انتقل إلى رحمة الله تعالى الرائد والرمز عبدالكريم الجهيمان صباح يوم الجمعة 6 محرم 1433هـ الموافق 2 ديسمبر 2011م, بعد أن حمل مشعل التنوير والإصلاح طوال قرن.
عندما بلغ السادسة من عمره أدخلته والدته كُتّاب القرية ليتعلم القراءة والكتابة, واستمر في الكتّاب ما يقرب من سنة. وعند بلوغه الثامنة من عمره بدأ يرافق والده في سفراته, ويساعده في جمع الحطب والحشائش من الصحراء والذهاب بها للمدينة لبيعها, وكان يطلب من والده عند فراغهم من العمل أن يقص عليه (يسولف), ويحكي له قصص السابقين مثل كليب وقصة عليا وأبي زيد.. وغيرها من القصص المشوقة.
عام 1348هـ بعيد افتتاح المعهد العلمي السعودي التحق مع ابن عمه بالمعهد, وكان من زملائهما حمد الجاسر وعبدالله عبدالغني خياط وأحمد علي أسدالله.. وغيرهم. تخرج من المعهد عام 1351هـ, فبدأ حياته العملية بمرافقة الشيخ محمد الشاوي, وبعد سنة عاد إلى مكة لمزاولة التدريس, فعين مدرساً في مدرسة المعلى ثم المدرسة الفيصلية بالشبيكة.
بداية عام 1373هـ جاءت الموافقة على إصدار جريدة (الظهران), واستمرت في الصدور من 1-5-1374هـ وحتى 29-9-1376هـ. إذ أوقفت وهي تستعد لدخول عامها الثالث بسبب مقال نشر يطالب بتعليم البنات تحت عنوان (نصفنا الآخر).
عاد للرياض ليعمل في وزارة المعارف وليساهم مع صديقه حمد الجاسر في تحرير جريدة (اليمامة) ويكتب تحت عنوان: (أين الطريق؟)، مع مشاركته في إصدار مجلة (المعرفة) الصادرة من وزارة المعارف, ثم تولى الإشراف على جريدة (القصيم) عند صدورها منتصف عام 1379هـ, وكتابته المستمرة بها تحت عنوان: (آراء فرد من الشعب), وآخر في الصفحة الأخيرة بعنوان: (المعتدل والمايل). ثم يطلب الأمير طلال بن عبدالعزيز عندما تولى وزارة المالية والاقتصاد الوطني نقل خدماته, ويتولى إصدار مجلة (المالية والاقتصاد), إضافة لكتاباته في مجلة الشيخ عبدالله بن خميس (الجزيرة), وإشرافه على بعض مواد إعدادها.
بدأ في جمع الأمثال الشعبية في وقت مبكر, فأصدر في مطلع عام 1383هـ الأجزاء الثلاثة الأول مع شرحها. وأعلن أن من يأتيه بمثل لا يعرفه فله مئة ريال, وأعلن بعد طبع الأجزاء الثلاثة أن من يأتيه بعشرة أمثال فسيهديه الأجزاء المطبوعة, وهكذا استمر دون عناء أو كلل. فنجد عابد خزندار يقول في تقديمه لكتابي (سادة الأساطير والأمثال.. عبدالكريم الجهيمان) بمناسبة تكريمه بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة عام 1421هـ إنه قد جمعه بأبي سهيل مناسبة استمرت لسنتين, فكان يتعلم منه آداب اللغة العربية وشرح ما غمض من قصائد أو أمور أخرى.. والجهيمان يقول إنه تعلم منه اللغة الإنجليزية وشيئاً من اللغة الفرنسية. ويذكر الخزندار أن مطوع (فلبي) سعد بن حجرف جاء لزيارة قريب له فوجدهما معزولين بغرفة واحدة وكان له معرفة بالجهيمان، فقال: لا إله إلا الله.. السالم معزول, فمد له ريالاً مقابل تذكيره بهذا المثل, فرفضه, وبعد إلحاح قبله وشكره على اهتمامه بهذا اللون.
أصدر الجهيمان ديوان (خفقات قلب) عام 1422هـ, إذ كان يقرض الشعر في مقتبل حياته وأثناء وجوده في الحجاز قبل سبعين عاماً, وقد عرض لشعره عبدالله بن إدريس في كتابه (شعراء نجد المعاصرون). وضمن ترجمته لشيخنا الجهيمان قال: «من الشعراء الذين انتقلوا بالشعر النجدي من العهد الكلاسيكي الميت إلى الطور الرومانتيكي».
كما اهتم بالطفل وحاجته للعلم والمعرفة, فأسس دار أشبال العرب, وأصدر عشر مجموعات قصصية، وأخرى مثلها باسم: مكتبة الطفل في الجزيرة العربية. واهتمت وزارة التربية والتعليم بها, وأعادت طباعتها بمناسبة اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2005م، كما قامت وزارة الثقافة والإعلام بإعادة طبعها عام 2010م.
