مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

صفحة من دفتر الذاكرة

بعد السنة الأولى من المدرسة صارت ذاكرتي وفية لاكتمال المَشاهد، ما قبلها غير واضح بما يكفي للتذكر، وما بعدها واضح تماماً كصورة مغطاة بزجاج رقيق لا غبار عليه. زمن المدرسة هذا الحدث الاستثنائي الذي بدأ في عام 1976. كانت (حنينا) للتو تصبح ملاذاً لجدي من شقاء زمن الحل والترحال وراء العشب والماء، فبنى أول بيت فيها من الطين والحجر. وهو عبارة عن غرفة طولها ثمانية أمتار وعرضها أربعة بنيت عام 1956على مرتفع يطل من الجنوب على (مادبا) ومن الشمال على عمان، ومن الشرق على سهوب ممتدة، ومن الغرب على سلسلة من التلال والجبال التي تنتهي في الغور، وتبدأ تلال وجبال فلسطين. قالت لي أمي إنهم وهم يحفرون بحثاً عن التراب الطري ليعجنوه بالماء والتبن عثروا على جرة فخارية وجدوا فيها تراباً ناعماً، فسكبوه على كومة الطين. في المساء وحينما توسط القمر السماء، كان الجدار الشرقي للبيت يلتهب لمعاناً من دون أن يعرفوا أن ما كان في الجرة تبر وليس تراباً. حينما اكتمل بناء تلك الغرفة أطلقوا عليها اسم (الدار الكبيرة) تلك التي أتت إثر قرار في الاستقرار بعد زمن من مطاردة العشب والماء، ومقارعة أعمدة الغبار، وقسوة شمس آب حينما تحرن في منتصف السماء وتحوّل كل شيء إلى كيانات مستسلمة، مهزومة أمام زعيق الحرارة. كان جدي يعرف أن القرارات المصيرية لا تأتي إلا بتضحيات جسام. ويعرف أنه سيفتقد عالماً حرّاً في ليلِه فرصة لتأمل لا نهائي يزيل عن كاهل قلبه غبار التعب. وفي صباحاته صفاء لا توفره قرى كان يعي أنها لابد يوماً أن تكبر مثلها مثل سائر الأشياء، وتفقد نسختها الأصلية. يعرف أنه سيصير مثل شجرة لن تبرح مكانها. لكن بعض التضحيات يمكن أن تنحاز إلى المناطق الوسطى في الخيارات، فخطوته تلك لم تقص بيت الشَّعر، وبيت الشِّعر، والربابة. نُصب بيت الشَّعر بجوار الدار الكبيرة، وفي عموده الأوسط علق الربابة. صار بدويّاً ريفيّاً. مزيج عجيب رأيت فيه حقول القمح، والشعير، والحمص، والكرسنة، فعشت طقوس الحصاد، والبيادر، وسمعت الأغنيات التي تطفح باللوعة والحنين. رأيت الشياه والماعز والأبقار، فعشت تفاصيل الرعي حين تقرع الأجراس صباحاً، وينتهي عند الغروب. وأنصت مليّاً إلى حداء، وقصائد تشرع باب المخيلة بسهولة لذيذة على عوالم مربكة. هل هي عوالم مفتقدة؟ أم عوالم لم تأت بعد؟ صورتان: واحدة لعالم البدو الذي يثق أبناؤه بالنجوم دليلاً إلى الجهات، وأخرى لعالم الريف الذي يثق بالشجرة المتشبثة بالأرض. صورتان معلقتان على جدار مخيلتي جنباً إلى جنب، صارت كياناً واحداً، يريني جَدّي وهو يمتطى صهوة فرسه، يضع كفه أعلى حاجبيه ويحدق بالبعيد. جدتي بعينيها العسليتين وهما تتخذان شكل حبتي لوز، تحرّك بعصا طويلة إناء يرقد على ثلاث أثاف تشتعل بينها النار، يغلي فيه معقود العنب، الذي قطف من البستان. أمي وهي تقرفص قرب صاج تتلوى تحته ألسنة النار، وما إن تلقي عليه العجين بعد أن تلوحه بين يديها فيرقَّ حتى تفوح رائحة الخبز. رائحة مفتقدة