(اركبي باص النقل العام).. اقترح صديقي ببساطة حين أخبرته قبل أيام أنني أعاني شحاً في الأفكار، وما أزال بحاجة لكتابة ثلاث قصص كي أكمل مجموعة كنت حصلت على منحة من إحدى المؤسسات الثقافية لإنجازها، تذكرت اقتراحه اليوم بعد الغداء، حين كنت مسترخية، أشرب الشاي في سريري، فغالبت بصعوبة نعاسي وقررت أن أخرج.
غادرت البيت وقت الذروة المسائية، التي تترافق عادة مع موعد إغلاق الأسواق المبكر في الشتاء، وبعد نصف ساعة من الانتظار، استطعت أخيراً أن أجد لي مكاناً في أحد الباصات، متشبثة بواحدة من الحلقات البلاستيكية التي تتدلى من السقف، وعيناي تراقبان بنهم الازدحام الذي يزداد حولي مع كل محطة يقف عندها الباص فيفتح السائق البابين، ويتدافع الركاب دون تمييز بين باب أمامي للصعود، وآخر خلفي للهبوط، يشق المغادرون طريقهم بصعوبة بين الصاعدين، يستخدم الرجال مرافقهم، وتستخدم النسوة حقائبهن الكبيرة، وأنهمك أنا في جمع تفاصيل ألتقطها من الوجوه المتعبة حولي، أو من نتف من حوارات أسمعها هنا وهناك، فأخزن منها في ذاكرتي ما يصلح ليكون رؤوس خيوط قد أنسج منها لاحقاً قصصي.
(شو صار معنا).. يصيح السائق بعد أن يتوقف لدقيقتين أو ثلاث في كل محطة، فتجد صيحته طريقها بين الأجساد المتزاحمة، تجتازني وتصل إلى مؤخرة الباص، (خااالص، روووح) يتطوع بضع رجال ويجيبونه، فيغلق البابين وينطلق.
(مين ما حاسب؟) بين الحين والآخر كان صوت نحيل يسأل بنبرة آلية، ويبدو سؤاله بلا معنى، فمع كل محطة، تلتصق الأجساد المنهكة أكثر، وتعبق الروائح أكثف، لم أستطع بداية رؤية صاحب الصوت، ثم حين انسل بصعوبة بيننا وسط الزحام، اكتشفت أنه فتى عشريني بدين بثياب رثة، يحمل دفتر تذاكر بيمناه، ونصف سيجارة خلف أذنه، وبالطبع فقد ضممته إلى قائمة الأبطال المحتملين لقصة ما.
(تفضلي) قال لي شاب تخلى عن مقعده، شكرته وجلست إلى جانب عجوز تنظر عبر النافذة إلى يمينها، التفتت نحوي مبتسمة بمودة، تبادلنا بضع عبارات عن الزحام وبرد كانون، وعرفت أنها ستنزل في المحطة الأخيرة مثلي، كنت أنوي أن أتحدث معها أكثر، لكنها أسندت رأسها إلى النافذة وغطت في النوم، صورت بهاتفي يديها المجعدتين المتشابكتين فوق حقيبتها الجلدية المهترئة النائمة في حجرها، فمن صورة كهذه يمكنني أن أكتب يوماً قصة جميلة، ثم فتحت التطبيق الخاص بتدوين الملاحظات في هاتفي، وانهمكت في تسجيل ملاحظات مقتضبة متفرقة، بدأت الأصوات حولي تتكرر بصورة رتيبة، وقوف الباص وانطلاقه، نزول ركاب وصعود آخرين، شعرت بالنعاس، فأخرجت من حقيبتي حبة سكاكر بنكهة قهوة (الإسبريسو)، سرت دفقة من الكافيين في دمي، وغرقت من جديد في الكتابة بشيء من النشاط، هواء بارد لسع خدي الأيمن فجأة، وانتبهت أن هدير الباص صار أعلى، وأنني لم أسمع صيحة السائق منذ زمن، رفعت رأسي، فاكتشفت أن العجوز إلى يميني وزجاج نافذتها كانا قد اختفيا.
تلفت حولي، عتمة رمادية ثقيلة كانت تلف كل شيء، احتجت بضع لحظات لأعتادها، ميزت أولاً الأجساد المتزاحمة، ثم بصعوبة تبينت الوجوه الكالحة التي بدت متشابهة بشكل غريب، وكأن ممحاة مرت بملامحها وتركتها باهتة، بعيون شاخصة يابسة، سرت في جسدي قشعريرة رعب، وقبل أن أستوعب شيئاً سقط رجل في مقدمة الباص بارتطام مكتوم فوق الأرضية، التي اكتشفت فجأة وجود أجساد أخرى خامدة عليها، متكومة هنا وهناك كأكياس من الخيش، هل هم أموات؟ سألت نفسي، وقبل أن أجد جواباً نهضت امرأة من مقعدها، وأسرعت نحو المكان الذي تكوم فيه الرجل، داست جسده، ترنحت فوقه لحظة ثم رفعت يدها وأمسكت الحلقة البلاستيكية المتدلية من السقف فوقه، مستعينة بها لتتوازن، كان هذا ما ظننته، لكن حين أدخلت المرأة رأسها داخل الحلقة، اكتشفت أنها كانت حبلاً ثخيناً يتدلى من السقف، أحكمته حول عنقها دون أن يبدو على ملامحها الباهتة الحيادية أي تبدل، وراحت تتمايل نحو الأمام والخلف مع اندفاع الباص. نظرت إلى الراكب الذي يقف قرب مقعدي، فرأيت حبلاً مماثلاً حول عنقه، وسرعان ما ميزت بصعوبة في العتمة حبالاً أخرى حول أعناق الجميع.
