مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بوشكين والإسلام

يعتبر الشاعر الروسي إلكسندر بوشكين من أكثر الشعراء الروس شهرة في العالم. ولد الشاعر في مدينة موسكو عام 1799 م. وعلى الرغم من نشأته الأرستقراطية فقد أحس الشاعر مبكراً بمعاناة الشعب الروسي البسيط، والقهر والاضطهاد اللذين يتعرض لهما.
عكست كتابات بوشكين الشعرية والنثرية حياة الشعب ومعاناته، والبذخ الذي كان يتمتع به القياصرة والنبلاء في الوقت الذي لم يكن الشعب يجد لقمة العيش. ومن الذين أثروا على شخصية بوشكين أثناء طفولته وفي مرحلة الصبا والده الذي كان يحب الشعر ويمتلك ناصيته باللغة الفرنسية. بدأ بوشكين كتابة الشعر باللغة الفرنسية متأثراً بوالده، ولم يكن يتجاوز بعد الثامنة من العمر. هيأت أسرة بوشكين الأرستقراطية ظروفاً تعليمية مثالية لابنها. هذه الظروف جعلته يتعلم اللغة اليونانية وكذلك الإنجليزية. هناك شخصيات كثيرة تركت أثرها على حياة بوشكين إلا أن أهم هذه الشخصيات كانت جدته لأمه ماريا إبراهيم هانيبال. ويقال إن هانيبال كان طفلاً حبشياً تم اختطافه وبيعه في إسطنبول. وهناك شاهده السفير الروسي فاشتراه وأرسله إلى القيصر بطرس الأكبر. بدوره القيصر أعجب بشخصية الفتى هانيبال فأرسله ببعثة لدراسة العلوم البحرية وصناعة السفن في فرنسا. وعندما عاد إلى روسيا أصبح قائداً في الأسطول البحري الروسي وحقق انتصارات كثيرة، وصار يتدرج في الرتب العسكرية إلى أن أصبح أدميرالاً. منحه القيصر فيما بعد لقباً أرستقراطياً وأعطاه الأراضي. يقال إن هانيبال كان مسلماً في السر وكان يقرأ القرآن في بيته دون أن يراه أحد.
اعتاد القياصرة على نفي معارضيهم إلى أرجاء نائية في البلاد، وكان هذا المصير بانتظار بوشكين في عام 1820 حيث نُفي الشاعر إلى جنوب روسيا وبقي هناك 4 سنوات بسبب مواقفه المناوئة للسلطة المستبدة والنظام الطبقي الذي كان سارياً في البلاد. كانت سنوات النفي فرصة رائعة ليطلع الشاعر على ثقافة المسلمين وحضارتهم في القوقاز. شاهد الشاعر المسلمين وعاش بين جنباتهم وجالسهم ورآهم كيف يصلون وقرأ القرآن الكريم وأصغى إليه مرتلاً، وتعرف على سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أثّر كل ذلك عليه فكتب قصائد (أسير القوقاز) (رسلان ولودميلا) (قبسات من القرآن) (الرسول) (ليلى العربية) (محاكاة العربي). كانت كل هذه المؤلفات تشير إلى إعجاب الشاعر بالإسلام ونبي الإسلام، وتدل على احترامه الكبير للثقافة الإسلامية. اعتبر الشاعر بوشكين العرب والمسلمين أمة ذات تراث عريق وأخلاق نبيلة. يتناول الشاعر في قصيدة الرسول قصة نزول الوحي على النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد أرفقها بمجموعة من القصائد المشفرة دلالة على تحديه للكنيسة الأرثوذكسية المتشددة. يقول في هذه القصيدة عن ترجمة للدكتور شهاب غانم:
مهموماً بالظمأ الروحي
كنت أجر خطاي في برية غير ذات زرع
عندما ظهر لي في مفترق الطريق
ملاك ذو أجنحة ستة 
وبأصابع من نور، في مثل الحلم، 
لمس حدقتي عيني، 
فاتسعت الحدقتان النبويتان، 
كما لو كانتا لنسر مذعور
ويصور بوشكين النهوض بعبء الرسالة التي بُعث من أجلها الرسول والتي سيسري نورها عبر البحار والأراضي ليخترق لهيبها قلوب الناس:
وناداني صوت الله
انهض، يا رسول وأبصر..