لها علاقة بالحنين إلى الماضي الموصوف بالنقاء. أبي. جندي يغيب لأكثر من أسبوعين ويعود في إجازة قصيرة ليومين أو ثلاثة. كان مدى القرية أكثر اتساعاً، إذ نراه عن بعد نصف كيلومتر يهبط من الحافلة على طرف الشارع الذي يربط مادبا بعَمان يحمل بيديه أكياساً. كنا نعرفه من لون بذته العسكرية، والتماعة الشعار على قبعته العسكرية، فنهرع إليه مدفوعين ببهجة استثنائية. كان له رائحة لم تخسرها الذاكرة للآن، رائحة أبوّة لم تلتهمها الصحاري والمسافات البعيدة. نحمل عنه ما بيديه، ونسرع الخطى أمامه نركض بالبشارة لأمي التي ما إن تراه حتى يورد خداها، ويميل صوتها إلى رتم لا يظهر إلا في أوقات مثل تلك. لكن غياباته الطويلة تركت في دواخلي مساحة فارغة جعلتني أنحاز إلى جدي وجدتي وأمضي نهاراتي في بيتهم. كان جدي كثير التفكير بعمي عزيز الذي غادر البلاد إلى رومانيا بعد عام من ولادتي. غاب لعامين خلالهما كان جدي يملي على من يكتب له رسائل نصفها قصائد ووصايا تحثه على أن يكون رجلاً لا تهزمه الغربة. عاد في عام 1973، لم تسعفني ذاكرتي في أن أتذكر يوم عودته، رغم الملامح الضبابية ليوم زواج عمي الذي عاد لأجله. قال لي أبي إن جدي في تلك السنة جاء بأول تلفاز إلى القرية، وأول (لوكس) مصباح أشد إنارة من الفانوس. في الرابع من مارس عام 1977 خيم الحزن على العائلة، إذ شاهدوا خبراً يروي تفاصيل زلزال وقع في رومانيا أسفر عن وفاة 1570 شخص. كتبوا برقية أرسلت إلى رومانيا ولم تلق جواباً، وأتبعوها برسالة. الهاتف الأقرب آنذاك كان في محطة وقود على الطريق التي تربط مادبا بعمان، لكن لا مجيب، إذ تعطلت شبكة الاتصالات في رومانيا. كنت في ذلك العمر أرى جدّي في كامل حزنه، ينتظر أي خبر يطمئنه على عمي عزيز. قلق انسحب على معظم سكان القرية. ثمة مشهدان في تلك السنة يتداخلان ببعضهما. الأول أراني فيه أجلس في ظل البيت، أحاول أن أصنع من أسلاك معدنية فرساً على غرار فرس جدي الذي حينما كان يمتطيها، ويهبط سفح القرية ذاهباً إلى مادبا أبقى أراقبه بلهفة إلى أن يتوارى في الأفق كفارس أسطوري وجهته بلاد بعيدة. والثاني: أراه فيه عائداً من مادبا يصعد السفح مشياً وهو يكابد الوعورة. أهبط نحوه مسرعاً كحجر تدحرج فجأة. أخبره بصوت زاعق أن عمي عزيز عاد من رومانيا. يسرع من خطاه. يجري. أجري خلفه. يصعد الدرج ويفتش غرف البيت الذي بني بشكل طولي، وقبل أن يصل الغرفة الأخيرة. يصرخ بي بصوت تعلوه اللهفة: أين هو؟ تحسم جدتي الأمر قائلة: اسم الله عليك. عزيّز لم يعد. ينظر إليّ غاضباً. يمشي نحوي. يصفعني. ينظر إلى الأفق، ثم إلي، ويجهش بالبكاء.
لا أدري لماذا ارتكبت خطيئة بحق رجل يتلبس قلبه الخوف على ابنه. هل هو ذلك الشكل من التعاطف مع حزنه وبالتالي صنعت خبراً وهمياً ربما تعتمده الحقيقة؟ أم أني فعلت ذلك جراء حزني الطفولي آنذاك على رجل لم أراه إلا في الصور. عادت الاتصالات في رومانيا بعد أسابيع، وجاء صوت عمي عزيز يخبرهم بأنه على قيد الحياة. أتذكر في ذلك اليوم أن جدي نحر عدداً من الماعز، فاجتمع أهل القرية على العشاء.

ذو صلة