مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

العقل.. مصنع الإبداع والطلاقة

على مر الأزمنة وجدت نظريات كثيرة، حول طريقة عمل عقل الإنسان، وما زال الكثير منها طور البحث والنظر، ولم يتحول إلى حقيقة علمية حتى الآن. ولكن المؤكد أن المناطق اليمنى من الدماغ هي التي تتحكم في تحريك الجزء الأيسر من الجسم، بجانب تحكمها في الوظائف المرتبطة بالحدس والانفعال والإبداع واستخدام الخيال والتأمل، كما يحتوي الجانب نفسه على القدرات التخطيطية والشعورية الحدسية والشمولية في النظرة والتعامل، وبذلك يتضح أن العقل يمثل مركز التفكير لدى الفرد، وهو مصنع يلتقط المواد الخام خلال قنوات اتصاله بالعالم الخارجي، ليقوم باختبارها وتحليلها وفرزها وتوزيعها على خلايا المخ التخزينية.
 
الإبداع إنتاج عقلي مفيد
يعرف الإبداع بأنه نظام إجرائي أو شرطي، وأنه إنتاج عقلي مفيد، يتسم بالأصالة ومقبول اجتماعياً، وأنه يحل مشكلة ما منطقياً، والمبدع يرى ما لا يراه الآخرون، والإبداع يعد في أساسه حالة عقلية بشرية تعمل لإيجاد أفكار أو طرق ووسائل غاية في الجدة والتفرد، بحيث تشكل إضافة حقيقية لمجموع النتاج البشري، كما تكون ذات فائدة حقيقية على أرض الواقع، في حالة ما إذا كان الموضوع يرتبط بموضوع تطبيقي، أو أن يشكل تعبيراً جديداً، وأسلوباً جديداً عن حالة ثقافية أو اجتماعية أو أدبية، إذا كان الموضوع فلسفياً نقدياً، أو أن يشكل تعبيراً ضمن تشكيل جديد وأسلوب جديد عن المشاعر الإنسانية، في حالة ما إذا كان الموضوع يتعلق بالنتاج الأدبي وأشكاله كافة.
 والإبداع هو الإتيان بجديد، أو إعادة تقديم القديم بصورة جديدة أو غريبة، والتعامل مع الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة، وهو القدرة على تكوين وإنشاء شيء جديد، أو دمج الآراء القديمة أو الجديدة في صورة أحدث، أو استعمال الخيال لتطوير وتكييف الآراء، حتى تشبع الحاجيات بطريقة جديدة، أو عمل شيء جديد ملموس أو غير ملموس بطريقة أو أخرى، وهو المبادرة التي يبديها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل التقليدي في التفكير إلى مخالفة كلية.
 
عن أنواع الطلاقة 
بالحديث عن أهم القدرات المكونة للتفكير الإبداعي، فقد حددت بالطلاقة، وهي القدرة على إنتاج أكبر عدد ممكن من الأفكار الإبداعية، وتقاس تلك القدرة بحساب عدد الأفكار التي يقدمها الفرد عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة مقارنة مع أداء الأقران، وهناك طلاقة تصويرية بأن يعطى الفرد رسماً على شكل دائرة، ثم يطلب منه إجراء إضافات بسيطة، بحيث يصل إلى أشكال متعددة وحقيقية، وهناك طلاقة الرموز أو طلاقة الكلمات، وهي قدرة الفرد على توليد كلمات تنتهي، أو تبدأ بحرف معين أو مقطع معين، أو تقديم كلمات على وزن معين، باعتبار الكلمات تكوينات أبجدية.
 وهناك طلاقة المعاني والأفكار، والمتمثلة في قدرة الفرد على إعطاء أكبر عدد ممكن من الأفكار المرتبطة بموقف معين ومدرك بالنسبة إليه، كأن نطلب من الفرد إعطاء إجابات صحيحة لأي سؤال أيا كان، وهناك طلاقة تعبيرية والمتمثلة في قدرة الفرد على سرعة صياغة أفكار صحيحة، أو إصدار أفكار متعددة في موقف محدد، ولكن بشرط أن تتصف تلك الأفكار بالثراء والتنوع والغزارة والندرة. وهناك طلاقة التداعي، والمتجسدة في قدرة الفرد على توليد عدد كبير من الألفاظ، على أن تتوافر فيها شروط معينة من حيث المعنى، ويحدد فيها الزمن في بعض الأحيان.
 
