بعد أن حسمت أمر مشاركتي بكتابة مقال تحت هذا العنوان؛ شدني اشتياق وحب للمطالعة التي دقت ظروف الحرب إسفيناً بيني وبين مكتبتنا العامة العامرة بالأسفار، فتراءت لي بعض العناوين ككتاب (طبقات ود ضيف الله)، وكتاب (الأحاجي السودانية)، وكأني أتصفح كتاب (الأمثال السودانية)، وطاف بي الحنين على بادية كردفان ومجتمعاتها التي مازالت تتناقل الأمثال وتضربها في خطبها وتستشهد بها في مجالسها وتضخ فيها دماء الحياة الثقافية.
ونسبة لواقع حالنا بين نزوح نرجو ألا يطول وترقب للسلام المأمول؛ أجدني في هذا الزمان المحتشد بوسائطه التعليمية الحديثة المتطورة في كل يوم بما هو أحدث، أجدني أكثر تأملاً للعنوان عساي أملأ الكنانة بسهام تعينني على الرمي بالمقصود.
فإن الإنسان في حياته يمر بكثير من الأحداث والمواقف التي تترك رسمها كمشهد حياتي وتحدث أثراً وتأثيراً عميقاً في وجدانه، فتصنفها ذائقته في حيزها المعرفي بمعنى من معاني العبرة والحكمة والعظة، وهنا يطل الموروث بكامل أناقته من الأمثال المحفوظة ليدعم المقولة المنتجة ويحفز على الاستشهاد بها وبوعظتها وعبرتها الكامنة في محمولها المعنوي الراسخ مثل (عطر منشم) المشؤوم الذي أفنى الفرسان عندما تضمخوا به ودخلوا المعركة ولم يبق منهم أحد.
يقول زهير:
تداركتما عبساً وذبيان بعد ما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فقد استخدمه الشاعر الجاهلي زهير ابن أبي سلمى عطر منشم وضمنه في هذا البيت من قصيدته المعلقة الماتعة في ذلك العصر، فالمثل ببساطته كجملة عادة ما ينتج في مناسبة خاصة ثم يصير بعد ذلك متداولاً ينتقل من جيل إلى جيل فيتمثل به في المواقف الشبيهة لمناسبته التي أنتج فيها فتسير به الركبان باعتبار أن الأمثال أدب الأقوام قديماً ويجب معرفته وتغذية المعين اللغوي من فيض معناه الدال على الحكمة لأنه المرآة الواصفة لحال الأقوام ولأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم، والمثل هو الشاهد على حالة اللغة وسلاستها لديهم خاصة في دارجيتهم المحكية.
أما الفصيح من الأمثال فيتمتع بالحلاوة والطلاوة النثرية والحسن والجمال اللفظي.
والأمثال دائماً ما تستبطن الحكمة والعظة التي يستفيد منها الناس في دولاب حياتهم الدائر، فلا بد أن تكون للأمثال خصائص تميزها عن غيرها من الضروب الأدبية، وأهم هذه الميزات أن تصيب المعنى بإيجاز وحسن تشبيه ورشاقة مفردة تغري الكاتب أو المتحدث بالتضمين لمتن قصيدته أو مقالته أو خطابه كما ورد في بيت (حكيم العرب) زهير ابن أبي سلمى.
فعامة القوم في العهود القديمة كانوا مولعين بضرب الأمثال في أنسهم ومناظراتهم في القرى والأسواق حتى صارت الأمثال تعلن عن نفسها بكثرة التداول وأضحت سلوكاً له قاعدة تتجاور وثوابت الأدب من شعر ونثر لديهم.
لكننا في زماننا الحاضر نجد أن معظم الناس ربما تخلو مواعينهم عما كان يجب استصحابه من أدب الأمثال لعدم مواكبة المثل لواقع الحال وقلة التداول وعدم سعة الماعون المعرفي لدى المخاطبين من الجيل الآن، واختلاف البيئة له إسهام كبير في عدم يسر فهمها وعدم مطابقة المصطلح عليه من الألفاظ والجديد من مفردات خاصة بهذا الجيل.
