الحب هو شعور بالانجذاب والإعجاب نحو شخص ما، أو شيء ما. والحب نعمة جميلة تشرق به الحياة، ويحفز الإنسان للعمل والعطاء، ليقوم بأدواره الإنسانية في هذا الكون العظيم، ولكن المبالغة في الحب تجعل الإنسان يتعلق بشيء أو شخص أو فكرة قد تخرجه عن حد السواء النفسي ليبدو كشخص مضطرب غير متوازن معرفياً، عاطفياً، ونفسياً، أي كشخص مهووس، مما يستدعي التشخيص النفسي لحالته وتعديل وتكييف تفكيره وانفعاله وسلوكه ليصبح متزناً متناغماً مع الواقع.
ويعبر مفهوم (الهوس) عن الحالة الزائدة عن الحد المنطقي حيال التعلق بشيء أو محبته أو الإقبال عليه، فمن الطبيعي أن يميل الإنسان لشيء أو فكرة أو شخص ويعجب بها، ولكن من غير الطبيعي أن يتعلق به تعلقاً مرضياً يصل إلى درجة الهوس. ولهذا يمكن اعتبار الهوس اضطراباً نفسياً ناتجاً عن تسليط فكر الإنسان على استحسان بعض الصور والشمائل لشخص أو شيء محبوب.
ويظهر السلوك الهوسي من خلال جمع الأشياء القديمة التراثية أو جمع صور فنان بشكل مبالغ به، أو الهوس بالسفر والتنقل أو الهوس بالتشجيع الكروي وحب الأندية الرياضية.. وغيرها من أمثلة الهوس المتعلق بحب شيء أو شخص لدرجة لا تكاد تطاق ولا يتقبلها المنطق.
الأسباب النفسية للهوس
قد يعزى السلوك الهوسي إلى الشعور بالنقص والدونية وعدم الثقة بالنفس، فالمهووسون ينقصهم غالباً احترام الذات، أو يعتمدون على غيرهم، أو يكون تقديرهم لذاتهم منخفضاً، أو يكونون في حالة استثارة انفعالية بسبب أزمة ما، بالمقابل يرى المهووسون الأشخاص الذين يحبونهم كأشخاص ناجحين ومنجزين لهم مكانة عالية في المجتمع، كما ينظرون للأشياء والإنجازات التي تجذبهم بصورة تؤكد ضعفهم وقلة قدرتهم على تحقيقها فيتعلقون بها عاطفياً ليعبروا بشكل غير واع عن عجزهم وعن عدم قدرتهم على الإنجاز.
كذلك قد يتم تعلم السلوك الهوسي من خلال متابعة البرامج والاحتفالات التي تعظم وتمجد الشخصيات والمواقف بشكل إعلامي يستند لأسس نفسية عميقة توظف الكلمة والصورة واللون لتكون أكثر تأثيراً، مخاطبةً العقل اللاواعي ومبرمجةً للسلوك ليظهر تلقائياً في المواقف المشابهة، حيث يتم إشراط استجابات السلوك الهوسي لتحدث تلقائياً تبعاً لنظرية التعلم الشرط الكلاسيكي.
كما يمكن أن يتم تعلم السلوك الهوسي من خلال النمذجة والتقليد، حيث يقلد السلوك الهوسي كما تم مشاهدته من قبل الكبار أو في وسائل الإعلام، خصوصاً في ظل التطور التكنولوجي الذي أتاح نقل أشكال مختلفة للسلوك ومن ثقافات مختلفة، وعادة ما يكثر التقليد لدى الأطفال واليافعين الذين لم تتشكل اتجاهاتهم بعد، وما زالت سلوكاتهم قيد التشكيل والتعديل.