العقل الباطن والحدس
لقد أشار عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد) إلى عدد من العمليات النفسية التي تعتبر منشأ الإبداع، ومنها تلك الصراعات في العقل الباطن والتفريغ الانفعالي والتخيل وأحلام اليقظة ولعب الأطفال، وإعاقة القمع النفسي والانسجام بين العقل الباطن والأنا (الذات)، أما التحليل النفسي الحديث فيركز على ما قبل الشعور في الإبداع، وكذلك يلعب الحدس دوراً مهماً في الإبداع، وهو حكم عقلي أو استنتاج ليس مبنياً على التفكير المنطقي، وإنما بني على اللاشعور.
 وقد يتميز الإبداع في الفن باعتماده على (العقل الباطن)، أكثر من العلوم التي تعتمد على المنطق، وعند وضع قوانين حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالإبداع أراد المشرع التمييز بين أصحاب الإبداع والمؤدين له، وعلى سبيل المثال كاتب الأغنية والمغني لها، والمؤلف الموسيقي والقائم بالعزف على الآلة الموسيقية، ومن ثم اعتبر المبدعون هم أصحاب الحقوق الأصلية، كونهم أحدثوا الإبداع أساساً مثل كاتب الأغنية، واعتبروا المطرب من أصحاب الحقوق المجاورة في مسألة الإبداع من ناحية الأحقية، كما أن حقوق الملكية الفكرية لها طرق لتقييمها، وقد يكون من هذه الصعوبات كذلك التمسك بالمفهوم القديم للإبداع، الذي يرى أن قدرة إعداده تتمثل في الأعمال المبتكرة، التي يوجد خلاف في امتيازها وتفردها.
 ومثل هذه الأعمال نادرة الإنتاج إلى حد كبير، وأنها حين تظهر في شكل اختراعات واكتشافات تظهر بشكل عرضي لدى عدد محدود من الأفراد، وهو أمر تعد البيئة هي المسؤولة عنه وليس الأفراد، وعلى الرغم من ذلك، فإذا تساوت الظروف البيئية أمام كل الأفراد، فستظل هناك فروق كبيرة في الأداء الإبداعي بينهم، وهذه الفروق الفردية في الأداء الإبداعي بشكل أوضح، وهذا هو جوهر النظرة الحديثة للإبداع، التي تعتبره متصلاً، أو مقياساً متدرجاً يتدرج عليه الأفراد زيادة ونقصاً فيما يمتلكون من هذه القدرة، وليس قدرة متفردة توجد كلها، أو لا توجد كليا عند كل فرد من البشر.
 وقد أدت النظريات السابقة، لإعادة النظر في الفكرة السائدة عن بناء العقل. فعن منطقة القدرات المعرفية، فهي القدرات المختصة باكتشاف معلومات جديدة، أو بالتعرف على معلومات قديمة، وقد أرسى العلماء في هذا المجال دعائم عاملين، ألا وهما عاملا الإحساس بالمشكلات وإعادة التحديد، ويشير الإحساس بالمشكلات إلى قدرة الشخص على أن يرى موقفاً معيناً ينطوي على عدة مشكلات تحتاج إلى حل، وهذه هي البداية الضرورية لابتكار أي اختراع، وقد لاحظ أحد علماء النفس أنه في كثير من الأحيان ينحصر حل مشكلة ما في إثبات صياغة المشكلة نفسها، ثم حل المشكلة الجديدة.
 
