ارتبط الإبداع الأدبي والفني في الكويت بالبحر من جوانب عدة، نتيجة لعلاقة الكويتيين المتينة به من خلال صراعهم وكفاحهم معه من أجل لقمة العيش أو الغوص بحثاً عن اللؤلؤ أو صيد الأسماك وارتباط البحارة بسفنهم وبالبحر.. ويكفي أن نشير إلى رواية ليلى عثمان، (وسمية تخرج من البحر) وعالية شعيب في قصصها (امرأة تتزوج البحر) أو الشاعر الكويتي محمد الفايز في ديوانه (مذكرات بحار) والدكتور سليمان الشطي في (الصوت الخافت).
عندما نتحدث عن الفن السابع في الدول العربية فإننا نتحدث عن سينما خاصة بكل بلد، فليست هناك صناعة سينمائية كما هو الحال في الدول التي لها تاريخ طويل في هذا المجال مثل أمريكا والهند، رغم أن بعض الدول العربية تعرفت على هذا الفن منذ نشأته، وباستثناء مصر التي راكمت تجربة طويلة من حيث الإنتاج والإخراج والتوزيع فإن باقي سينما الدول العربية هي أعمال محدودة ناتجة عن جهود فردية في الغالب، وإذا كان بإمكاننا إصدار أحكام قيمة على السينما المصرية لتجربتها الطويلة فإن الأمر يختلف مع باقي التجارب الأخرى في الدول العربية، وإذا كانت السينما المصرية في الكثير من نماذجها هيمنت عليها السمة التجارية والاستهلاكية ذات الطابع الغنائي والعاطفي والبعد عن المواضيع الجادة باستثناء أعمال قليلة، مثل: أعمال يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وداود عبدالسلام، وعاطف الطيب.. وغيرهم، فإن سينما الهامش في الدول العربية الأخرى والتي قادها شباب متحمسون درسوا السينما في الغرب وتأثروا بكبار المخرجين وبالتجارب السينمائية في روسيا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية التي اقتربت من الواقع وهموم الإنسان.. يتجلى ذلك واضحاً في أفلام مخرجي المغرب العربي، مثل: جيلالي فرحاتي وسهيل بن بركة في المغرب، والأخضر حامينا ومرزاق علواش في الجزائر، ورضا الباهي وعبداللطيف بن عمار في تونس.
الفن السينمائي الكويتي
لكن من أهم التجارب في مجال الفن السينمائي في الخليج العربي والتي تدخل في هذا الإطار نشير إلى السينما الكويتية. الفن السابع في الكويت هو حديث النشأة بالمقارنة مع نظيره في مصر مثلاً، فقد كان الاهتمام بالسينما في الكويت من خلال إنشاء قسم للسينما سنة 1950 بوزارة المعارف، لتشرف عليه بعد ذلك وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1959 ثم وزارة الإعلام سنة 1961، ويمكن اعتبار الخطوات الأولى في الكويت لبداية السينما مع شريط درامي قصير سنة 1965 بعنوان (العاصفة) لمحمد السنعوسي، وقد اشتركت به الكويت في المهرجان الدولي الذي أقيم بالإسكندرية وهو مهرجان التلفزيون العربي الرابع سنة 1965، لكن الملاحظ أن كل الإنتاجات السينمائية كانت أشرطة تسجيلية وإعلامية حاولت أن تغطي مختلف الحياة الاقتصادية والاجتماعية .
ويعود السبب في عدم ظهور السينما في هذه الفترة لعدة أسباب منها: غياب سينمائيين محترفين، وكذلك غياب الدعم المادي لإنتاج أشرطة سينمائية ذات بعد فكري تقدمي مميز. ويعبر أحد المخرجين الكويتيين عن ذلك بقوله: «لا يكفي وجود بعض الفنانين المتخصصين لخلق صناعة سينمائية، فالمسألة تحتاج لفترة من الاختبار لكي توجد لدى الممول قناعة بضرورة وجود سينما في الكويت». ورغم وجود عدة مخرجين سينمائيين كويتيين، أمثال: توفيق الأمير وعبدالمحسن الخلفان ومحمد الخراز ونجم عبدالكريم وهاشم محمد، فإن المخرج خالد الصديق يشكل حالة مميزة ونادرة، ويعتبر واحداً من أهم مخرجي سينما الهامش. ورغم الظروف التي واجهته استطاع أن يحقق تحفاً سينمائية رائعة خاصة بالمقارنة مع الفترة الزمنية التي أخرج فيها هذه الأعمال، ونقصد أولاً:
- بس يا بحر، وهو فيلم روائي طويل أنتجه وأخرجه سنة 1972.