زهده ورفضه التكريم
رفض محاولات كثيرة لتكريمه والاحتفاء به, ومنها محاولة النادي الأدبي بالرياض وأندية أخرى إضافة لمحاولات متكررة من صاحب (الإثنينية) عبدالمقصود خوجة بجدة, والذي حاول إقناعه بأن يكون ضيفاً لإحدى مناسباته ولكنه رفض أو اعتذر بأسلوب التحجج بعدم قدرته.
وفي مطلع عام 1420هـ كان احتفال الرياض بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية, وكان المتحدث الرئيس باسم المثقفين الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام السابق، وكان الجهيمان يجلس في الصف الثاني, وبمجرد نزول اليماني من منصة الخطابة, اتجه إلى حيث يجلس, فسلم عليه دون غيره. فوجدته فرحاً مسروراً لمبادرة اليماني, ولأول مرة أراه مبتسماً بشوشاً بشكل غير مألوف, مما حملني على الكتابة بمقال نشر في جريدة الجزيرة أشكر فيه اليماني على موقفه وأقدر لفتته الحانية على هذا الرائد الذي كاد ينسى.
وبعد عودتنا للرياض اتصلت هاتفياً بالدكتور محمد عبده يماني, وكنت إلى جوار الجهيمان في مجلسه الأسبوعي المعتاد بمنزله، فتكلما مع بعضهما وشكره على موقفه, فأكد اليماني بما سبق أن طلبه عبدالمقصود خوجة لاستضافته في (الإثنينية) فخجل من تكرار هذه الدعوة فوافق مبدئياً وكنت الوسيط بينهما. وحدد الموعد في منتصف شهر المحرم 1421هـ. وهكذا كان. وقد اشترط أن يزور ثلاثة يعرف أنهم لايخرجون من منازلهم إلا نادراً, وهم: عبدالله عبدالجبار, وعبدالعزيز مشري, وغازي علي, وتمت زيارة اثنين منهم, أما المشري فقد كان نزيل المستشفى الذي توفي فيه.
لقد زهد الجهيمان كثيراً في حياته وكره المظاهر الكاذبة, وقد أطلعني مؤخراً الدكتور عبدالله الوشمي على خطابين موجهين منه إلى رئيس النادي الأدبي بالرياض بتاريخ 19/11/1405هـ يرفض فيه طلب النادي بترشيحه لجائزة الدولة التقديرية في الأدب, والآخر بتاريخ 22/3/1417هـ يعتذر عن الموافقة على دعوة النادي لإقامة ندوة تكريم له يشارك بها عدد من الأدباء منهم سعد الصويان ومحمد العوين وعبدالله بن إدريس.
ومع ذلك فقد كرم في آخر حياته من عدة جهات رسمية, نذكر منها:
مركز الأمير سلمان الاجتماعي بالرياض في حفل بعنوان (لمسة وفاء لأهل العطاء) بتاريخ 11/6/1419هـ.
عبدالمقصود خوجة بجدة في (الإثنينية) بتاريخ 19/1/1421هـ.
مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة بتاريخ 25/8/1421هـ.
المهرجان الوطني للتراث والثقافة السادس عشر المقام بالرياض عام1421هـ, وتقليده وسام الملك عبدالعزيز.
جمعية الثقافة والفنون بالدمام في 14/3/1422هـ.
نادي الوشم بشقراء بتاريخ 23/12/1422هـ.
منتدى صالح بو حنية الثقافي بالأحساء بتاريخ 17/10/1424هـ.
ملتقى الثلاثاء للدكتور محمد المشوح بالرياض بتاريخ 20/3/1427هـ.
المعرض الدولي للكتاب بالرياض عام 1427هـ مع رواد المؤلفين السعوديين على كتابه (حوار طريف بين ذي لحية ومحلوقها).
جامعة الملك سعود بالرياض – جمعية اللهجات والتراث الشعبي بتاريخ 28/11/1427هـ.
خميسية حمد الجاسر الثقافية بتاريخ 9/4/1428هـ.
المعرض الدولي للكتاب بالرياض عام 1429هـ.
مهرجان الطفل الأول بالرياض في 27/4/1429هـ.
أصدرت وزارة الثقافة والإعلام سلسلة من الكتب بعنوان: (الرواد للناشئة) وكان أحدها بعنوان (عبدالكريم الجهيمان الحكايات تتبع خطواته).
أوجه الخير وإسهاماته
يقول عنه فهد العريفي إنه قد افتتح مكتبة صغيرة بالرياض لبيع الصحف والمجلات والكتب, وكان يستوفي من رواد مكتبته قيمة مشترياتهم قرشاً قرشاً, ولكنه لا يجمعها في صناديق مغلقة, أو في صرر يدفنها في الدار للعمر الطويل؛ إنما ليتبرع بها عن آخرها لعمل خيري إنساني.