مثلاً لئن قلت لأحدهم: (يداك أوكتا وفوك نفخ) لفغر فاه ونظر إليك باستغراب وعدك ممن هم خارج العصر، ولئن قلت بلهجة عامية سودانية: (ألمي حار ولا لعب قعونج) أو (التسوي كريت في القرض تلقاهو في جلدها) أو (مافي تورا بحلبوه لبن) أو (العرجاء لي مراحها) والأمثال كثيرة لكن هنا يحتاج لكي يفهمك متلقيها شرحاً تفصيلياً وافياً بالرغم من تشابه الظرف والموقف وتطابق الشبه والدعوة للتفكر، علماً بأن مراعاة النظير سمة من السمات التي يختص بها في مضرب المثل.
والأزمة لدى جيل اليوم أزمة معرفة لمعاني المفردات الموغلة في لغتنا المحلية، فمعظم الناشئة هم أبناء المدائن الحضرية ولم يتعرفوا على الريف ولم يعيشوا فيه ولم يمارسوا عادات وتقاليد البادية التي تعج بالأمثال في المجتمعات.
فجميل أن (المجلة العربية) الرائدة تفرد مساحة لهذا السؤال الكبير الذي بالإجابة عليه ستنعش كثير من الذواكر والوجدانيات ويأخذ التفكر رويته وسقياه وينفسح الفضاء للتأمل ليأخذ حيزه من الوجود المعرفي معلناً الحضور رغم أنف الغياب، فأي محور من المحاور التي اقترحتها (المجلة العربية) يمدنا بوافر العلوم ويملأ الكنانة بسهام التعبير قبل الرمي بمفردات الكتابة حوله ويحفزنا على طرق باب المعارف ليتأتى لنا المفاد بأدب أصيل وقاعدي في أبواب الآداب التي ورثنا محبتها وعددناها من الرواسخ في روافد المعرفة والثقافة التي نحتاجها وبشدة لنردم هوة الانقطاع بما أحدثته الميديا في زماننا بهواتفها ذات التعدد البرامجي الذي لهونا بتطبيقاته وزهونا بامتلاكه ولعبنا بألعابه وانشغلنا بتحديثاته الإيجابية التي جمعت وأفادت بثقافة واسعة لمن يهتم، وكذلك السالبة التي جرفت وجرت الجيل للهو لا نهاية له حتى أصبنا بالكسل الثقافي الذي أقعدنا وعانينا من الحول اللفظي في تراكيب جملنا المفيدة، واعترانا التبلد الإملائي، وهذا نلاحظه ويبدو جلياً في كتاباتنا على صفحات ومنشورات التواصل الاجتماعي.
وخلاصة الأمر والقول إنا تقهقرنا للوراء بعدما كان التقدم منشودنا الأسمى، وتراجعنا في تردد مخوف عن توظيف مادة الأمثال العربية الحبيبة في خطابنا ومنشوراتنا وقصائدنا، وتركنا الأمثال تعيش غربتها في أمهات كتبنا في شوق لمن ينفض عنها غبار الهجر والإهمال وهي تحن لقرائها ومتداوليها ولكنا لم نلتفت إليها ونُعِرْها ما تستحق من إصغاء حواسنا بنظرات الحنو والشغف، ولم نعد إنتاجها بالتضمين. أو لم يكن حري بنا أن نضيف إليها أمثالاً حديثة نتداولها في منابرنا، وحقيقة نحن الآن نعيش أزمة المنبر الثقافي الشامل في كثير من المدائن بالرغم من كثافة الندى والمنتدي في عدد مهول من البيئات العربية التي تشرئب بأعناق إبداعها الفارعة للتبدي والظهور، لكن هول لجة الغياب وأمواجه العاتية لم يزل يحول بينها وبين الحضور الفاره الذي نرجوه لمشهدينا الثقافي والأدبي.