أنا أحلم، يجب أن أستيقظ، أكدت لنفسي، أغمضت عيني بقوة طويلاً، محاولة التركيز على طعم الصحو، طعم (الإسبريسو) الذي ما زال في فمي، لكن صوت ارتطام جديد مكتوم أجفلني، فتحت عيني واكتشفت أنني ما أزال هنا، أغمضتهما وفتحتهما بضع مرات، ولم يتغير شيء.
ماذا لو لم يكن حلماً؟ خطر لي هذا الاحتمال، لكنني طردته على الفور، فها أنا بشجاعة، لا يملكها إلا شخص يحلم، أستعين بحافة المقعد وأنهض. لم يبد أن أحداً من هؤلاء الأموات الأحياء -أو ربما الأحياء الأموات- قد لاحظني، بصعوبة شققت طريقي بينهم، متجهة نحو السائق لأطلب منه التوقف لأنزل.
أنا أحلم، تأكدت الآن، فهذا منطق الأحلام عادةً كما تعلمون، أعني أن كابوساً كهذا يستدعي أن يكون السائق واحداً من ممسوحي الملامح، يداه متشبثتان بالمقود وعيناه شاخصتان، وهذا ما اكتشفته تواً، ناديته، نقرت على كتفه بأصابعي، ثم هززته بإلحاح، لكنه لم يلتفت أبداً، وعبر الواجهة الأمامية للباص رأيت شوارع المدينة التي أحفظها شبراً شبراً، العتمة نفسها، المطبات نفسها، برك الوحل نفسها، والازدحام الخانق نفسه، لكن الباص يجد طريقه بيسر لا أعرف كيف، مندفعاً دون توقف.
هؤلاء الأحياء في الخارج هم أملي الوحيد، سأنادي على أحدهم، سائق سيارة ما، أو أحد العابرين، أو شرطي المرور ربما، أتلفت حولي فأجد النوافذ كلها موصدة، أتذكر نافذتي وأهم بالعودة، فألمح انعكاسي على زجاج الواجهة وأكتشف أنني..
يا الله! يجب أن ينتهي كل هذا، يجب.
نصف جسدي خارج الباص الآن، الهواء البارد يصفعني، أصرخ بهم عبر نافذتي، ألوح لهم بيدي، أرى عيوناً تحدق بي بفضول، ألمح حدقات تتسع فزعاً، أو دموعاً تنسكب حزناً، لكنهم جميعاً يشيحون بوجوههم عني، ويتابعون طريقهم، أصرخ بهم، أشتمهم، أتوسل إليهم، ثم ألعنهم، وألعن هاتفي الذي اكتشفت تواً أنه فارغ من الشحن.
ألم أقل لكم إنني أحلم! هذه الأشياء المستفزة تحدث دوماً في الكوابيس، تفرغ الهواتف من الشحن، والأقلام من الحبر، والحناجر من الأصوات.
أجلس في مقعدي قرب النافذة، أحني رأسي، وأضغطه بكفي بعنف، يجب أن أستيقظ، يجب أن ينتهي كل هذا، ما تزال لدي الإرادة لأصحو وأخرج، لن أيأس، فهكذا تسير عادة أسوأ أحلامي، تتعقد الأمور، وفي أكثر اللحظات صعوبة أو ألماً أو رعباً أجدني أخاطب نفسي: (لست مضطرة لمتابعة هذا، كفى! استيقظي الآن)، ينجح الأمر دوماً وأستيقظ، وهذا ما سأفعله الآن.
أستجمع قوتي وأغادر مقعدي، أقف في منتصف الباص، أراقب ما حولي بانتباه شديد، يسقط أحدهم فأتحرك مسرعة، أدفع بقسوة رجلاً يتجه نحو الحبل الشاغر، وأصل قبله، أحكم لف الحبل حول عنقي، وأستسلم لاندفاع الباص، يتمايل جسدي نحو الأمام والخلف، وأختنق، يمر أمامي شريط حياتي كما يحدث عادة لأبطال الأفلام، وتمر أيضاً كل القصص التي فكرت بكتابتها منذ صعدت الباص، قصص تكفي لمجموعة كاملة، سأكتبها حتماً حين أخرج من هنا، سأكتبها حين ينتهي كل هذا.
أختنق، أختنق، يسري خدر في جسدي، وتعجز قدماي عن حملي، وحده الحبل الآن يحمل ثقل جسدي، لا ألم، ولا خوف، فقط أختنق، أخ..
أصحو على صوت ارتطامي بالأرض، أفتح عيني في العتمة مبتسمة، أدرك أنني غفوت بعد الغداء، وسقطت أثناء نومي عن سريري، لا أبالي بآلام جسدي، أهم بالنهوض، لكن أحدهم يدوسني، وأسمع هدير الباص.