اختبارات لقياس الطلاقة
اعتبرت القدرة على إثبات تنظيم الأفكار، وعادة ربطها بسهولة تبعاً لخطة معينة؛ قدرة جوهرية ضرورية لكل أنواع التفكير الإبداعي. بجانب (الطلاقة) وهي القدرة على إنتاج عدد كبير من الأفكار في وقت محدد، أو هي السهولة أو السرعة، التي يتم بها استدعاء تداعيات. وليس معنى أهمية الطلاقة للإبداع أن كل المبدعين يجب أن يعملوا تحت ضغط عامل الوقت أو الزمن، وأن ينتجوا بسرعة أو لا ينتجوا على الإطلاق؛ ولكن معنى ذلك هو أن الشخص القادر على إنتاج عدد كبير من الأفكار، في وحدة زمنية معينة، تكون لديه فرصة أكبر، بعد تثبيت كافة العوامل الأخرى لإيجاد أفكار ذات قيمة.
 علماً بأن الاختبارات التي اقترحت لقياس الطلاقة متعددة، كان أحدها على سبيل المثال يتطلب من الشخص أن يذكر أسماء أشياء كثيرة، بقدر ما يستطيع في وقت محدد، بحيث تكون لهذه الأشياء خصائص معينة. وفي حالة الطلاقة اللفظية، يطلب منه أن يذكر كلمات ذات خصائص معينة، كأن تبدأ أو تنتهي بحرف معين، أو تبدأ وتنتهي معاً بحرف معين، ويمكن أيضاً قياس الطلاقة من اختباري عناوين القصص والنتائج بأخذ المجموع الكلي لعدد الاستجابات، دون النظر إلى نوعيتها أو كيفها، كما يحدث في حالة الأصالة. 
 
ربط خبرات العقل
بات واضحاً أن التعايش اليومي للعقل مع هذا الكم الهائل من المعلومات، وبخاصة في العصر الحالي؛ يثير قواعده العقلية بمثيرات تهيئ له هندسة الإبداع العقلي بنفوذ أفكار جديدة، أكثر نضوجاً وأجدر أن ينال الكيان الإنساني منها النفع، ما دام أن العقل اعتنى بربط خبراته بقواعد ثابتة تماماً، مما يسمح له بالتعايش الأمثل بين دروبها كافة، لترشده إلى الاتجاهات التي عليه أن يتجه نحوها فيحدد نطاق عمل عقله، والعقل المبدع هو ثورة الأفكار العلمية المثبتة بقواعد علمية دقيقة وواعية، تندمج مع الخبرات العقلية. 
 فقد أثبتت الأبحاث الحديثة على العقل أننا لا نستخدم إلا نحو عشرة بالمئة من قدراتنا العقلية، وجاء وصف (آينشتاين) بأن أغلب أفكاره العلمية وأكثرها ابتكاراً، لم تكن ثمرة لأي توليف دقيق على وجه التحديد لتأملات شتى، فقد اعتاد أن يحوم حول أي سؤال ويقترب منه ما أمكنة ذلك بأفكاره، حتى يحيل الأمر كله لروح الإبداع في داخله، وقد يقتضى ذلك مدداً زمنية طويلة للغاية، قبل أن تنبثق إحدى الأفكار العظيمة، لأن الذكاء اللانهائي للذات العليا سوف يرسل إليه الحل عبر قناة الحدس.
 
