مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الإنسان والبنيان

المدينة جنين عملاق يكبر بلا هوادة، نهم يبتلع المساحات الخضراء بلا رحمة ليحولها لكتل إسمنتية بأشكال وأحجام وألوان مختلفة، تضرب عروقه وسراديبه باطن الأرض وظاهرها وفق نظام دقيق، كما وتعاند ناطحاته وصروحه عنان السماء، يغزو هذا المخلوق الإسمنتي البارد الوديان والأنهار، وحتى الجبال لا تسلم من أذاه إن هي وقفت في طريقه. كلما كبر هذا الجنين وتمدد، تحددت معالم ومكامن قوته، فيستوطن الأثرياء والمحظوظون قلبه النابض، بينما ينزوي الفقراء إلى أطرافه هرباً من الغلاء وطمعاً في معيشة أكثر إنسانية.

جميلة هي المدينة بشوارعها وأحيائها وهندستها وبمراكز التسوق والتجميل والترفيه المتناثرة فيها، كما أن مستشفياتها ومدارسها وجامعاتها ومختلف المصالح المتمركزة فيها تجعل منها قبلة للجميع، لكنه في خضم هذه المغريات التي أصبحت من أساسيات العيش الكريم؛ فقد الإنسان البوصلة وأصبح همه الشاغل أن يحظى بمكان يليق بأحلامه، لذا عمل جاهداً كي يؤمن لنفسه موقعاً في المدينة، وحبذا لو استطاع الوصول إلى قلبها أو على الأقل الاقتراب منه، كل شيء يهون في سبيل هذا الحلم الوردي، لكن يبقى المهم ألا تلفظه المدينة إلى أطرافها أو خارجها.
جمال المدن وتوهجها ينبني غالباً على أنقاض نسيج مجتمعي متفسخ، فنجد أنه كلما كبرت المدينة وتوسعت، ضاقت دور وصدور ساكنيها. توحشت فخبا الدفء بين أحضانها، غاب الأطفال عن شوارعها فلم نعد نسمع صرخاتهم التي تجلجل الآذان ولا ضحكاتهم التي تلامس القلوب، فبعد البيت الكبير الذي كان يتشارك فيه الجد والأب والأحفاد، والجدة والأم والكنائن؛ تفككت عرى الأسر رويداً رويداً، فأخذ كل واحد ينأى بنفسه ورزقه وبيته، إذ وصلنا بعد الانقسام والتباعد إلى الانفصام الممنهج. وقد أصابت هذه الحمى المسعورة الجيران والمدرسة والعمل، حيث أصبح البحث والحفاظ على مسافة أمان مع الآخر أولوية وضرورة وجودية، فالقرب أضحى عنواناً للمشاكل والرجعية، بينما غيّر التقدم والتحضر عنوانهما وجلدهما، واتخذا من الخصوصية والحرية ستاراً يغطي أنانية وذاتية لا حدود ولا قرار لهما.
في ظل هذا التطور المأزوم الماسخ اللاهث وراء بريق العولمة الزائف، تحولت المدن إلى نسخ مكررة فقد فيها الفرد -كما المجتمع- هويته وقيمه. سكنت المادة القلوب فتحجرت، واستحوذت عليها فصار النجاح مقياسه مظاهر الثراء والبذخ وعلى رأسها (الفيلات) والقصور، عندها غدا الحجر والورق مبتغى ومنتهى أجيال بأكملها، أما القيم فأصبحت عنتريات دون كيشوتية لا وجود لها في خضم الصراع من أجل البقاء المترف.
لم نعد ذلك المخلوق الذي كرمه الله وسخر له الكون، بل أصبحنا عبيداً للمادة، للإسمنت، استبدلنا جنة السماء بجنة الأرض، ربما لإحساسنا الدفين بأننا ضيعنا ما يوصلنا إليها. تجردنا من إنسانيتنا التي هي مصدر قوتنا وبحثنا لها عن بدائل افتراضية: أصدقاء وتعابير وأحاسيس حبيسة الشاشات وحبيسة الجدران، فتسربت برودة الخرسانة والحديد إلى القلوب ليسعى الكل حثيثاً ليجعل من شرنقته الإسمنتية حصناً يقيه تقلبات الزمان والأوضاع إلا أنه لم يفلح إلا في عزل نفسه عن الآخرين.
سباق محموم ضد الزمن انخرط فيه الكل، لكن ليس بنفس المؤهلات ولا نفس المجهودات ولا نفس الأخلاقيات، لذا استشرى العنف والرشوة والكثير الكثير من الممارسات المعيبة بين ظهراني المدينة وهياكلها، حتى التدين أصبح يقاس في الحجر بعدد المساجد وكبرها وزخرفها، وفي البشر بالمظاهر والحركات والهمهمات، في حين عاف الناس جوهر الدين ورسالته ونسوا الحكمة المرجوة منه.
المدينة فقدت روح أهلها، فمعظم المدن تتشابه من حيث المعمار والهندسة والتصميم، لذا تحتاج دائماً للنظر في الوجوه لمعرفة اسم البلد، لا شيء يميز مدينة عن أخرى إلا كثرة الأضواء وعلو الأبنية، أما ما تحويه فذاك يعتمد على مدى أهمية الموقع ومردوده. طغت الحجارة على البشر فاستوطنت قلبه وعمت بصيرته، فصار التكافل حديثاً في المحافل وفي وسائل التواصل، بينما لا يعرف الجار جاره ولا يسأل ولا يأبه إن كان لديه قوت يومه أو ما يدفع به فاتورة دوائه وتطبيبه أو دراسة أولاده، الأولوية تظل للذات وملذاتها وتبقى المواساة تغريدة مؤثرة أو تعبيراً حزيناً أو صورة معبرة تحملها الشبكة العنكبوتية لتذروها في كل المواقع إثباتاً لحضور فاعل وتفاعل آني.
واقع مرير مؤسف يجدر بنا التفكير في تلافيه وكسر هذه النمطية التي خامرت عقولنا، علينا أن نحاول بعث الحياة في هذا البارد الإسمنتي بإعادة اللحمة بين ساكنيه، والتركيز على الأخلاق لا الأضواء وعلى الرحمة لا الشهرة. يجب أن تعكس المدينة تحضرنا وإنسانيتنا وأخلاقيات ديننا، وهذه الرؤية لا يمكن أن تجد لها سبيلاً للتحقق إلا إن توافرت الإرادة والوعي، وتم وضع خطة محكمة تعتمد على المدرسة كخطوة أولية وأساسية لتغيير المفاهيم والقناعات وتصحيح الخطى والرؤى، عندها فقط يمكن أن ترقى المدينة إلى الفضيلة التي نظّر لها قديماً أفلاطون والتي يطيب العيش فيها للجميع على حد سواء تحت مظلة العدل والكرامة.

ذو صلة