل الحوادث التي يمكنه استخدمها في أفلامه والإلمام بنفسية الجمهور من الأمور المهمة. فكان يراقب أفلامه بعين، والأخرى بالإضافة إلى الأذنين، على الجمهور، لملاحظة ما يضحكه وما لا يضحكه. فإذا لم يضحك على حركة ابتكرها، كان يجتهد لاكتشاف الخطأ في فكرتها أو في تنفيذها.
الفترة الحاسمة في فن شابلن
لا ترتبط سينما تشارلي شابلن بفترة محددة. بل تلائم كل زمان ولا تفتقد جاذبيتها. ومنذ عرض فيلمه الثالث عشر (عالق تحت المطر)، بدأ إخراج أفلامه بنفسه. كان ينجز فيلمين كل أسبوع. وفي عام واحد قدم 35 فيلماً. ثم قدم بعدها كوميديا عاطفية جديدة. وفي عام واحد أحدث ثورة في عالم الكوميديا وحولها إلى فن جاد. تمرد، كمخرج، على أسلوب المخرج المعروف (جريفيث) في مونتاج الأفلام. فقدم كوميديا المساحة، حيث تفاعلت شخصية الصعلوك مع كل المواقف والشخصيات.
واستطاع، كممثل، أن يصبح في أقل من سنتين، الأكثر شهرة، ولم يكن يكتب قبله اسم الممثل على اللافتات، فكان الأول الذي تعلن عنه الشركات ودور العرض.
عام 1915م أصبح أيقونة مميزة، فظهرت باسمه قصائد، ورسومات كارتونية وكاركاتيرات، ودمى على هيئته والعديد من الألعاب. وخلال الفترة بين عامي 1915م إلى 1925م، استقل، كصانع أفلام، بحريته الفنية، وارتفعت شعبيته، كما ارتفع أجره.
تعاقد عام 1918م مع شركة فيرست ناشيونال بأجر مليون دولار، كما بنت له (أستديو خاص)، وجمع فريق عمل اشترك معه في أفلامه. وتعد الـ 12 فيلماً التي قدمها بين العامين 1916 و1917م، أفضل إنجازاته، ومنها: (الواحدة صباحاً)، (محل الرهونات)، (خلف الشاشة). وجميعها أظهرت أستاذيته السينمائية والكوميدية.
في عام 1918م انتهى من فيلمه (حياة كلب)، وفي نفس العام قررت أمريكا بيع سندات الحرب لتتصدى للنازية. فاستعانت بشابلن ودعته لأحد مؤتمرات الدعاية للسندات، فخاطب الجمهور، قائلاً: (إن الألمان يطرقون بابكم، إننا يجب أن نوقفهم، وسنوقفهم إذا اشتريتم سندات الحرب، وكل سند تشترونه سينقذ حياة جندي، حياة ابن له، أم تنتظر عودته). ثم جاءته فكرة السخرية من الحرب، فكتب سيناريو فيلم (كتفا سلاح). واتخذ أولى خطواته نحو الفيلم الكوميدي الروائي الطويل، وأثبت أن باستطاعته الحفاظ على طابعة الفكاهي لمدة طويلة.
ولأنه كان فناناً حساساً، عندما رأى طفلاً يمثل في إحدى المسرحيات، تمنى أن يقنع والده ليعمل معه، وبالفعل وافق الأب، وكان الفيلم بعنوان (الطفل)، وهو عن صعلوك يقوم بإصلاح النوافذ، بعد أن يرسل طفلاً يحطمها.
ويعد فيلم (الطبقة العاطلة) من بين أفلامه الساخرة التي نالت نجاحاً كبيراً، وتدور قصته حول صعلوك يلعب الجولف التي لا يلعبها سوى الأثرياء. حيث ألهم شابلن بفكرته، بمجرد رؤيته لعصى الجولف في مخزن الديكورات.
عام 1919م، اشترك في إنشاء اتحاد الفنانين. فأنتج: (امرأة من باريس)، وهو كوميديا غير مسبوقة، لكنه لم ينجح لظهور تشارلي في لقطة سريعة فقط. فأعاد اكتشاف نفسه وفنه من جديد.
في فيلم (أضواء المدينة) 1933م كان في قمة أدائه، وحقق نجاحاً طيباً. وذلك، رغم مرور ثلاث سنوات على انتشار الأفلام الناطقة، إلا أن شابلن استمر في إنتاج فيلمه الصامت، وبالفعل كان (أضواء المدينة) شديد الأهمية، بعد أن استغرق عاماً كاملاً، وكتب موسيقاه. وفي يوم افتتاحه، وقف الجمهور منذ العاشرة صباحاً لحجز التذاكر.
أما في (العصور الحديث) 1936م، ودع شخصية الصعلوك، وحرص على نقد الأوضاع السلبية لعصر الآلة من استغناء عن معظم العمال ومعاناتهم، إلى أمراض المجتمع، وعالم البؤس الأمريكي بشخصياته، وتكتلاته الصناعية، وإضراباته العمالية والمنطق غير الإنساني، ما أثار غضب الساسة.
السخرية السينمائية
نصحه الرئيس الأمريكي روزفلت أن يختار موضوعاً يصالح به الإدارة الأمريكية والمجتمع الرأسمالي، فقد قررت أمريكا دخول الحرب إلى جانب الحلفاء. فاختار شخصية هتلر كرمز للدكتاتورية في (الدكتاتور العظيم) 1940م فسخر منه وقدمه كمختل وأراجوز. مسجلاً في مذكراته: (كيف يمكنني أن أصرف انتباهي إلى عبث النساء أو الحب بينما الجنون يستيقظ على يد ذلك الدميم الأحمق هتلر؟).
