يشهد العالم متغيرات كبرى في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة التي جعلت من العالم قرية قابلة للتغيير في أية لحظة.
هذا التغيير إيجابي بالضرورة إلا أنه لا يتجاوز في طياته سلبيات مثيرة للجدل ولكنها تظل ضئيلة أمام ما تشهده البشرية من متراكمات متفاوتة التداعيات والخطورة.
ما كان بالأمس خيالاً أصبح اليوم حقيقة تفوق أحياناً الهوس، وما كان يعد مبالغة وضرباً من ضروب التهيؤات أصبح واقعاً ملموساً، ودلائل ذلك كثيرة ومتعددة.
من استنساخ النعجة (دولي)، مروراً بعملية زرع الوجه، وصولاً إلى زراعة رأس بشري بأكمله، وصنع (الروبو) المشابه للإنسان الذي يتجول في الشوارع ويقدم الخدمات ويتحكم بملامحه فيبتسم لك أو يغضب منك أو يثير انتباهك بعيون حزينة تستجدي شفقتك، عيون حزينة ولكنها بلا مشاعر وإن أقنعتك بذلك.
هذه الاختراعات على ضخامتها وقدرتها على الإبهار تظل غيضاً من فيض في مجالها والتي ما كانت مخيلة الإنسان قادرة في أقصى تجنيحها على تصورها، ولكنها حصلت لتخطو بالإنسان خطوات عملاقة باتجاه ما كان يكنى منذ عقود قليلة بالمستحيل، أو لا يتجاوز في أقصى الحالات فكرة من أفكار المخرجين في سينما الخيال العلمي.
اليوم وبفضل التقدم العلمي والطبي تم العثور على الأمصال لأكثر الأمراض عدوى وفتكاً في تاريخ البشرية، وتم بفضلها إنقاذ حياة الملايين والوقوف أمام إبادة أجيال وشعوب بأكملها من داء الكوليرا والجذام والسيفيليس ومرض فقدان المناعة أو (الإيدز) الذي كان إلى حد سنين خلت اسماً لداء يثير الرعب في قلب البشرية النابض، ولكنه أصبح اليوم وبفضل جهود الباحثين والعلماء يكنى بالمرض المزمن الذي يمكن للإنسان أن يتعايش معه بالعلاج. حتى أن ما تمرره لنا بعض القنوات التلفزية حول انتقال العدوى لعائلة بأكملها بسبب حقنة فاسدة أو عبر الدم عن طريق الحمل أصبح أمراً مقبولاً اجتماعياً ولم يعد بالأمر الذي تقشعر له الأبدان خوفاً وجللاً.
الطفرة النوعية التي شهدها مجال الأبحاث الطبية والإنجازات في هذا المجال تظل الأكثر رواجاً وانتظاراً من قبل المجتمعات التي ترنو إلى التقدم وتنظر إلى المستقبل بعيون متفائلة، إلا أن أبحاثاً أخرى غيرت أو تكاد مجرى التاريخ، وإن لم تلقَ الرواج المرجو مقارنة بالنجاحات الطبية؛ فإنها تظل أبحاثاً كبرى لا شك في قيمتها العلمية، والدليل تتويجها موسمياً بمختلف جوائز نوبل للسلام في مجال الأبحاث التي تفيد الإنسان في كل زمان ومكان وتيسر حياته.
ما كان بالأمس حلماً أصبح حقيقة وواقعاً ملموساً، ودليل ذلك ارتفاع معدل الحياة بفضل القضاء على عديد الأمراض وتبسيط الحياة من خلال التكنولوجيات الحديثة والرفاهة التي أصبح يحتكم إليها الإنسان بوصفه فاعلاً في العصر الحديث، عصر التقنية والتكنولوجيا التي غزت جميع مناحي الحياة، سواء أكان ذلك في الجانب التواصلي أم التربوي أو العملي وغيره.
المستقبل الذي كان ينظر إليه قديماً من ثقب إبرة أصبح بالإمكان اليوم رؤيته انطلاقاً من التوقعات واستناداً إلى الاستشراف؛ لأن الإنسان لم يعد مجرد عنصر سلبي في مفهوم الزمن بل أصبح فاعلاً أساسياً فيه ومحدداً لأبرز ملامحه.
لا نتصور أن المنتمي لهذا العصر الذي أصبح بالإمكان خلاله توقع وجود أجوار من الروبوات قبالة البيت الذي نسكنه؛ قد أصبح قادراً على الدهشة أو عنصراً ضعيفاً في حلقة الزمن إلا فيما يتعلق بسؤال الحياة والموت وهاجس اختراق سيرورة الزمن والذي يمكن أن يخلق انقلاباً حقيقياً لكل المفاهيم والنظريات المتداولة والمتعارف عليها.
لن يكون (التاكسي الطائر) أو (الطائرة بدون طيار) أو (الرجل الآلي الخدوم) حدثاً كبيراً بالنسبة لأجيال متعاقبة عايشت اختراعات رائدة، ولكن ما سيكون بالتأكيد حدثاً إنسانياً متناهي التأثير هو التحكم في الزمن والسيطرة عليه.
