مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بيروت ونزع الأنسنة

ليس من باب التنظير القول إن الموت التدريجي للمدينة يؤدي إلى استلاب قاطنيها عن ذواتهم. لا يتعلّق الأمر عندئذ بمزاج حر لكيفية تلقف الإنسان لذاته بل هو واقع يفرض وليس للناس حيلة حيال هذا الأمر. لا تقوم المدينة على الجدران المتينة التي تفصل كل من ناسها عن الآخر كما هو الحال اليوم في مدينة بيروت.

إن الانهمام المطلق في تدبّر شؤون العيش يقلّص المدينة في وعي ناسها فإذا بنا عندئذ إزاء أزقة محدودة الأفق واللسان وليس إزاء ساحات عامة حيث الأذهان لا تني تردف بعضها البعض بمستفزات القول. إنه الفرق بين الآغورا والأمكنة المسيجة بإحكام إذا أردنا أن نستضيء بوجهة نظر حنا آرنت المستقاة من التراث الإغريقي لمفهوم المدينة والأرسطي منه بشكل خاص.
نزع الأنسنة عن المدينة أكثر ما يتمظهر عبر تضييق حاجات الإنسان إلى ما لا يتجاوز العيش في حده البيولوجي، وبيروت اليوم هي واقعة جغرافية محددة بشرط البيولوجيا لا بشرط الذهن المتوقد غير المستكين. الجدران في هذا المحل تتجسد من خلال وجوه مطرقة، أشخاص يأتون بضروب الكلام مع أنفسهم إبان سيرهم فوق الأرصفة والطرقات ومن خلال كائنات ترفل بخرقها وهلاهيلها من جهة إلى أخرى في أنحاء المدينة لا لشيء وقد أوهن المستقبل القاتم إمكان التحديق المتفائل في المقبل من الأيام.
لا وجاهة لتعريف يقارب الإنسان كوحدة قائمة بذاتها، فالمدينة في توهجها المضيء ألغتْ محضية (الأنا أفكر) إذ إن الإمكان المتسيّد في المدينة هو للـ(نحن نفكّر). كل إنسان هو سردية لا متناهية من أناس آخرين ولا يتحقق له وجود في العالم إلا عبر هذه الآخرية سواء كانت مفترضة أو شريدة أو شديدة الحضور والبنيان. لكن ماذا عندما تأخذ تلك السردية بالتقلّص إلى أدنى حدود الأنا، تلك الحدود المبتلية بشروط تأمين المأكل والملبس والطبابة والسكن؟ إنها (أنا) بيروت اليوم.
حتى على المستوى الذهني لا تسأل المدينة الولاء المحض، فكيف إذا كان الولاء مرهوناً بالشرط البيولوجي لا غير؟ إن المدينة في شرطها الأوسع هي أقرب إلى الفكرة كما يفهم بلانشو الفكرة، فالولاء للفكرة حسب موريس بلانشو لا يستلزم الإخلاص المطلق، إذ إن الإخلاص المطلق في هذا السياق هو بمثابة موت سريري للفكرة التي عندئذ قد زُنّرتْ بتقييد التأويل والدلالة وبالتالي عدم إمكان الانفتاح. فالمدينة تنزع عن نفسها نزعة الأنسنة، بالتناول الفسيح للمصطلح، عندما يحدودب ناسها تحت ثقل رؤية واحدة للوجود.
المدينة شتات، تشظ، شارع في عدة اتجاهات وأبرز تجليات وجاهتها أنها تبعثر الانتماءات والولاءات الراكدة والمحنطة. ثمة تواشج بين هذه النظرة للمدينة والإنسان ككائن نجح في القفز من فوق ماهيته البيولوجية مستأنفاً بدءاً جديداً لذاته يوماً بيوم.
بيروت اليوم كمدينة منكوبة لا تستجيب لرغبة القول في تعدد مضامينه واختلاف هذه المضامين بل هي لا تتعدى أن تكون حيّزاً جغرافياً يلبّي في أقصى اعتباراته حاجة المعدة والأمعاء مقارنة بالوضع المدقع لمدن لبنانية أخرى.
بالنسبة إلي من النافل أن مصطلح (المدينة) بشكل عام يحيل إلى تاريخ رمزي والرمزي في هذا الصدد هو تكثيف الدلالات وتقاطع الحقيقي مع المتخيل والأيقوني مع المبتذل واليومي مع الدهري إلى آخر هذه المتناقضات التي عادة ما ترسم درب السعي نحو المعنى في هذه المدينة أو تلك.
