مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

فلسفة الجمال

إذا كان الفلاسفة اتفقوا على أنّ جوهر الفن هو فلسفة الجمال، إلا أنهم اختلفوا حول جوهر الجمال، ما هو الجميل؟ وماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر في شيء ما لنقول بأنه جميل؟ أسئلة كثيرة وغيرها تطرق لها الفلاسفة عبر التاريخ بما عرف بـ(الأستطيقا) أو فلسفة الجمال أو علم الجمال، وهذه الكلمة تعود في أصولها إلى اللغة اليونانية القديمة وتعني المعرفة الحسية أو العلم المتعلق بالإحساسات، ويدرس علماء الجمال في الوقت الراهن الفنون بشكل عام، محاولين فهم علاقة الفن بأحاسيس الناس، وبما يتعلمونه وبالثقافات التي يعيشون فيها، ولاحقاً كيفية تأثير الفن في أمزجة الناس ومعتقداتهم وأفكارهم والقيم التي يتبنونها ويؤمنون بها.
ظهرت المصطلحات الأولى لعلم الجمال عند الإغريق القدماء وتحديداً في أشعار هوميروس، فقد استعمل هوميروس الكثير من التعابير الجمالية في ملاحمه مثل: الرائع، الجمال، التناسق، وهو من قال: (إنّ أثينا سكبت الجمال على أوليس)، وقد اعتبر الشيء الجمالي هو الشيء الواقعي الذي نستشعره بحواسنا من ناحية، ومن ناحية ثانية اعتبر الإنتاج الفني هبة من عند الآلهة، أما هيراقليط (530-470 ق.م)؛ فالجمال بالنسبة له صفة للعالم الموضوعي الملموس وهو نسبي، ووجود النسبية في الجمال برأيه ناجم عن اختلاف الأنواع، (فأجمل قرد هو قبيح بالنسبة للجنس البشري، كما أنّ أحكم الناس عند مقارنته بالآلهة يشبه القرد في الذكاء والجمال).
في ضفة أخرى ارتبط الجمال بالخير والفائدة والهدف المرجو من العمل عند سقراط، فالشيء الرائع هو الذي يفيد وينفع، وكان من ميزاته كفيلسوف يبحث في علم الجمال أنه أكّد بشكل واضح العلاقة بين ما هو أخلاقي وما هو جميل، إن الإنسان المثالي بالنسبة له هو الذي يجمع بين الجسم الرائع والأخلاق الرائعة.
يقدم لنا التاريخ الفلسفي عدداً من الفلاسفة ممن اهتموا بهذا الجانب وتركوا آثارهم وانطباعاتهم وأفكارهم، ويبدو أنّ الفلاسفة انقسموا إلى اتجاهين حول موضوع علم الجمال: الاتجاه الذاتي وسموا أنصار المذهب الذاتي لعلم الجمال، والاتجاه الموضوعي وسموا بأنصار المذهب الموضوعي لعلم الجمال.
ويعد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804) من أبرز رواد الاتجاه الذاتي، حيث اعتبر أنّ الحكم على الجمال حكم ذاتي ويتغير من شخص لآخر، معتبراً مصدر الشعور بالجمال كامن فينا، في مزاج الروح وليس في الطبيعة، وكان ظهور كتابه (نقد ملكة الحكم) بمثابة نقلة في فلسفة الجمال حتى أن البعض اعتبر أنّ نظرية الجمال ما كانت تستحق الحديث عنها حتى صدر كتاب إيمانويل كانط، وبحسب كانط إنّ الجمال يتحدد من خلال الحكم الذي تصدره على الجميل، وهو حكم تمليه اللذة المتوقعة من الموضوع، وفي هذه النقطة يقول: (إنّ الجمال هو ما يمكننا أن نتمثله خارج أي مفهوم) ويضيف: (لكي نميز الشيء هل هو جميل أم غير جميل، فإننا نعيد تمثل الشيء إلى الذهن من أجل المعرفة، بل إلى مخيلة الذات وشعورها باللذة والألم).
وعلى الرغم من تعرض نظرية كانط للانتقادات من ناحية أنها متناقضة، إلا أنها بلا شك تعتبر أقرب إلى الواقع المعاش، فهو وإن وصف الحكم الجمالي بالذاتي إلا أنه يتواصل أيضاً مع الذوات البشرية الأخرى في كل الأزمنة والأمكنة، بدليل أنّ البشر يشتركون في التعاطي مع القضايا الجمالية بنسب كبيرة في كل زمان ومكان، أكثر من اشتراكهم في قضايا وأمور أخرى.
على طريق كانط سيخوض عدد من الفلاسفة أمثال شيللر وغوته وشيللنغ في موضوعة علم الجمال وفلسفته، ولعل أكبر مآثر شيللر (1759-1805) كما يقول هيغل في كتابه (المدخل إلى علم الجمال) (أنه تجاوز ذاتية كانط وتجريده، وحاول أن يحقق بالفن الوحدة والمصالحة بصفتهما التعبير الأوحد عن الحقيقة)، ويعتبر شيللر حلقة الوصل بين كانط وهيغل، أما غوته (1749-1832) فقد أسهم بقسط كبير في تطور علم الجمال، لا في ألمانيا وحدها وإنما في العالم كله، وتحتوي مؤلفاته الفنية الكثيرة ومقالاته الناقدة وأحاديثه أفكاراً مهمة حول مسائل علم الجمال، وقد كان لرحلته إلى إيطاليا أثر كبير في تكوين آرائه الجمالية.
غير أنّ هيغل (1770-1831) سيكون من بين تلامذة كانط الأهم والأكثر شمولية في تناول المسألة الجمالية، ومعه سيبلغ علم الجمال الكلاسيكي ذروة تطوره، وهو الذي قدم ما عرف بموسوعة علم الجمال الهيغلي متضمنة مختلف نواحي الجمال من الفن الرمزي إلى الكلاسيكي والرومانسي وفن العمارة والرسم والنحت والموسيقى والشعر، وفيه يقول جورج لوكاش: (لولا هيغل لما كان علم الجمال على ما هو عليه اليوم).
الفن عند هيغل هو تجسيد الفكرة (المضمون الروحي) في المادة أو الشكل، وإنّ مقدار تطابق الفكرة مع الشكل هو الذي يحدد درجة سمو الفن، وقسم هيغل الفن إلى قسمين هما: الفن الكلاسيكي ويبلغ ذروته في النحت، والفن الرومانسي ويتجسد في الموسيقى والشعر.
يرى هيغل أنّ الجمال الفني أرقى من الجمال الطبيعي لأنه متولد من العقل وهو من نتاج الروح، وهو يعتبر أنّ كل ما يأتي من الروح أسمى مما هو موجود في الطبيعة، والجمال كما يوضح في كتابه (فكرة الجمال) هو الفكرة المتصورة كوحدة مباشرة بين المفهوم وواقعه، وذلك بقدر ما تتجلى هذه الوحدة في تظاهرها الواقعي والحسي.
يبدو أنّ علم الجمال (الأستطيقا) سيظلّ يعيد طرح أسئلته حول الجميل والقيم الجمالية، من أجل التوصل إلى فهم منطق الذوق الجمالي وكيف تنتج القيم الجمالية، وغيرها من أمور ستبقى على طاولة النقاش والجدل بين الفلاسفة لا سيما من الفلسفة المعاصرة التي بدأت تنحو إلى اعتبار الجمال والقيم الجمالية جزء لا يتجزأ من السياقات الثقافية، وليست متعالية على الواقع وتجربة الناس المعيشية.

ذو صلة