مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

ماذا لو قرأ البغدادي..!

تعاقبت الفتن على بلادنا وتجدد انبعاثها، فمن جهيمان إلى جماعات التكفير والإرهاب استطعنا الانتصار عليها، ولكن الحقيقة المرة أننا لم نقض على الأسباب المؤدية لظهورها، فها نحن اليوم نواجه أعتى فلول الإرهاب (داعش والنصرة)، وكي لا يكون مصير هذه المواجهة كمصير المواجهات السابقة، مجرد تقليم وتشذيب للفروع البارزة، ويبقى الأصل حياً راسخاً ينتظر ظرفاً ملائماً ليتبرعم فروعاً أقوى وأكثر عدداً، ينبغي استحضار هذه الفتن المتشابهة في فكرها وشعاراتها وغاياتها، ليس لأخذ العبرة من دروس التاريخ فقط، وإنما لدراستها دراسة منهجية متعمقة، تنصب على منظومة فكرها، وظروف نشأتها، والعوامل التي هيأت التربة لظهورها، وطبيعة القوى المحركة لها، خصوصاً أن هناك قواسم مشتركة بينها تكاد تكون واحدة. ذلك أمر مهم إذا أردنا الوصول لجواب شاف للسؤال التاريخي الملح والمفتوح كالجرح الغائر: لم كلما أخمدت فتنة، وتنفسنا الصعداء بأننا قضينا قضاء مبرماً على مشعلي تلك الفتنة تنفست فتنة أخرى، أقوى وأعنف؟ لم تنبعث هذه الفتن بعد القضاء على أتباعها؟ هل لأن الجرعة الحيوية المضادة غير كافية لحماية المجتمع من تفشي الوباء الخبيث مرة أخرى، أي أن الدواء مجرد مسكن آنٍ لألم الداء المزمن؟!
لذلك يجب أن نواجه أنفسنا بشجاعة ودون مواربة بالسؤال المشروع والملح: لماذا كلما خرجنا من موجة إرهاب نواجه موجة أخرى؟ لم هذا التعاقب في زمن قصير، على الرغم من الضربات الموجعة التي تقوم بها أجهزة الأمن لاستئصال شأفة الإرهاب؟ أظن أن تشخيص هذه الظاهرة لم يعد أمراً متعذراً، فالأجوبة شاخصة في كثير مما يكتبه أصحاب الرأي في صحفنا المحلية، وما يبث في وسائل إعلامنا، وحتى في إبداعنا الروائي، الذي أولى اهتماماً خاصاً بهذه الظاهرة، فقد أشار كثير منه بوضوح لمنابع الإرهاب ومصادر فكره، وتتبع نشأته وطرق تفشيه بين أفراد المجتمع. إن مطالعة متأنية لإبداع كتابنا ستعين المعنيين بمواجهة هذه الظاهرة في تشخيصها. إن الانتصار الحتمي يكمن في مواجهة الإرهاب بالفكر المستنير. إن عبوات الفكر الناسفة لا يبطل مفعولها إلا بفكر مضاد، كما تواجه حرائق الغابات بحرائق مواجهة مضادة لإخمادها، وهنا أستشهد بمقولة شيخ جزائري ممن اكتوت بلاده بهذه النار، لا يحضرني اسمه، وتحضرني عبارته البليغة: الرصاصة تقتل الإرهابي، لكن لا تقتل الإرهاب. وقبله أشار إلى هذا زعيم البلاشفة لينين في حربه ضد خصومه المناشفة: الفكر لا يجتث فيزيائياً. ونصحنا علي بيجوفيتش قائلاً: لا تقتلوا البعوض، وإنما جففوا المستنقعات. وقد حذر البشرية من قبلهم الشاعر الألماني الرومانسي هاينريش هاينه من خطر الأفكار: (إن الأفكار التي يطلقها أستاذ من مكتبه الهادئ قادرة على إبادة حضارة بأكملها).
ما بالكم لو قرأ أبو بكر البغدادي بعض كتب تولستوي، وماذا يحدث لو تربى على ثقافة المحبة والرحمة والسلام، وتعلم أن التغيير ممكن بالاعتماد على الكمال الخلقي، وعلى عدم مقاومة الشر بالقوة، ولم يشحن بالبغضاء والكراهية للآخر، لما أفتى بهدم دور العبادة، وبجز أعناق الأسرى، وما أمر بسبي الحرائر، وبيعهن في سوق النخاسة. ولو تفقه أبو بكر شيكاو زعيم بوكو حرام، بهذا الفكر الداعي للمقاومة السلمية والرحمة لما وقف أمام العدسات ضاحكاً، وهو يعلن على الملأ: أن الله قدر أمره أن يبيع الفتيات المستضعفات المختطفات من مدارسهن.
ذو صلة