أي درب ترسمه لنا بيروت اليوم؟
هي ترسم درب الفجيعة وآخر تجليات هذا الدرب معرض الكتاب العربي في نسخته الأخيرة والذي جافى كل السردية الثقافية المتنوعة لبيروت عبر (تدشيم) هذا المعرض برموز لا تمت لتاريخ بيروت الثقافي بصلة. بيد أن ثمة مفارقة تقوم على قدرة المدينة على الهمس بما لا يمكن لنا تجنبه حيال شروط فجيعتها مهما حاولنا تجنب هذا الهمس. ربما الأمر أشبه بتأتأة إنسان مريض يحاول إرشادنا إلى سبب آلامه عبر تحريك شفتيه.
كيف تأتى لي أن أنزلق إلى هذا المنزلق العدمي؟ هو سؤال لعله يختزل تأتأة بيروت ودمدماتها إزاء ضعفنا حيالها اليوم.
كان المؤرخ الإغريقي ثيوسيديد يرى أن التاريخ لم يسجل حدثاً واحداً مهماً قبل الأحداث التي قام هو بتدوينها في تاريخه وما من حدث مهم سوف يقع بعد تدوينه لهذه الأحداث. ما ينطبق على ثيوسيديد في هذا الصدد ينطبق على قوى الأمر الواقع التي تدير شؤون لبنان اليوم، إذ تم اختزال لبنان وبيروت ضمناً إلى ما لا يتجاوز سردية واحدة في القول والعمل (ولّي مش عاجبو يفل) كما قال أحد قادة هذه السردية. لا صوت يعلو فوق صوت (المقاومة) فإذا بنا إزاء ركن منغلق باهت لا يستسيغ الحد الأدنى من التفكّر في المدينة كمشاع مفتوح ومتعدد الاتجاهات والميول. كفّتْ المدينة عن أن تكون حضوراً كثيفاً في يوميات ناسها وانقطع حبل اللامتوقع الذي غالباً ما يستحث شرط الخيال والإبداع، حتى الماضي المقاوم لبيروت والذي يجافي شرط السياسي السائد اليوم صير إلى تحويله كملمح من ملامح الحاضر الميؤوس منه على الدوام. وهل ثمة من يجاري قوة اليأس في الدفع بنزع الأنسنة عن كل كيان؟!
إن الوظيفة الاجتماعية لماضي بيروت والذي يقع في الظن أنه قد يخرج المدينة من إسارها الحاضر، حتى هذه الوظيفة تمّت بلورتها بما يلائم حاجة العدم المنفلش فوق بيروت. إنه العدم الذي يهندس ذكريات المدينة بما يوائم صيرورة نزع الأنسنة عنها. فالعدم في هذا السياق هو نمط من الـ(جورج أوسمان) إنما على طريقته الخاصة وهي طريقة لا تحفل بالعمران إنما بإعادة هندسة الرؤوس بما يتوافق مع شرط الفجيعة المتجسدة باختزال الناس إلى محض كائنات بيولوجية.
ثمة محاولة جرت للخروج ببيروت من دائرة الانضباط البيولوجي وقذف المدينة مجدداً في رهافة اللاانضباط وكان ذلك عبر ثورة 17 تشرين من العام 2019 إنما المحاولة للأسف الشديد باءت بالفشل وقد تكاتف ضد هذه المحاولة كل فرقاء السلطة. نزع الأنسنة عن بيروت تمثّل في تلك الفترة عبر حلف شديد المتانة بين نزعة نيوليبرالية -هي من شيم سياسيي لبنان- والتي يتمحور مشروعها حول خصخصة حاجات المدينة وصولاً لجعل هذه المدينة جزءاً من مشروعها من جهة وسردية القول بفائض القوة من جهة أخرى وهو ما صيغ في المراحل التالية بتحالف الميم ميم أي المافيا والميليشيا. إنه الإطباق على (التاريخ الممنوع) للتواقين لمستقبل إنساني زاهر والإبقاء على (تاريخ معقول) هو عادة تاريخ (المنتصر).
نزع الأنسنة عن بيروت، هذه المدينة البيولوجية التعيسة، لم يترك لناس المدينة من أفق سوى أفق الانتظار، بمواجهة الكارثة لا بأس أن يكون الانتظار هو الصيغة المفضلة للوجود إذا أردنا قراءة المشهد انطلاقاً من ثيمة أثيرة على قلب صموئيل بيكيت.
كل مَنْ في بيروت منتظراً، منتظراً وحسب.

ذو صلة