لبّ إرادتي
وجب البحار والأراضي
وألهب بدعوتك قلوب الناس..
 وفي قصيدة ليلى العربية يقول:
تركتني ليلى
مساء أمس دون اكتراث
 : توقفي، إلى أين؟
فعارضتني: (لقد شاب شعر رأسك)
قلت: للمتهكمة المتعالية
(لكل أوانه!)
فالذي كان مسكاً حالكاً، 
صار الآن كافوراً
لكن ليلى سخرت
من الحديث الفاشل
وقالت: أنت تعلم
أن المسك حلو لحديثي الزواج
أما الكافور فيلزم النعوش
في قصيدة إسطنبول ينتقد الشاعر انسلاخها وبعدها عن الإسلام فيقول: 
تخلت إسطنبول عن الرسول
إذ حجب عنها الغرب الماكر
حقيقة الشرق الأزلية
وتركت إسطنبول الصلاة والسيف
في سعيها إلى التسلية والترفيه
ونسيت إسطنبول عرق القتال
وتعودت على شرب الخمور في أوقات الصلاة
أما القصائد التسع التي يجمعها عنوان (قبسات من القرآن) فتظهر تأثر بوشكين الكبير بالقرآن وبالتراث الروحي للمسلمين، وعلى قدرة القرآن على عبور آفاق الزمان والمكان والتغلغل في نفوس البشر من غير المسلمين.
فكان القرآن الكريم وحسب المصادر الروسية أول كتاب ديني يدهش خيال الشاعر بوشكين ويقوده إلى الدين، إلا أن بوشكين وخوفه من القيصر كان يجعله يخفي عن أصدقائه ذلك التأثر والانتقال من العلاقة غير الجادة بموضوعات الدين إلى العلاقة الجادة به، وما كان يحدث داخل روحه.
وهناك آراء ووجهات نظر كثيرة من الباحثين والنقاد الروس حول اهتمام بوشكين بالقرآن الكريم. لقد أثارت قصائد قبسات من القرآن ومحاكاة القرآن ضجة واسعة في الأوساط الأدبية آنذاك.
يستهل بوشكين قصيدته (قبسات من القرآن) باقتباس من سورة الضحى:
أقسم بالشفع وبالوتر، 
وأقسم بالسيف وبمعركة الحق، 
وأقسم بالنجم الصباح، 
وأقسم بصلاة العشاء، 
لا لم أودعك..
ثم يصور بوشكين خروج الرسول مهاجراً إلى المدينة، ويؤسس على معاني الآية (40) من سورة التوبة المقطع الثاني من القصيدة الأولى:
يا من في ظل السكينة
دسست رأسه حباً
وأخفيته من المطاردة الحادة
ألست أنا الذي رويتك في يوم قيظ
بحياة الصحارى؟
ألم أهب لسانك
سلطة جبارة على العقول؟
احمد إذن وازدرِ الخداع..
وتعكس القصيدة الثانية تأثر بوشكين بالآيات القرآنية التي تدعو إلى آداب الحجاب ونبذ التبرج، والتي تعلي من عفة زوجات الرسول ونزولهن عن الرغبة في التزين والحياة الدنيا مقابل البقاء مع الرسول، وبخاصة الآيات (32-33) من سورة الأحزاب.
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)..
وكذلك الآية (53) من سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ...).
إن بوشكين يؤسس على هذا المضمون صورته الشعرية في القصيدة على النحو التالي:
يا زوجات الرسول الطاهرات
إنكن تختلفن عن كل الزوجات
فحتى طيف الرذيلة مفزع
لكن في الظل العذب للسكينة
عشن في عفاف فقد علق بكن
حجاب الشابة العذراء
ونظرة الكفار الماكرة
لا تجعلنها تبصر وجوهكن
أما أنتم يا ضيوف محمد
وأنتم تتقاطرون على أمسياته
احذروا فبهرجة الدنيا تكدر رسولنا..
فهو لا يحب الثرثارين
وكلمات غير المتواضعين والفارغين..
شرفوا مأدبته في خشوع
وانحنوا في أدب
لزوجاته الشابات المحكومات..

ذو صلة