الرجل الذي مات ثلاثاً وثلاثين مرة من قبل، حان الآن موعد ميتته الرابعة والثلاثين، شعر أنها ستكون ميتته الأخيرة، تعلقت عيناه بساعة الحائط المواجهة لسريره، وحين تطابقت عقارب الساعة الثلاثة، فوق رقم الثانية عشرة، قام في هدوء شديد من سريره حتى لا يُقلق زوجته، وفتح خزانته ثم أخرج حقيبة قديمة، اعتاد حملها في كل ميتة سابقة، لكنه في هذه المرة، وضع داخلها أشياء، لم يكن قد اعتاد أن يصحبها معه في كل مرة: أصيص الزرع الذي وضعه في شرفته منذ ثلاثة وثلاثين عاماً، ولم ينبت بعد رغم أنه كان يسقيه كل يوم ويعرضه للضوء، عصا جده الذي تخلى عنها حين شبَّ وصار بمقدور جده أن يتوكأ عليه، المبخرة القديمة التي أخفتها أمه وسط ثيابهم القديمة، خوفاً عليه بعد أن أخبرها الطبيب أنه مصاب بحساسية الصدر، قاده فضوله لفتح المبخرة، فوجد داخلها بقايا أعواد بخور، لأول مرة، يشتم رائحتها دون أن يسعل، ووجد العشرات من العرائس الورقية المثقوبة التي كانت أمه، تصنعها كلما أصابه مكروه، وتثقبها بطرف الإبرة، ابتسم حين تذكر تمحيص أمه في العرائس لتعرف من تشبه هذه العرائس من معارفها، لتصل إلى مصدر الحسد، دقق النظر في العرائس، فوجدها تشبه أمه، الآن، قد فهم سر إشفاق جدته على العروس الورقية، ورجائها ابنتها أن تتوقف عن وخزها بقوة، وهي تردد:
- ما يحسد المال إلا صحابه.
أمسك بكاميرا والده، وأزال التراب العالق بها ثم نظر داخلها، فلم ير شيئاً، لم تصبه الدهشة، لأنه كان يعرف أنه يضع دائماً إصبعه على العدسة، أزال إصبعه، وأخذ يبحث حوله عن شيء يصوره، فلم يجد سوى الشعرات البيضاء التي تكسو شعر زوجته المستغرقة في سباتها، يبدو أن الكاميرا، قد ذكرته بألبوم صوره القديمة، ترك الكاميرا، وأمسك بألبوم الصور، فشاهد كل الصور التي التقطها له والده، صورته في تمرين السباحة والكاراتيه والمصارعة، وصورته في (السيرك) وهو يمسك بذيل أسد، بجواره مروضه، كم تمنى في صغره أن يكون بطلاً، ترك كل هذه الصور، فلم يضع في حقيبته سوى صورة واحدة، قد التقطها له والده خلسة، وهو يجري خائفاً، تطارده دجاجة.
أمسك بمظروف كبير ممتلئ بأوراق الأشعة والتحاليل، وأخذ يتفحصها، فمنع دموعه خشية أن تغرق الورق وتفسده ثم وضع الأشعة والتحاليل داخل الحقيبة، وحاول أن يبحث عن مكان داخلها، ليضع فيه أشياء أخرى، كم تمنى أن ترافقه رحلته، ثم أغلق الحقيبة، وحملها على كتفه، اتجه صوب باب بيته، وفتحه في رفق ثم انصرف، ظلمة الليل، لم تبعث الخوف داخله، ولا شكل المقابر، رغم تشابه كل المقابر، والتي خلت من أسماء أصحابها بعدما سرق اللصوص الشواهد الرخامية من عليها، إلا أنه كان يعرف وجهته جيداً.
جلس أمام القبر، وتذكر أول مرة، أتى فيها إليه منذ ثلاثة وثلاثين عاماً حين دفن داخله، وليده الذي لم تتخط أيامه في الحياة أصابع اليد الواحدة، وتذكر حين عاد بعد يومين، ودفن رحم زوجته، التي أصرت على دفنه بجوار رضيعها بعدما استأصله لها الطبيب.
سمع وقع أقدام، تقترب منه، لم يخف، ولم تصبه الدهشة، فقد اعتاد في كل ميتة سابقة، أن يجد زوجته في الناحية المقابلة للقبر، تمسك بحقيبة، تضع داخلها الأشياء التي كان يود زوجها أن يصحبها معه، ولم يجد لها مكاناً داخل حقيبته.