مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

شاهد بالإكراه

في يوم عقد قراني، كنتُ على وشك إلغاء الفكرة برمتها بالرغم من أنني أعددت العدة للزواج من ثلاث سنوات، فما حدث قبيل عقد القران بساعات، جعلني أشكُ في كل خططي المستقبلية في إطار الزواج.
كان من المفترض أن يمر ذلك المساء بهدوء لولا أن عمي المقبل وأبا زوجتي المصونة رشح لي ذلك المأذون الشرعي تحديداً، فقد تعذر بظروفٍ معينة قد تؤدي لتأخير العقد، فما كان مني إلا أن أخبرته بأنني على أتم استعداد لتوصيله، ولم يرد في خاطري بأنني سأكون مرافقه الشخصي لتلك الليلة الطويلة.
وصلتُ بيت المأذون وقت صلاة المغرب، فُتح الباب، طُلب مني الدخول، استقبلني رجل في العقد السابع من العمر، قصير القامة، له لحية بيضاء كثة، يبدو عليه الوقار، أصر أن نُصلي المغرب سوياً ففعلت، عرضَ عليّ أن نشرب القهوة فاعتذرت وخيراً فعلت فلقد شربت الكثير من فناجين القهوة لاحقاً.. بدأت الرحلة، عند المنعطف الأول، تحدثَ لي بلطف: (علينا التوقف في بيت على الطريق، لإتمام عقد قران، عسى الله أن يهبك الزوجة الصالحة..).
توقفنا في الدار الأولى.. نزلَ المأذون، فضلتُ البقاء في السيارة، ولكن أصحاب البيت أصروا على دخولنا إلى صالون في منتهى الفخامة، مظاهر البذخ والبهرج سادت على المكان، شربت فنجاني الأول في تلك السهرة، وأتبعوه بالثاني والثالث.. بدأ المأذون بقراءة الآيات عن الزواج فتابعت بإنصاتٍ عريساً متفائلاً فرحاً، وحين سأل هل هناك من شروط ينبغي كتابتها في العقد، أفقت من نزهتي تلك، لأسمع أخا العروس، فتى لا يتجاوز العشرين:
- أختي تسوق، وتبغي سيارة طراز 2024 من سيارة...
وهنا رد العريس بنشاط: تسوق، والسيارة التي تأمر بها...
- إذاً اكتب الشرط في العقد يا شيخ.
انهالت المباركة على العريس، رفع صوت الأغنيات عالياً للرقص من داخل البيت، شعرت بأنني الوحيد الذي ينظر بغرابة للمشهد، فالجميع موافقون، تم العقد.
خرجنا محملين بعلبِ الحلوى الباهظة الثمن، وفي الطريق توقفنا عند قاعة أخرى، كانت القاعة كبيرة للغاية، ولكن الأثاث يبدو قديماً، هذه المرة أسند المأذون كتفه على ذراعي، وكأنني ابنه البار، أما عن غترتي وثوبي فأصبحت أقل أناقة أو هكذا شعرت.
دخلنا، شربنا القهوة وبعد الحلف من المضيف شربت المزيد من القهوة، قُرئت الآيات، ولكن العروس رفضت التوقيع عندما وصل إليها العقد، وعند سؤالها عن سبب الرفض، أجابت بأن شرطها بألا يتزوج الثالثة، لم يُكتب، وبعد أخذ ورد، كُتب الشرط، وقعت شاهداً، تم العقد.
خرجنا وكلي أمل أن يكون عقدي هو التالي، لكن ذلك الشيخ كان داهية أكثر مما توقعت ابتسم بمكر قائلاً يا ولدي:
(العجلة من الشيطان).
وهنا بدأت أفكر هل يقصد أن أعيد التفكير في خطة الزواج.
عرجنا في الطريق على مسجد جلس فيه شاب رقيق أو كما تُطلق عليه الفتيات في أيامنا هذه (كووول)، يرتدي ثوباً ملوناً، دون غترة، يبدو حاجباه منمقين للغاية، شعره مصفوف بعناية، بل ومربوط بشريطٍ بنفسجي، قرأ المأذون الآيات، ثم قرأ الشرط الوحيد بصوتٍ مسموع للجميع، هنا ظننت أنني مرهق، متعب، متوهم، فقد اشترطت العروس أن تكون العصمة بيدها، انتهى من قراءة الشرط، فرد العريس (الكوول): (موافق، موافق يا شيخ)، ثم علت وجهه ابتسامة فتاة قد احمر وجهها خجلاً وفرحاً. نظر للحاضرين بوداعة وغنج، نظرت بغرابة لتلك العروس أقصد العريس، قاطعني والد العروس: تشهد على العقد! وقعت.
خرجت واجماً، أفكر تُرى أي شرط ستطبقه عروسي! وتجعلني أوقع عليه! لم أفق إلا وأنا أشرب القهوة في البيت الرابع، دخلنا شقة متواضعة، لم أشعر فيها بالفرح، فاحت رائحة قهوة بدل البخور من بعيد، أما العريس فكان رجلاً كبيراً في العمر، جمع بين علامات تدل على الجاه وسوء الخلق، لو أن لي أختاً ما جعلتها تتزوجه قط، يجلس بجانبه ابنه الذي يبدو في عمر العروس المقبلة له.
سأل المأذون: هل وصل المهر؟
رد عم العروس: وصل.. وصل..
اخترق السكينة صوت فتاة من خلف الأبواب،
تصرخ: حرام عليكم، ما راح أتزوجه في عمر أبويا -الله يرحمه- ما راح أتزوجه.. اختفى الصوت.. سكت الجميع، ظننت بأن العقد لن يتم، حتى أمسك العم بيد المأذون ودفع له ما جعله في دقائق يبتسم ملء شدقيه، تم العقد، وقع الشهود وبعد لحظات تبدد السكون من داخل المنزل اختلط البكاء بأغانٍ تبارك بالزفاف. ارتفعت زغاريد حجبت صوت أنين مكبوت.
في المقعد الخلفي للسيارة، مشلح بلون سكري، غترة بيضاء مجعدة، والعديد من علب الحلوى الفاخرة والبسيطة والحزينة أيضاً..
في المقعد الأمامي عريس مرتقب ومأذون طاعن في السن، وحديث لا يقال.
همست بيني وبين نفسي:
- لقد تزوجت الليلة مرات تكفيني للعمر كله.
وصلنا لبيت عروسي في حوالي الحادية عشرة، غابت ابتسامتي، لم يستقبلنا أحد، سمعت الزغاريد من خارج البيت، دخلنا، بدا وجه والد العروس شاحباً، غاضباً..
- مبارك يا عريس
سمعت الحضور يبارك لابن عم العروس، نظرت لوالدها،
- أحرجتنا بتأخيرك، الله يصلحك.
أطرقت مفكراً،
بينما رد أحدهم: لا ينكسر خاطرك، عطيتك بنتي!
رفعت رأسي في ذهول، نظرت للمأذون فوجدته مبتسماً، يحرك رأسه محرضاً لي على الموافقة، وقبل أن يرفع يديه ليبدأ بالمراسم، نظرت للجميع بنظرات تائهة، خلعت المشلح سقطت الغترة، خرجت مهرولاً من البيت، أطلقت العنان لساقاي، سمعت أصواتهم تناديني..
وقفت بعيداً.. تنفست الصعداء.

ذو صلة