كانت القصة قد استغرقت عامين من الإعداد. وتأتي المفارقة، أن الرقابة الأمريكية، وبعض الدوائر الإنجليزية، أبدوا قلقهم بشأن الفيلم. بل وتوالت الرسائل الأمريكية على شابلن بالعدول عن الفيلم، معلنة أنه لن يتمكن من عرضه سواء في أمريكا أو إنجلترا.
لكنه صمم على الاستمرار حتى لو اضطر لاستئجار دور العرض بنفسه. وقبل انتهائه من تصوير الفيلم، أعلنت إنجلترا الحرب على هتلر، وازداد الموقف سوءاً بعد دخوله بلجيكا، وانهيار خط ماجينو، ثم الموقف الرهيب في دنكرك واحتلال فرنسا، بحيث أصبحت إنجلترا، تحارب وظهرها إلى الحائط. عندئذ، بدأت البرقيات الأمريكية، تطالب شابلن بسرعة إنجازه للفيلم. كان شابلن قد تلقى بعض الرسائل من المتعصبين يهددونه بحرق دور السينما ونسف شاشاتها. وعندما باح لأصدقائه بمخاوفه، أخبروه: أنه يمتلك من الجماهير ما يكفي لحمايته.
كلف الفيلم مليوني دولار، وتم عرضه الافتتاحي في الكابيتول، واستقبل بحفاوة، فكان الأكثر إيراداً عن باقي الأفلام. من ناحية أخرى، أصبح شابلن مطارداً من جهاز الجستابو الذي أصدر إليه هتلر أوامره باغتيال شابلن، فهل كان بعقيدته السياسية ضد النازية فقط أم كان يقف في الجانب اليساري المعارض للرأسمالية ويسخط على الاستعمار بكل ألوانه. مما قاده إلى كراهية وطنه بريطانيا زعيمة الحركة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى. وكان تصرفه التلقائي، فكرياً وفنياً، نابعاً من أنه ما زال يرى نفسه ابناً للطبقة المسحوقة اجتماعياً. فكان ابناً لعالمه المصطخب بالصراعات الدولية. ولم يكن أمامه إلا تحديد مكانه بوعي عالمي.
فانطلق ساخراً من التصرفات غير الإنسانية. ولم تغب عن أفلامه النظرة المتشائمة أحيانا في اختلاطها بفلسفة النقد الاجتماعي الساخر. ففي (مسيو فيردو) 1947م حكى عن سفاح للنساء، فيما بين الحربين العالميتين. إن التركيز الفلسفي على وجهة نظر السفاح وجرائمه التي تباركها الحرب، لم تكن مقبولة في زمن الحرب الباردة. ولم تلبث شخصية السفاح أن استخدمت كسلاح ضد تشارلي في وقائع نفيه من أمريكا عام 1953. فقد استغله الشيوعيون في روسيا لتعاطفه ومواقفه الإنسانية، فأطلقوا عليه لقب (رفيق شيوعي). لكنه رفض ذلك وأعلن أنه ليس شيوعياً لكنه محب للسلام وللعدل الاجتماعي. ورغم هذا هاجر إلى سويسرا بعد طرده من أمريكا. لكنه لم يتوقف عن الإبداع، فرد الصاع صاعين بفيلم (ملك في نيويورك) بطولة ابنه (ميشيل) ساخراً من المعاناة والضغوط السياسية والاجتماعية التي تعرض لها.
ولم تعرض أفلامه داخل أمريكا رغم إقبال وجنون الجمهور بها. لكنه اكتسب احترام العالم. فأنعمت عليه ملكة إنجلترا بلقب (سير). ومنحته فرنسا وسام (الليجون رورنير)، ولقب (فارس). وأصبح في دائرة الضوء رغم اعتزاله. على أن هوليوود عادت في أوائل السبعينات تعترف بعبقريته السينمائية. فمنحته جائزة الأوسكار الفخرية عام 1972: (للدور الذي يفوق الوصف في تحويل صناعة الأفلام إلى نمط فني مميز للقرن العشرين). لكن الجائزة الأكبر كانت خلوده الفني بأكثر من 80 فيلماً من روائع السينما.
كُتب عنه أكثر من ألف كتاب ومقال، ترجمت إلى أكثر من 40 لغة. ويقدر مشاهدو كل فيلم صامت بأكثر من 300 مليون، إضافة إلى آلاف الملايين للأفلام الأخرى. ولقد أسهمت بفصل رئيس في تاريخ السينما الأمريكية، ولعبت دوراً مهماً في التطور الفني، وهي روائع في قائمة الكلاسيكيات العالمية.
وبعد أكثر من أربعين عاماً من وفاته في 25 ديسمبر 1977م، ما تزال أفلامه تشاهد حول العالم من اليابان إلى البرازيل. وفي فرنسا وأمريكا والأرجنتين، تلقى أفلامه رواجاً كبيراً، حيث أرفق بكل منها، فيلم وثائقي خاص مدته 26 دقيقة، يقرأ من خلاله شخصية سينمائية لامعة تعليقا على الفيلم.
ولم يكتف الشعب السويسري ولا الحكومة بتحويل منزله إلى متحف، بل وضعوا المكتبة، والمحفوظات الخاصة به على شبكة الإنترنت، حتى يمكن لروادها الاطلاع عليها مجاناً. لذا، سيظل ذلك العبقري يدهش الملايين، بعد أن أثبت أن الكوميديا فن يفجر ويناقش مشكلات المجتمع وهمومه.

ذو صلة