مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المدينة العربية تحول عمراني وإنساني

أضحت المجتمعات العربية المعاصرة تشهد تحولات عميقة متصلة بدينامية التمدين والتوسع الحضري، الذي يعد عاملاً أساسياً في التحول الذي شهدته المدينة العربية في القرن الحادي والعشرين، حيث إن معظم سكان البلدان العربية أصبحوا يعيشون اليوم في المدن، وهو ما يستدعي ضرورة تحليل التغيرات التي طرأت عليها بين الماضي والحاضر، سواء تعلق الأمر بالبعد التاريخي، أو الجغرافي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي... إلخ، كيف إذن تتم إعادة تشكيل البنى الاجتماعية في المدن بعد التغييرات التي تطرأ عليها؟ وهل هذه التغييرات نجحت في وصل العمران بالإنسان في المدينة العربية؟ أم أنها أدت إلى الإصابة بمرض التمدن؟ هل هناك سبيل لإعادة ترتيب الحياة المدنية للأفراد داخل المدينة العربية من أجل تحقيق التوازن والسير نحو إعداد المواطن الفعال؟

لدراسة التطورات التي تشهدها المدينة العربية لابد من تشخيص العوامل التي ساعدت على تغير أحوال المدينة والرجوع إلى إرث العرب في هذا المجال، إذ للمدينة العربية جذور تاريخية عريقة وسمة التحضر (عالم الفكر، التمدن، العمارة) واكبت العرب منذ فجر التاريخ بشكل متباين ومتعاقب، وهو ما عرفته العديد من الحضارات: بلاد الرافدين (العراق حوالي 5000 ق م)، وبلاد وادي النيل (مصر 3100 ق م)، المدينة الفينيقية (تونس 800 ق م)... إلخ، التي تشكلت نتيجة توفر مجموعة من الشروط الموضوعية، منها توفر الماء والتربة الخصبة، وقيام الزراعة، وتوفير الاكتفاء التجاري البري والبحري، كما كانت هذه المدن تتميز بتنظيم في التسيير والإدارة في المجالات العمرانية وتنظيم الحياة الجماعية. والمدن العربية المعاصرة وليدة تجارب تاريخية قديمة وهي امتداد متطور للمدن القديمة فإذا كانت الوحدات العمرانية أخذت تتلاشى فذلك لكي تحل محلها خطط ومحلات تتلاءم والحركة المتطورة حتى توافق التطور العلمي- التقني والرفاه الاجتماعي.
عرفت المدينة العربية تحضراً متسارعاً وانفجارياً، فقد تضاعف سكان المدن العربية في مدة قصيرة جداً قد تقل عن عشر سنوات، وهذا راجع إلى عوامل كثيرة أهمها: معدل النمو السنوي الطبيعي المرتفع، الهجرة إلى المدينة من الأرياف والبوادي أو من المدن الصغرى إلى الكبرى بالإضافة إلى نمو المدن الضخمة أو ما يطلق عليه حسب الأمم المتحدة باسم مجمعات المدن، كما أنها باتت تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين والنازحين والعمال المهاجرين لتتحول إلى فضاءات مختلطة، تتنوع فيها الأعراق والهويات والثقافات. هذا النمط الذي يعد من سمات العواصم العربية التي تستأثر بجودة الخدمات ويتم تركيز الاستثمارات فيها حتى تصبح ذات جاذبية واستقطاب عالٍ للسكان، خصوصاً أنها تحوي الوظائف الحكومية والإدارات والتمثيل الدبلوماسي والتجاري، كما ينبغي الإشارة إلى أن النمو الحضاري هو عملية انبثاق لعالم حديث تسود فيه المدينة وتسيطر عليه أفكار المدينة، وينبغي التمييز بين العمليتين الرئيسيتين للنمو الحضري وهما: نمو المدينة والتحضر.
نمو المدينة هو عملية مكانية وديموغرافية كمية تدل على تزايد أهمية المدن كمناطق تركز سكاني في مجتمع معين، ويحدث ذلك عندما يتغير توزيع السكان من ساكني القرى والأرياف إلى ساكني المدن. هذا النمو هو أيضاً نتيجة التطور التقني الذي أدى بدوره إلى ازدهار الصناعة، وهو ما نتج عنه تزايد عدد سكان المدن التي تنوعت في أنماط مختلفة، لكن لا يمكن حصر التحول في النمو الكمي لأن نسبة متزايدة من سكان الأرياف أضحت تمارس نمط حياة حضرية في العمارة والملبس والمأكل والعمل الخدمي والحرفي والصناعي بعيداً عن الزراعة والرعي.
