قد يثير مصطلح (أنسنة المدن) بعض التساؤلات حيث إن المدينة في أصلها إنساني وبنيت من وإلى الإنسان، كما أن مصطلح (الأنسنة) يعتبر من المصطلحات التي ظهرت حديثاً ولم يسبق له ذكر في تاريخ المدن والعمران. ويرجع ذلك إلى أنه وعبر القرون الماضية كان المكون الثقافي والاجتماعي والبيئي وكذلك العقدي هو ما يشرع وينظم التكوين الشكلاني وغير الشكلاني للمدن قديماً، حيث كان للأعراف والتقاليد والثقافة المحلية دور رئيسي في تكوين الشخصية العمرانية للمدينة، وبالتالي فإن في تلك الحقب الزمنية كان البعد الإنساني أصل ومحور العمران.
يشير ابن خلدون في مقدمته إلى ما أسماه بعلم (العمران البشري) مبيناً فيه أثر البيئة والعمران في البشر وموضحاً كيف أن اختلاف أشكال وأنماط العمران تتبع تنوع واختلاف أنماط حياة البشر. وهذا ما يعني أن جوهر العمران يكمن في فهم طبيعة وانعكاس حياة الناس اليومية وتقاطعها ثقافياً واجتماعياً مع المدينة وفضاءاتها. سنناقش هنا نشأة (أنسنة المدن) في حقبة حداثة العمارة والتخطيط والأسباب التي أدت إلى الحاجة للبحث عن البعد الإنساني في المدينة الحديثة، وكذلك إلى أهمية دور (الأنسنة) كمنهج عمراني في بناء المعرفة العمرانية المحلية.
إن كانت الجوانب الثقافية والاجتماعية وكذلك العقدية مصدراً رئيسياً بنيت وتشكلت من خلالها المدن عبر التاريخ، فإن حقبة الحداثة في العمارة والتخطيط -منذ بداية القرن العشرين وحتى حقبة الستينات والسبعينات- شكلت مفترقاً رئيسياً في أصل وجوهر بناء المدن حيث تميزت بأنها اعتمدت على العلوم التطبيقية والمعرفة العلمية كمصدر وحيد في التشريع العمراني لتنظيم وتشكيل المدن، وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في هذه الحقبة الزمنية لم تكن الجوانب الثقافية والاجتماعية وكذلك الأعراف والتقاليد مصدراً مهماً للمعرفة في بناء التشريعات العمرانية. واتسمت حقبة الحداثة بالانفصال المعرفي عن كل ما هو (تقليدي) في العمران حيث رسم حداثيو العمارة والتخطيط شكل الحياة للإنسان (الحديث) وماهية أنماط الحياة اليومية (الحديثة) في المدينة. ومما لا شك فيه أن غياب الجوانب الثقافية والاجتماعية والاعتماد على العلوم كمصدر وحيد للتشريع العمراني أدى إلى تبدل في الأولويات العمرانية المتعلقة ببناء وتشكيل المدن، حيث تغلبت الآلة وأصبحت ذات الأولوية الرئيسية في المدن، على سبيل المثال، أصبح تقسيم وتوزيع استخدامات الأراضي في المدينة مبنياً على المنهج (العقلاني) و(الوظيفي) والذي ينطلق من مبدأ أن المدينة هي آلة ومصنع ومسكن ومتجر وبالإمكان إدارتها ضمن السياقات العلمية والعقلانية والوظيفية. قد يكون لهذه المدرسة العقلانية دور في إدارة وتنظيم النمو والتمدد العمراني بشكل منهجي، لكن غياب المكون الاجتماعي والثقافي في الأجندة العمرانية أدى إلى فقدان البعد الإنساني في المدينة وأظهر لنا مدناً تعزز الفردانية في المعيشة والتنقل، ومدناً مكتئبة عمرانياً غير ودودة تغيب فيها العفوية الاجتماعية.
في حقبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي ظهرت حركة عمرانية تسعى إلى البحث عن البعد الإنساني في المدينة المعاصرة، حيث كان أهم رواد هذه الحركة عمرانيين ومؤرخين ونشطاء في المجال الحضري كـ جين جاكوبس (Jane Jacobs) ولويس ممفورد (Lewis Mumford) وكريستوفر إليكساندر (Christopher Alexander) ووليام وايت (William H. Whyte) ويان جيل (Jan Gehl) وغيرهم. حيث كانوا في الحقيقة هم من وضع اللبنات الأساسية لمنظور عمراني يرتكز ويبدأ من الإنسان وهو ما كان يخالف الوضع السائد في فترة حداثة العمارة والتخطيط، حيث كانت هذه الحركة العمرانية وروادها تنادي للبحث عن مبادئ تخطيطية أساسية تسعى إلى الارتقاء بجودة الفضاء العام في المدن والمجاورات السكنية لجعلها آمنة وصحية وقابلة للعيش ونابضة بالحياة ومستدامة بيئياً واجتماعياً، حيث ترتكز المبادئ الرئيسية للعمران الصديق للإنسان على أن نجاح أي مدينة أو بيئة مبنية أو مجاورة سكنية قائم على قابليتها للمشي، وارتباط نسيجها العمراني، وتنوع استخدامات المباني، وتعدد أنواع وأحجام مبانيها، وأن تكون ذات جودة بصرية وحضرية، وكثافة سكانية مناسبة، وذات خيارات متنوعة في وسائل النقل، وأن تحقق مبادئ الاستدامة، وأن ترتقي بجودة الحياة للسكان.
السلوك البشري مصدر للمعرفة العمرانية
بالإمكان تعريف أنسنة المدن على أنها منهجية عمل عمرانية تسعى إلى فهم وتحليل الظواهر الثقافية والاجتماعية والسلوكية وكذلك العمرانية وترجمتها إلى مبادئ تخطيطية من شأنها بناء وتشكيل بيئة مبنية يكون مرتكزها الإنسان، حيث يعد السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية بين الإنسان والمكان مصدراً مهماً للمعرفة العمرانية في منهج أنسنة المدن. أحد أهم رواد هذه المدرسة هو العمراني الدنماركي يان جيل (Jan Gehl)، حيث تقوم مبادئ الجودة العمرانية الصديقة للإنسان والتي قام بدراستها خلال العقود الخمسة الماضية على أساس تقييم مستوى التفاعل الإنساني من خلال الأنشطة الحضرية في الفضاء العام مع الجودة المكانية للبيئة المبنية وذلك من خلال: 1 - قياس مستوى شعور المشاة بالأمن في البيئة المبنية، 2 - قياس مستوى الراحة لمستخدمي الفضاء العام وما تقدمه البيئة المبنية من خيارات لممارسة الأنشطة الحضرية المختلفة، 3 - قياس مستوى المتعة في الفضاء العام ومنها الجوانب المناخية والجودة البصرية. قام يان جيل بالتوصل إلى هذه المبادئ من خلال دراسة مستفيضة وتحليل عميق لفهم العلاقة بين السلوك الاجتماعي والجودة العمرانية للفضاء العام عبر سنوات من الدراسة والرصد الميداني لمختلف المدن (الأوروبية). والجميل هنا هو الجمع بين النظرية والتطبيق فيما قدمه يان، حيث أثرت مبادئ الجودة العمرانية التي قدمها بصورة كبيرة على استعادة البعد الإنساني لوسط مدينة كوبنهاجن في تسعينات القرن الماضي والتي تعد اليوم إحدى المدن الرائدة في مجال (أنسنة المدن).
ولذلك فإن المرتكز الأساسي والمصدر المعرفي في أنسنة المدن كمنهجية عمرانية هو في فهم وتفكيك العلاقة بين السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية وعلاقتها بالمدينة وفضاءاتها. وتكمن الأهمية هنا في أن السلوك البشري والتفاعل الاجتماعي يساهم في بناء المعرفة العمرانية المحلية والتي تجمع ما بين الجوانب الشكلانية الملموسة في المدينة وكذلك الجوانب غير الشكلانية، حيث تجدر الإشارة هنا إلى أن الجوانب غير الملموسة في العمران هي ما يلعب دوراً رئيسياً في رسم الانطباع العاطفي عن المكان والشعور والإحساس بروح وحميمية وعفوية المدينة، ولذلك فإن أنسنة المدن كمنهج عمراني تسعى إلى إعادة تقديم البعد الثقافي والاجتماعي في المدينة إلى طاولة أولويات الأجندة التخطيطية والعمرانية. وهذا لا يعني أن تكون هناك قطيعة مع المنهج العلمي والعقلاني في تخطيط المدن.