ومن وجهة نظر بيولوجية يمكن اعتبار الهوس شكلاً من أشكال الإدمان، فالهوس ينتج عن المغالاة الشديدة في الحب، فكيمياء الجسم التي تقود إلى الإدمان مشابهة لكيمياء الجسم التي تنشط أثناء الوقوع في الحب، حيث يفرزالجسم هرمون الأوكسيتوسين المعروف بـ(هرمون المحبين) الذي يسبب الراحة النفسية والبدنية والشعور بالدفء والأمان أثناء رؤية الشخص أو الشيء المحبوب أو سماع صوته، ويؤدي عدم التواصل مع الشخص أو الموضوع الذي يحبه الشخص إلى عدم إفراز هذا الهرمون فيعاني الإنسان من أعراض انسحابية تسبب اضطرابات جسمية ونفسية مما يستدعي بإلحاح التواصل مع الشخص أو الشيء المحبوب وبشكل هوسي غير منطقي، مما ينعكس بآثار سلبية على شخصية المهووس دافعاً لارتكاب تصرفات غير عقلانية مما يمثل حالة اضطراب نفسي أو عصبي.
تعديل وتكييف السلوك الهوسي
ويمكن تعديل وتكييف السلوك الهوسي تبعاً للنظرية المعرفية في علم النفس من خلال معرفة الأسباب التي أدت لهذا السلوك عند الفرد، عن طريق فحص أفكاره وانفعالاته وسلوكه، ثم تدريب المهووس على السيطرة على الأفكار غير المنطقية أو إعادة تشكيلها لتعطي نتائج إيجابية، بحيث يتعامل مع الأشخاص والمواضيع والأشياء كما هي على حقيقتها دون مبالغة، وذلك بأساليب فعالة تعتمد على محاولة تغيير أفكاره وتخليصه من الإدراك الخاطئ لنفسه وللآخرين وللبيئة، وتقوية ثقته بنفسه ليصبح أكثر وعياً واتزاناً وأكثر قدرة على تقييم الأمور بموضوعية.
كما يمكن تعديل وتكييف السلوك الهوسي تبعاً للنظرية السلوكية في علم النفس من خلال إشغال المهووس بالأعمال والأنشطة الهادفة والتعلم المفيد، ومشاركته في النوادي المتخصصة بتطوير المهارات، وذلك فى حدود قدراته الشخصية، وبالدرجة والنوعية التى يختارها بنفسه، مما يتيح له الفرصة لإتقان مهارات جديدة والتفاعل مع أصدقاء جدد فيشعر بالسعادة والإنجاز وينمي شخصيته ووعيه وحكمه على الأمور بعقلانية دون تهور.
أما العلاج النفسي التحليلي فيتضمن أن يساعد المعالج النفسي المهووس للحديث عن معاناته، والكشف عن الصراعات والإحباطات الداخلية في أعماقه، وعن الرغبات والنزعات المكبوتة التي تؤرقه وتشعره بالنقص والدونية، الأمر الذي يدفعه لتقمص الشخصيات التي ينبهر بها، وتبني المواقف المبالغ بتشدده تجاهها مدافعاً بذلك عن شعوره بالنقص والدونية والفشل.
وقد يحتاج المهووس إلى العلاج بالعقاقير النفسية مثل مضادات القلق والاكتئاب ليخفف أعراض القلق والتوتر التي تحفز السلوك الهوسي، ويجب أن يكون ذلك تحت أشراف الطبيب النفسي.
كما يمكن أن يسهم العلاج النفسي الذاتي في تعديل السلوك الهوسي من خلال تعزيز مفهوم الذات وتنمية الثقة بالنفس، حيث يتم تدريب الفرد بشكل منظم على تعديل أفكاره وسلوكه ليتخلص من مفهوم الذات السلبي ومن الأفكار غير المنطقية ليصبح أكثر قدرة على شفاء نفسه بنفسه وأكثر نضجاً ووعياً وتوافقاً.
وختاماً، لا بد من الإشارة إلى أهمية تعاون المؤسسات المجتمعية المختلفة بشكل متكامل لتربية جيل واعٍ يتمتع بتفكير عقلاني مرن وسلوك متزن وقدرة على تطوير الحاضر وبناء المستقبل، لمواجهة السلوك الهوسي وآثاره الضارة.