أما التحضر فهو المعيار الرئيسي في التحول النوعي، أي تلك العملية الاجتماعية التي تعمل على إحداث التغير في العلاقات السلوكية والاجتماعية للأفراد داخل المدينة، وتشير هذه العملية بالضرورة إلى التغيرات المعقدة والمتشابكة لنمط الحياة التي تترتب على ساكني المدن.
يتجه العالم العربي في السنوات الأخيرة نحو سياسة التطوير الحضري وإنشاء مدن جديدة للحد من مشكلة الإسكان، التي تفاقمت نتيجة ارتفاع معدلات النمو الطبيعية (زيادة في الولادات ونقص الوفيات) وغير الطبيعية الناتجة عن الهجرة وسوء التخطيط، فأصبحت المدينة العربية عبارة عن قرية كبيرة، الحياة فيها شاقة، تفتقر إلى الهدوء مع تزايد درجة الازدحام، وارتفاع معدلات التلوث بأنواعه، وهذا ما يكشف عجزها عن استيعاب سكانها وإدماجهم في النظام الحضري الحديث.
تعد مشكلة الإسكان من القضايا المهمة التي تعاني منها أغلب المدن العربية، حيث إن السياق التاريخي الذي تطورت فيه العائلة العربية تميز بعدة تغيرات وتحولات اجتماعية واقتصادية، انتقلت على إثره من نمط سكني تقليدي مصمم لاحتواء العائلة الممتدة، إلى مسكن حديث صمم حتى يستوعب الأسرة النووية الصغيرة، فأصبح النمط الجديد للسكن غير قادر على احتوائها، وأصبح يشكل خطراً على توازنها، لأن الإسكان مسألة تتجاوز الحيز الجغرافي الضيق الذي يقطن فيه الفرد، ذلك أنه يشكل فضاء تبرز فيه الحريات الفردية ومراعاة الخصوصية، فهو يعد مطلباً اجتماعياً وحيوياً للفرد والأسرة. هكذا اتجهت أغلب الدول العربية، نحو إعادة النظر في سياسة التخطيط العمراني، هدفه إنشاء مدن جديدة لفك الخناق عن المدن الكبيرة من خلال إعادة توزيع السكان للتقليل من التركيز السكاني فيها.
إذا أردنا أن نرسم صورة حقيقية عن الواقع المعيشي المشترك بين جل المدن العربية، فإننا سنجد بأنها تعيش عجزاً واضحاً في الخدمات سواء في مجال التعليم، أو الصحة، أو المواصلات... إلخ، وظهور المناطق العشوائية نتيجة تدني الأحوال الاقتصادية والظروف المعيشية والتفكك الاجتماعي نتيجة انتشار ظاهرة البطالة وضعف مستويات الدخل، ومشكلة انعدام الأمن، الذي أدى إلى انتشار الجرائم والاعتداءات والعنف وسيطرة أنماط مختلفة من السلوك الانحرافي. بالإضافة إلى أزمة الإسكان ونقص المساحات الخضراء وفضاءات وساحات اللعب، وعدم توفير المياه الصالحة للشرب، ولا ننسى الجانب البيئي حيث هناك مدن عربية مهددة بالغرق بسبب التغيرات المناخية، هذه التغيرات في تزايد يوماً بعد يوم، وهو ما تعاني منه على سبيل المثال مدينة (نواكشط) ومنطقة (الدلتا) المصرية بسبب انخفاض أراضيها وارتفاع الحرارة.
إن الفصل بين المدينة العربية القديمة والمعاصرة هو فصل لا يتم من خلال البحث في العلاقة الكمية بين السكان ومساحة الأرض وإحصاء البنايات والتوسع العمراني، وإنما أيضاً النظر في تطور جودة الخدمات، لرصد جوانب الحياة المدنية، إذ إن التمدن هو ما يظهر في السلوك الذي يعد شرطاً ضرورياً لتأسيس المواطنة المدنية، ومستوى توزيع القواعد والقيم المشتركة، على ما هو أخلاقي وما هو سياسي واجتماعي وقانوني حقوقي، كلها شروط تتضافر بهدف تشكيل الهوية الحضرية.
المدينة العربية إذن، لا تعد مجالاً قاراً إنما هي في تحول عمراني وإنساني مستمر، وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه الأطراف الفاعلة بالمدن من السلطات المحلية، وموظفي الحكومات، والمنظمات السياسية والحقوقية، هو الاشتغال على سياسة حضرية متعددة الأبعاد، تراعي التعقيد الذي يؤلف عالمنا اليوم، بهدف مكافحة الانقسامات والتفاوتات الاجتماعية والتخطيط والتنفيذ لسياسات محلية هدفها إدماج كافة فئات السكان في المسيرة التنموية، من خلال إتاحة فرص المساواة والحق في الحصول على الخدمات الأساسية والحق في المعلومة، والمشاركة الفعالة في عملية صناعة القرار، واعتماد نهج محوره الإنسان المواطن الفعال.

ذو صلة