ظل الفن في التاريخ العربي الإسلامي صنعة، لارتباطه بتقنيات متوارثة يضفي عليها كل فنان ما توفره له مؤهلاته وخياله. وهكذا فإن الصنائع (التي تم التواضع على اعتبارها تقليدية في عصر النهضة)؛ كانت حرفاً متداولة لا تتمتع باستقلالها الخاص، لأنها كانت تندرج في فنون العمارة. فالنقش على الخشب والجص، والزخرفة بكل معالمها، بل حتى صناعة الأثاث والحلي والمجوهرات؛ كانت تعتبر حرفاً آلية (بالمعنى الذي يمنحه ابن خلدون لهذا المفهوم مقابلاً إياه بالعلوم النظرية)، أي استعمالية. ومهما برع فيها (الفنان) فإن ذلك يعود على الحرفة لا على الحرفي. والحرفي مهما برع فيها و(أبدع) لا يتجاوز وصفه بالحذق والمهارة.
لم يكن مفهوم الإبداع في هذه الثقافة متصلاً بالإنسان وإنما بالخالق. فالإبداع صفة إلهية بامتياز. ومن ثم كان لا بد لهذه الثقافة من أن تؤسسه في صلب المقدس. لذلك يمكن اعتبار أن حرفة الخط وصناعته كانت الأولى التي جَسُرت على تأسيس مفهوم الإبداع بشكل ضمني، لأن الحرف العربي ينتمي إلى لغة صارت مقدسة بفعل ارتباطها بالوحي وبالرسالة المحمدية، ولم تأت المنمنمات إلا لتوكيد هذه العلاقة بالكتاب والمكتوب. فهذان الفنان هما اللذان ساهما في ولادة الفنان باعتباره الفرد المبدع.
من الصنعة إلى الصناعة
لن أستطرد كثيراً في القول بأن العالم العربي مستورد للصناعات والمنتجات الصناعية في أغلبها الغالب، من الطائرات والقطارات والسيارات، إلى الهواتف والحواسيب، مروراً بالأدوات المنزلية. وبما أن هذا الطابع الاستهلاكي السلبي ينبني على آليات بدأت تتأسس في القرن التاسع عشر، ومن ثم يخضع لمحددات وقوانين دولية صارمة؛ فإن بعض (الصناعات) العربية ظلت تعتمد على الاستنساخ، أسوة ببعض الصناعات الصينية، وتوفيراً لمنتجات بخسة الثمن موجهة للسوق المحلية وللفئات محدودة الدخل. بيد أن هذا الواقع في جوهره يعتمد، فيما يعتمد، على (عشق الماركات) ومفهوم (اللوكس) و(التميز). فالمحاكاة الاجتماعية تفرض من خلال وسائل الإعلام ووسائل الاتصال على عولمة النموذج الاستهلاكي، اللباسي منه والتنقلي وغيره. وهو متخيل جماعي، نتج عن عولمة وتنميط الاستهلاك.
لكننا هنا في العالم العربي، حين ننبهر بتصميم السيارات، والهواتف الذكية، أو بتصميم قارورات العطر وغيرها؛ لا نتساءل عن الفنان المصمم، لأن اسمه لا يُدرج في المنتج الصناعي. الفنان المصمم لا يوقّع منتجه إلا في حالة استثنائية نسبية هي تصميم الأزياء. فكوكو شانيل على سبيل المثال بدأت مصممة أزياء لتخلق (ماركتها) اللباسية ثم في مجالات أخرى كالعطور. غير أنها إن كانت قد بدأت بتصميمها بنفسها لمجموعاتها اللباسية (الكوليكشنز)؛ فإنها حين كبرت صناعتها وتعولمت، لم تصمم منتجاتها لوحدها، وإنما صارت فقط مشرفة على مجموعاتها. بل إنها حين توفيت، استمرت (الماركة) بمصممين يجهلهم الجمهور.
هذا النموذج نسوقه للقول بأن الصناعة «الفنية» إذا هي أعلت من قيمة الفنان؛ فهي تلتهم الفنانين (في هذا المضمار بالضبط)، حتى يخلقوا (ماركتهم) فيتأبّد أسلوبهم.
الفنان المصمم (الديزاينر)، إذا عمل لحسابه الخاص، في فبريكة (معمل صغير)، وخلق اسمه الفني و(ماركته) يحقق الذات الفنية المبدعة، رابطاً إياها بالإنتاج الصناعي. لكن ما إن يكبر هذا الإنتاج الصناعي حتى يلتهم الفنانين الذين يشتغلون تحت مظلته. وفي العالم العربي مثلاً، ثمة مصممو أزياء يشتغلون لحسابهم الخاص معلنين عن (ماركتهم) في مجال الأزياء بالأخص، باعتبار أنه المجال الأقل كلفة من ناحية البنيات التحتية ومن ناحية التسويق والإعلام.