عمران الحياة اليومية وإعادة إنتاج المحتوى المعرفي العمراني
من المهم جداً الانتباه هنا إلى أن البعد الثقافي والعرف الاجتماعي للمدينة ليس في حالة من السكون والثبات الدائم بل على العكس هو في حالة من التغير والتجدد المستمر حيث تتم مفاوضتها وإعادة تشكيلها من قبل أفراد المجتمع أنفسهم. وهذا ما يعني أن هذه الأبعاد الثقافية والاجتماعية في المدينة خاضعة لعامل الزمن وحالة التغير والمفاوضة المستمرة. وبالإمكان هنا الاستشهاد بالحالة التي عاشتها المدينة السعودية خلال السنوات الخمس الأخيرة والتحولات المتسارعة على الصعيد المجتمعي والثقافي. فعلى سبيل المثال، اتسمت المدينة السعودية وعلى مدى عدة عقود من الزمن بحالة (جندرية) خاصة تقوم على أساس فرض مبدأ الفصل الجنسي بين الرجل والمرأة وبشكل صارم في جميع فضاءات المدينة شكلت من خلالها شخصية (ذكورية) للفضاء العام، ولكن التحولات الاجتماعية والثقافية التي تشهدها المدينة السعودية اليوم أعادت تشكيل وتكوين هذه الصورة الذهنية، حيث تحول الفضاء العام في المدينة السعودية من فضاء ذكوري تمنع فيه ثقافة (العيب) وجود المرأة إلى فضاء (مختلط) تلعب فيه المرأة دوراً أساسياً في تشكيله، ولذلك وفي سياق التصميم والتخطيط العمراني، فإن الكثير من المفردات الثقافية ومنها مثلاً (الخصوصية) التي شكلت الصورة العامة للشخصية والشكل الذي يجب أن تكون عليه المدينة السعودية خلال العقود الماضية هي أيضاً يجب أن تكون مرنة وخاضعة لإعادة التعريف والتشكيل. وعليه، فإن قراءة المشهد الثقافي والاجتماعي ضمن السياقات العمرانية في المدينة بحاجة إلى أن يكون ذا بعد زماني ومكاني -زمكاني- قابل لإعادة قراءة وتحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية ضمن سياقها المتغير والمتجدد بشكل مستمر، ولذلك تجدر الإشارة هنا إلى أن أية مبادرة لأنسنة المدن هي نتاج لعمل إنساني تم في حقبة زمنية معينة كانت خاضعة ومتأثرة بسياقات فكرية وثقافية واقتصادية وجغرافية وسياسية وكذلك أنماط معيشية وأساليب حياة ظهرت وشكلت الصورة العامة للحياة اليومية في المدينة وآلية الاستجابة لمتطلباتها في تلك الحقبة الزمنية.
كما أود الإشارة هنا إلى أن مستقبل أنسنة المدن يكمن في القدرة على بناء المحتوى المعرفي والعمراني المحلي، حيث إن محلية المعرفة العمرانية هي ما يجعل المدينة وفضاءاتها وتشريعاتها العمرانية متفردة وتعكس بنيتها الثقافية والاجتماعية، وهذا يبدأ من خلال تطوير مراصد حضرية ومراكز فكر عمرانية تسعى وبشكل مستمر إلى قراءة وتحليل المكون الثقافي والاجتماعي والإنساني والعمراني في المدينة وإعادة إنتاج وتحديث المبادئ والتشريعات التخطيطية والأكواد العمرانية ضمن سياق الحالة الثقافية والاجتماعية في العمران، وهذا ما يمكن تسميته بالعمران البشري المعاصر والمتجدد.