- عرس الزين، كتب له السيناريو وموله وأخرجه سنة 1979، وهو مأخوذ عن رواية للطيب صالح الأديب السوداني المعروف.
فيلم (بس يا بحر)
ولد المخرج خالد الصديق في الكويت سنة 1945، ولعل الفترة التي قضاها في الهند (بومباي) لمتابعة دراسته مكنته من متابعة الأنشطة السينمائية ومشاهدة الأفلام، يقول عن هذه الفترة التي قضاها في الهند «كنت أهرب من المدرسة، وكنت أستغل كثيراً من الوقت لا لمشاهدة الأفلام فقط، بل لتعلم أمور فنية.. وحضور أستوديوهات الأفلام السينمائية.. وكنت أساعد الفنيين في أمور مختلفة دون مقابل.. ثم التحقت بمعهد سينمائي ببومباي..». لقد كانت هذه التجربة في مساره جد مهمة، كما منح درجة الزمالة من جامعة (سانت ماري) بسانت أنطونيو بتكساس، الولايات المتحدة الأمريكية، لإسهاماته في مجال السينما. عاد إلى الكويت ليشتغل في التلفزيون، ثم تنقل بين إنجلترا وأمريكا وإيطاليا لتعميق خبرته السينمائية. ساهم في إنتاج أعمال سينمائية أخرى، مثل: شريط شاهين، وشريط قلب الطاغية.
الشريط الروائي الأول (بس يا بحر) لخالد الصديق ومدته 115 دقيقة مأخوذ عن قصة للكاتب عبدالرحمن الصالح، بعنوان (الدانة) الذي شاركه في كتابة السيناريو، إلى جانب كل من ولاء صلاح الدين وسعد الفرج. صور الشريط بالأبيض والأسود وهو ما أضاف للفيلم شاعرية كبيرة، خصوصاً أنه يتناول فترة ما قبل اكتشاف النفط في الكويت. لعب بطولته كل من حياة الفهد، سعد الفرج، محمد المنصور، أحمد الصالح، محمد المنيع.. ومن الصعوبات التي واجهت المخرج أن هؤلاء لم يكونوا ممثلين محترفين بل موظفين حكوميين، والتصوير كان يتم خلال العطل الأسبوعية، وحسب ظروف الممثلين، حيث دام تصوير الشريط مدة خمسة أشهر. هذا الشريط الرائع لا يشكل فقط أول شريط روائي لخالد الصديق بل إنه البداية الحقيقية والمتوهجة للسينما في الكويت، ومن المؤسف أن هذه التجربة الرائدة لم تتبعها تجارب أخرى كثيرة تستفيد من هذا العمل المميز، وتجعل الكويت تراكم إنتاجات فنية سينمائية تنافس مثيلاتها في الدول العربية.
لقي هذا الفيلم ترحيباً وإشادة كبيرين عندما عرض أول مرة في القاهرة، كما حظي باستقبال حار في الكويت، وحضر عرضه الأول سمو أمير البلاد آنذاك ورئيس مجلس الوزراء. عالمياً لقي الشريط ترحيباً كبيراً في مختلف المحافل التي عرض فيها ولعل فوزه بالعديد من الجوائز دليل على قيمة هذا الشريط، فقد حصل على جوائز في مهرجانات: فينسيا وقرطاج وطهران ودمشق وشيكاغو.
لقد حاول خالد الصديق في هذا الشريط وحسب أحد حواراته أن يصحح النظرة الخارجية والتي ينظر بها البعض إلى الشعب الكويتي (أنه شعب ولد وفي فمه ملعقة من ذهب) حسب قوله.. العديد من الناس يجهل صراع الإنسان الكويتي مع الطبيعة من أجل العيش، صراعه مع البحر خاصة قبل ظهور النفط، إن الشريط تجسيد لتاريخ الكويت البحري. يُرجع خالد الصديق سبب نجاح هذا الشريط إلى أنه «منفذ بصدق وحماس مخلص وصادق وفي بيئة غريبة لم تعرض من قبل على العالم بهذا الشكل.. أحببت أن أقدم صراع الإنسان الكويتي الخليجي في كفاحه مع الطبيعة من أجل لقمة عيش، كفاح مرير ضد الطبيعة..».