ولعل أحد أفضل الأمثلة على ذلك، تجربة مصممة الأزياء المغربية، فضيلة الچادي، التي خلقت (ماركتها) الخاصة باسمها في مجال الأزياء، بعد أن تتلمذت على مصمم الأزياء الفرنسي الشهير إيف سان لوران. بل إنها عمدت إلى صنع وتسويق حقائب يدوية باعتماد أعمال فنانين شباب مغاربة.
الفن خارج اللوحة.. التجربة المحجوزة
لم يخرج الفن العربي من مجال المحترف أو المتحف إلا مرات قليلة. ولقد كان الفن الغرافي أول هذه الفنون؛ لأنه دخل منذ وقت بعيد في صناعة ملصقات الأفلام العربية، ثم بشكل مواز في صناعة أغلفة الكتاب العربي. وإذا كانت هذه الممارسة في البداية تعتمد على فنانين مغمورين؛ فإنها صارت منذ الستينات، تعتمد على تدخل فنانين معروفين، كإسماعيل الأرناؤوط وجورج بهجوري والتومي وعبدالله الحريري.. وغيرهم.
المرة الثانية، منذ عقود، حين اعتمدت الدول القومية الفتية على فنانين كبار من قبيل النحات محمود مختار وجواد سليم.. وغيرهما؛ في تأثيث فضاء المدن العربية المفعمة بالأمل الثوري القومي بأعمال نحتية هائلة تصنع بها مجدها. بيد أن هذا التقليد لم يتعمق للأسف، ولم يشمل مجمل البلدان العربية؛ إذ ظلت سلطاتها تخشى الفن وتبعده إبعاد البعير المعبَّد، على حدّ تعبير طرفة بن العبد. ولعل الاستثناء الباهر يتمثل في تزيين كورنيش جدة (بمبادرة من عمدتها) بأعمال نحتية معاصرة لفنانين عرب وأجانب كبار. والمرة الثالثة حين بدأت السلطات وشركات الطيران في بعض البلدان العربية تستدعي الفنانين لتجميل بعض المطارات بجداريات فنية (مطار جدة مثلاً) أو تنظم المسابقات لتجميل بعض المعابر في بعض المدن (مسابقة تجميل مكة). والمدن العربية المعروفة بمهرجاناتها وجدارياتها قليلة، لا تتجاوز أصابع اليد كمدينة أصيلة بالمغرب والمحرس بتونس. أما المرة الرابعة، فهي حين قررت بعض شركات الطيران تزيين طائراتها بأعمال فنانين عرب وأجانب لخلق الحدث التجاري.
من ثم يبدو أن الفن العربي لم يتطور في الوعي العربي لدرجة تمكنه من أن يصبح مكوناً أساساً في الممارسة الاجتماعية. وإذا كان الفن الغرافي قد حظي بوجود كبير في هذه العلاقة الجنينية؛ فلأنه فن تصميم إبداعي لم تمنح له الفرصة الكافية لكي يتطور ويغدو جزءاً لا يتجزأ في العمل الإنتاجي والمحيط الاجتماعي والاقتصادي.
لا يوجد في العالم العربي، إلا بشكل هامشي، ما يمكن أن نسميه فن التصميم الصناعي (الدّيزاين). ليس فقط لعدم وجود صناعات (ولو خفيفة) تشركه في بلورة منتجاتها؛ ولكن لأن أغلب هذه الصناعات موجهة للاستهلاك العمومي، ومنقولة حرفياً عن الصناعات الغربية. فالصناعات الغذائية مثلاً، لا تبتكر أشكالاً جديدة لعلب التصبير، الزجاجية منها والقصديرية والبلاستيكية، وإنما تحاكي ما ينتج في الخارج. والإشهار في الغالب يعتمد على تصميمات غرافيّة غير مبتكرة يقوم بها رسامون أو مصورون عاديون، هذا إن لم تصنع بشكل آلي في الكمبيوتر.
هذا المسح التاريخي المختصر يجعل صيرورة الفن صناعياً في البلاد العربية مرتبطاً بأمرين: تشجيع الابتكار الصناعي، وهو أمر مرتبط بالذكاء التقني والعلمي، كما بالبحث في مجالات لا علاقة مباشرة لها بالفن، والاستعانة بالتصميم الفني كي يمنح لهذه الابتكارات صورتها الخارجية القابلة للتسويق. فالمصمم يمنح للآليات التي يصنعها المهندس جسدها وشكلها الخارجي، ومن ثم تنبع حياتها وحيويتها. وفي غياب هذا الأمر، يسعى بعض المصممين الفنيين العرب إلى العودة للموروث المحلي لابتكار أزياء جديدة (القفطان المغربي مثلاً)، أو الأدوات المنزلية والأثاث. وهي ممارسة حرفية تظل محصورة في نماذج محدودة، ولم تستطع بعد أن تدخل مجال الصناعة الواسعة. من ثم يظل السؤال مطروحاً: هل سينتظر الفن طويلاً تطور المجال الصناعي العربي كي نتحدث عن فنون صناعية؟