لم يكن وديع الصافي مجرد مطرب وملحن، بل كان مثالاً للفنان المثابر المجتهد الذي شغف بالنغم وراح يكرس كل حياته لأجل الكلمة البسيطة الصادقة واللحن المؤثر والأداء المعبر حتى تحول إلى أيقونة فنية فريدة. غنى للوطن والحب والطبيعة والجمال ولحظات العشق والوجد والحنين وحرقة الفؤاد، واحتفى في أغانيه بالتضحية والإخلاص وقيم التسامح وروح المودة، وكاد أن يختزل في أغانيه وطنه لبنان بكل ما فيه من جمال وأصالة وعشق جارف للحياة.
تربع الراحل على عرش الأغنية العربية واللبنانية لعقود، واستطاع أن يؤسس لمدرسة فنية في وجدان الجمهور العربي، تلك المدرسة التي سميت بـ(المدرسة الصافيّة)، ولئن سعى الكثير من الفنانين إلى تقليدها واقتفاء أثرها والسير على منوالها، بيد أن كل تلك المحاولات أخفقت ولم ترتقِ إلى طبيعة ومستوى فن وديع الصافي.
ولعل مثل هذه الصعوبة في مجاراة الصافي جاءت من خصوصية صوته الجهوري الصادح؛ صوت جمع بين الرقة والقوة، بين الرهافة والعنفوان، وكأنما نحت من صلابة الجبال، ومن صخب الموج، ومن خرير الجداول وحفيف الشجر حتى عرف بـ(صاحب الحنجرة الذهبية)، بل إن موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب لم يصدق أذنه حين سمع صوتاً نقياً صافياً، فتساءل بإعجاب ودهشة: هل يمكن لأحد أن يملك مثل هذا الصوت؟!
استطاع وديع الصافي أن يعزز هذا الصوت الرخيم بكلمات وقصائد مناسبة لعدد من الشعراء مثل أسعد السبعلي ومارون كرم وغيرهما، فضلاً عن تعلقه بمفردات الجمل والعبارات التي يزخر بها الفلكلور الشفاهي اللبناني، إذ أكثر الصافي من غناء العتابا.. الغزيّل.. أبو الزلف، كما غنى لعدد من الملحنين المعروفين كالأخوين رحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبدالوهاب، فريد الأطرش، رياض البندك، ولكنّه كان يفضّل أن يلحّن أغانيه بنفسه لأنّه كان الأدرى بصوته، ولأنّه كان يُدخل المواويل في أغانيه، حتّى أصبح مدرسة يُحتذى بها.
من الصعوبة بمكان اختزال تجربة فنية واسعة كتجربة الصافي في مقال، خصوصاً وأن الصافي عاصر حقباً ومحطات تاريخية مختلفة، وكان شاهداً على المسار الذي سلكته الأغنية العربية واللبنانية منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة. وهو، وخلال هذه العقود المضطربة فنياً وسياسياً واجتماعياً، حافظ على موقعه المتقدم، وقدم دروساً في معنى الفن الراقي الذي يهذب النفوس ويرتقي بالذائقة السمعية لدى الجمهور.
لا مبالغة في القول إن رحيل الصافي يمثل رحيلاً لـ(آخر عمالقة الغناء العربي)، وبدون شك فإن الفن الغنائي في العالم العربي قد فقد برحيله أحد أجمل وأنقى الأصوات التي أطربت في مناسبات لا تحصى، وهزت المشاعر وبثت الدفء في حنايا الروح . لكن المؤكد، كذلك، أن أغانيه ستبقى حية في الذاكرة، وخالدة في أفئدة كل من عشق الفن بأسمى وأنبل معانيه.