وقال عنه حمود البدر إنه عندما كان وكيلاً لجامعة الملك سعود كان يأتيه لتلمس حاجة الطلاب المعوزين, وإنه قد ترك لديه مبلغ مئتي ألف ريال للصرف منها على ذوي الحاجات من طلاب الجامعة حتى لا تكون حاجتهم سبباً في قطعهم للدراسة.
كما تبرع الجهيمان بنصف مليون ريال لمركز رعاية المسنين قبل أن يتحول اسمه إلى مركز الأمير سلمان الاجتماعي. كما تبرع بمليون وخمسمئة ألف ريال لإنشاء مجمع مدارس بالخرج.
علاقتي به
عرفته من عام 1403 هـ, وتعمقت علاقتنا ببعض من عام 1412هـ, وبدأنا نلتقي في منزله أحياناً وفي أماكن أخرى. وعند انتقال عملي لمكتبة الملك فهد الوطنية عام 1414هـ دعوته لتسجيل التاريخ الشفهي للمملكة مع الرواد فوافق بعد تمنع مما شجعه على استكمال ونشر مذكراته, ثم نشر مجموعته الشعرية القديمة. وبدأنا السفر مع بعضنا لعدد كبير من الدول العربية من المغرب إلى البحرين مروراً بسوريا ومصر ولبنان, ومرات عديدة لجدة والدمام والأحساء والقصيم والزلفي، فلم ألمس منه أي تصرف يسيء لرفيقه أو تبرم, بل ينفذ برنامجه اليومي المعتاد بمواعيد أكله ونومه وتمشيته.
أول زيارة أو سفرة رافقته فيها إلى سوريا صيف عام 1417هـ, فاشترط علي أن يزور قبر أبي العلاء المعري –رهين المحبسين-, ولمست مدى محبته له وتقديره, فكانت الزيارة في معرة النعمان, حيث المركز الثقافي, وقبره المتواضع, والمكتبة التي أهداها طه حسين للمركز عندما كان وزيراً للمعارف بمصر.
وكان لقاؤنا معه بمنزله كل يوم إثنين بين صلاتي المغرب والعشاء أسبوعياً مع مجموعة من أصدقائه ومحبيه, فكان يبادلهم الطرائف والأخبار وينشد عليهم ويقص لهم بعض القصص، وذلك من عام 1417هـ في منزله في حي الروابي, ثم في الملز, ثم العودة لمنزله السابق.. وهكذا حتى وفاته رحمه الله.
كان في العام قبل الماضي مواظباً على المشي قبيل الغروب خارج المنزل, والذهاب لمسبح رعاية الشباب بالمعذر صباحاً. أما في السنتين الأخيرتين فقد انقطع عن هذا البرنامج, بعد أن أحس بألم في ركبتيه, ثم انقطع في العام الماضي عن الخروج للصلاة بالمسجد, وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة أصبح لا يحضر لمجلسه أسبوعياً, فقد يمضي أسبوع أو اثنان دون أن نراه، خصوصاً أنه يحتاج إلى تغيير ملابسه وإنزاله من السرير إلى الكرسي المتحرك ليحضره أحد أبنائه للمجلس. وقبل عشرين يوماً أحس بألم (جفاف وإمساك) فاضطر أبناؤه إلى تنويمه بالمستشفى لعدة أيام. وعندما تحسنت صحته أعادوه إلى منزله, ولكنه -كما يروى- تعرض لعدوى بفيروس من المستشفى أثرت في رئتيه. وكان آخر لقاء لنا به مساء الإثنين 3 محرم, أي قبل وفاته رحمه الله بثلاثة أيام. إذ طلب بنفسه أن يأتي للسلام علينا, وكنت إلى جوار الأستاذين سعد البواردي وحمود الربيعة, وكأنه أتى ليودعنا.
وفي السنتين الأخيرتين لاحظت عليه ضعفاً في نظره وسمعه, فأصبح لا يشاركنا الحديث إلا إذا طلبنا منه رفع الصوت. ولكن سؤاله الأخير قبل شهرين من وفاته عن جامعة شقراء, وهل لسعد البواردي دور فيها, وأن الكتب الموجودة بالمستودع يجب أن توزع على جامعات المملكة. أما السؤال الذي يردده فهو: ما هو مصير هذا المجنون؟ ويقصد القذافي, وهل قضوا عليه؟.
رحم الله أبا سهيل فقد كان ذكياً مرحاً لماحاً خفيف الظل لم ألمس منه ما يزعج أو يغضب طوال رفقتي له. فكثيراً ما يبادر في التخفيف عن رفاقه في تسليتهم بالقصص والقصائد. وكان قنوعاً لا يشترط أكلاً معيناً أو لوناً معيناً فهو يأكل ببطء ويكتفي بالقليل, ويقول: إن حويصلتي كحويصلة العصفور, وكان يقول إنه نباتياً فهو لا يأكل اللحم الأحمر بل يكتفي بما تيسر من السمك والخضار المسلوق والكثير من الحليب والفواكه.