 مكونات الإبداع الرئيسة
عن فروض عوامل التفكير الإبداعي، فهي تصنف تحت ثلاث فئات بحسب ترتيب حدوثها في عملية الإبداع، فأولها عوامل تشير لإنتاج منطقة القدرات المعرفية، وتشمل عامل الإحساس بالمشكلات، وعامل إعادة التحديد، ثم عوامل تشير لإنتاج منطقة القدرات الإنتاجية، وتشمل عوامل (الطلاقة والأصالة والمرونة)، وأن هذه الجوانب الثلاثة هي المكونات الرئيسة للإبداع ليس بالعلم والاختراع فقط، ولكن في الفنون كذلك. وآخرها عوامل تشير لإنتاج منطقة قدرات التقييم، وتشمل عامل التقييم الذي اتضحت أهميته. 
 وتعتبر القدرة على إنتاج أفكار جديدة أو طريفة، عنصراً أساسياً في التفكير الإبداعي، ويمكن قياس درجة الجدة أو الطرافة عن طريق كمية الاستجابات غير الشائعة أو غير المألوفة، والتي تعتبر مع ذلك استجابة مقبولة لأسئلة أو بنود الاختبار، كالميل للإدلاء بتداعيات لفظية نادرة في اختبار لتداعي الكلمات، أو إعطاء متشابهات بعيدة أيضاً في اختبار للمتشابهات، كذلك يمكن قياس الأصالة على أساس الاستجابات، التي تشير إلى ارتباطات أو تداعيات بعيدة أو غير مباشرة.
 
عن تركيز العقل المفكر
يؤكد الفيلسوف (أرسطو) أنه إذا استطاع الفرد أن يماثل بين منطقتين منفصلتين من الوجود، وأن يجد رابطة بينهما فهذا الشخص بالتأكيد يكون (موهوباً). وعلى حسب تعريف الشخص المفكر، فهو ذاك الشخص الذي يتمتع بنشاط فكري ويطور تذوقه للأدب والفن، وهو شخص استعمل فكره، ويقدر على إظهار قدرة عقلية عالية الدرجة فكرياً واستعمال الذكاء أكثر من مشاعره أو غرائزه، لانتصار العقلانية على الجزء الحيواني من عقل فرد يمرن عقله للوصول لقرار، والعقل المفكر يركز على ما يريد وليس على ما لا يريد، ولديه القابلية للتفكير بوضوح، وعمل تحليل جيد للوضع الذي يعيشه، وهو يختار أن يكون سعيداً، وأن يستعمل الغضب حين لا توجد عدالة.
 ولكن حين توجد نسبة عالية من التوتر وتتراكم، نصل إلى نقطة بأن يتم إغلاق العقل المفكر ويسيطر العقل البدائي، وتختلف درجة صعود العقل البدائي من شخص لآخر، وللعودة إلى العقل المفكر نحتاج إلى الانسحاب من العقل البدائي، ويتم ذلك بإدارة مستويات التوتر، فلا بد أن نتعلم كيف نهدأ وحين نهدأ نسترجع السيطرة ونعيد ترتيب أولوية الأشياء من حولنا، لنبدأ بإعادة تخطيط حياتنا كما نريد، وعن العلاقة بين العقل البدائي والعقل المفكر فيمكن وصفها كعلاقة الأب بالابن، والعقل المفكر هو الأب والبدائي هو الابن، فالطفل يعلم متى يلقي شيئاً ما على الأرض، للحصول على ما يتمناه.
 وذلك يترافق مع شعور الأب بأنه لا يسيطر على الوضع، ويعلم الطفل بذات الوقت بأن والده يقف عاجزاً أمامه، والعقل البدائي يعمل بنفس الطريقة، يقذف الأشياء ليحصل على ما يريد ليسيطر على الوضع، فكلما ضعفنا كلما سيطر العقل البدائي، ولكن الأب يستطيع استعادة السيطرة ويقول هذا (يكفي)، وكلما فرض العقل المفكر نفسه كلما أصبح هذا الجزء من الدماغ أقوى، بقدر ما يتم إدارة مستويات التوتر لدى الفرد، بقدر ما يكون لديه القدرة على إحداث التغييرات التي يريد بحياته، فالإبداع والخيال يوجدان في الجزء الأيمن من الدماغ، بينما المنطق وحل المشاكل يوجدان في الجزء الشمال من الدماغ، بينما الكتاب يحتاجون لكلا الجزأين معاً ليتمكنوا من نسج قصة، أو رواية جيدة بمختلف فصولها وكافة حبكاتها المثيرة للاهتمام.
ذو صلة