اختراع مماثل قد يدهش البشرية ولكن هل سيسعدها؟
سؤال حارق تصعب الإجابة عنه لأن العلم وعلى قدر بحوره وشساعة مجالاته يظل غير قادر على تحقيق الكمال للإنسان أينما كان.
صحيح أن الطب قد تطور بشكل خرافي ولكنه ظل عاجزاً عن فك (شفرة الموت)، صحيح أن ميزانيات لامتناهية قد خصصت للأبحاث الطبية ولكنها ظلت إلى اليوم عاجزة عن القضاء على أمراض نادرة لم ينجح اليوم الأطباء في تشخيصها، وإن تم تشخيصها فإن علاجها يظل صعباً أو مستحيلاً.
مرض التوحد أو السرطان الذي يقتل كل عام ملايين المرضى في العالم ولا ينجو منه سوى المحظوظين؛ من الأمراض التي هزمت الأطباء وما زالت، لتمثل بذلك عدوهم الأكبر، كذا مرض (الزهايمر) الذي كان يعتقد الكثيرون أنه مرتبط بالشيخوخة، لا يصيب فقط المتقدمين في السن بل يطال شرائح عمرية أخرى، ورغم ذلك فلا زال العلم عاجزاً عن علاجه.
صحيح أن العلم قد حقق طفرة كبرى حتى أن الأطباء أصبحوا قادرين على منح العجائز مظهر الشباب، وإحياء غرائز الشيوخ بفضل جراحات التجميل وأدوية الفحولة؛ ولكنهم يظلون رغم ذلك عاجزين عن منحهم عقولاً سليمة قادرة على تذكر من يكونون فعلاً.
المستقبل قد يكون لغزاً كبيراً بنظر البعض، وقد يشكل مجرد تسلسل لما يحدث اليوم؛ ولكن إمكانية دراسة المستقبل تظل واردة، ولهذا كان علم (المستقبليات) الذي يعتمد في إشارات فصيحة الدلالات على قناعة مفادها أنه قابل للتشكيل وأن الإنسان فاعل فيه بدرجة كبرى.
لا جدال فيما يحققه الباحثون في المؤسسات العلمية العالمية المشرفة على البحوث والاختراعات من إيجابيات لفائدة الإنسان عموماً؛ ولكن الإشكال المطروح هل البلدان المالكة لهذه الشركات والمصدرة لاختراعاتها تقتصر فقط على تصدير منتوجات شركاتها أم أنها تصدر للشعوب المستهلكة قيمها وتفاصيل مجتمعاتها وتفرض عليها نمطاً حياتياً موحداً مستمداً من قيم العولمة أيضاً؟
الأكيد أن هذه الشركات وعلى نبل دورها في رعاية الإنسان وتيسير أموره الحياتية لها حساباتها الخاصة وانتماءاتها التي تدين فيها غالباً لمن يملك رأس المال لتمويل بحوثها.
أما إشكالية وضع المجتمعات العربية المهددة بفقد خصوصياتها مقابل انصهارها في السيرورة الكونية واستهلاكها لما تنتجه المجتمعات الغربية بإيجابياته وسلبياته؛ فتمثل إشكالية قائمة، ويتولد عنها بالضرورة نسخ مجتمعات تكاد تكون طبق الأصل لما يراد لها أن تكون عليه، ومن هنا يأتي الاستعمار الجديد الذي لا يمكن مقاومته إلا من خلال الاكتفاء الذاتي على المستوى العلمي الأمر الذي يبدو صعباً في ظل هجرة الأدمغة واستقطابها من قبل الشركات الأجنبية التي تظل لها جوانبها المظلمة.
بقي أن نشير إلى أن الاختراعات وعلى نبل أهدافها وقدرتها على تيسير حياة الإنسان وخدمته؛ لها سلبياتها، ويكفي أن نذكر أن نوبل قد اخترع الديناميت ليساعد عمال المناجم إلا أنه لم يكن يعرف أن اختراعه الإنساني النبيل سيتم استعماله في قتل وسفك دماء الأبرياء في الحروب.
التكنولوجيات الحديثة التي يسرت الاتصال بين الناس والشعوب قطعت التواصل بين أفراد العائلة الواحدة، وعمقت الشعور بالاغتراب. والروبوات التي تم اختراعها لمساعدة الناس ستنافس بالتأكيد الإنسان البسيط الذي يسعى لتوفير مصدر رزقه وستساهم في تعميق ظاهرة البطالة.
العلم، سلاح ضد الفقر والجهل والتجهيل والمرض؛ ولكنه سلاح ذو حدين أيضاً يبني بقدر ما يهدم.
فهل نتفاءل بالمستقبل أم نكتم مخاوفنا؟
في انتظار ما ستسفر عنه الاكتشافات القادمة!