خالد الصديق يجعل من البحر في شريطه كائناً حياً، يمنح الحياة كما يمنح الموت، فهو يجود على الإنسان الخليجي بالطعام واللؤلؤ والمال والجمال.. لكنه يتحول إلى وحش كاسر حين يصطاد أرواح الرجال والشباب وهم يغوصون بحثاً عن اللؤلؤ.. إن مشاهد الفيلم ولغته الشاعرية وطريقة التصوير ولغته الموحية والمكثفة والمشاهد البصرية للبحر البعيدة والقريبة وصور الغوص في الماء، جعلت منه شريطاً مميزاً، ووثيقة تاريخية مهمة عن الحياة والبيئة في الكويت قبل النفط، ولعل نهاية الشريط يمكن اعتبارها واحدة من أجمل النهايات ليس في تاريخ السينما العربية بل في السينما العالمية، حين تقوم الأم الثكلى مخضبة وجهها برمال البحر وهي تعيد اللؤلؤ الذي أخرجه ولدها من البحر إلى الماء مرة أخرى، لا تريده، إنه لا يساوي شيئاً أمام حياة ابنها وهي تقول للبحر «لماذا يا بحر حتى تأخذ ولدي وتعطيني هذه اللؤلؤة الزائفة، فلسنا نريد الاعتماد عليك، لا نريد صداقتك يا بحر أبعد عنّا شرورك». أما بداية الشريط لا تقل جمالاً ودلالة وشاعرية حين تنفتح الكاميرا على البحر وموجه الذي ينكسر على الرمل، والصيادون يرممون شباكهم، حين يقول أحد هؤلاء الصيادين لصديقه: «انظر إلى تلك الموجة، أراها تبتسم لي، لأني أعرف أسرارها وخباياها، وما وراء تلك الابتسامة..»، ويضيف: «البحر كريم للضعيف والصبور».
إن خالد الصديق يصور بشكل رائع معاناة البحارة مع البحر ومع أمواجه الغاضبة وطريقة الغوص بإغلاق الأنف وحبس الأنفاس والأخطار التي تتهدد هؤلاء من أجل انتزاع رغيف العيش من مخالب البحر.. هذا البحر الذي يصبح أحياناً كريماً وهادئاً وصديقاً للإنسان.. إن البحر يجمع كل خصائص الإنسان من مكر وخطر وصعوبة وهدوء وكرم.. وحين يلجأ البحارة إليه في حفل أقرب إلى ما هو أسطوري ويطلبون محبته واندحار شروره، وهم يغرقون قطة في مياهه.. كما نجح خالد الصديق أن يصور جانباً من الحياة الاجتماعية لأهل الكويت، كطقوس الزوج مثلاً، علاقة الأب بابنته والتي يرغمها على الزوج لكنها تقاوم، وعندما ترضخ لقرار الأب فإن علاقتها بزوجها تصبح قاسية، ثم علاقة أصحاب المراكب وشهوتهم للمال والربح مقابل ابتلاع البحر للعديد من الشبان.
البحر في هذا الشريط هو الفاعل الرئيسي للأحداث، ليس فقط الأحداث المرتبطة بالبحر بل حتى العلاقات الإنسانية داخل البيوت يكون البحر مؤثراً فيها. البحر يعكس رغبة في الانفتاح على الآخر والسعي نحو الآفاق البعيدة اللانهائية، وفي نفس الوقت يرتبط البحر بشقاء الإنسان ومعاناته وبؤسه اليومي. إن هذا الشريط هو واحد من أهم الأفلام التي جعلت من البحر تيمتها الأساسية، ليكون بذلك علامة فارقة ومضيئة. إنه بدون منازع مفخرة السينما الكويتية، بل السينما العربية، وإن كان من المؤسف أنه لم يأخذ حظه في التوزيع في هذه الفترة، وفي عدة دول عربية في ظل منافسة غير شريفة.