مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

إشراقات النغم العربي الأصيل

الموسيقى هي اللغة التي يشترك في مفهومها والإحساس بها الناس جميعاً كما عرفها علماؤها وهي فن التأليف بين الأصوات بتجانس يجعل الأذن البشرية تتقبلها وتستحسنها. ولما كانت الألحان أحد أضلاع المنتوج الإبداعي الغنائي الذي يتكون من (الكلمات والألحان والغناء) وحديثنا هنا عن أحد هذه المكونات الإبداعية وهو اللحن، واللحن هو الرابط الموسيقي الأهم الذي يجمع ما بين الكلمات والغناء وهو الوسيط والمفسر للنظم الشعري وهو مترجم إحساس الشعراء في وعاء إبداعي يسهل هضمه وتذوقه.
واستنطاقاً لتاريخ المدارس اللحنية العربية نجد أن هناك عدة مدارس في المنظومة اللحنية، فالأغنية العربية زاخرة بموروث إبداعي فائق الجمال يتميز بالرقة والعذوبة الطربية بدءاً من العصر الجاهلي، فكان أشهر رجالات هذا العصر ضارب العود ابن عمار والذي تحدثت بعض الكتابات أنه أحد الذين شهدوا بدراً بعد إسلامه. وتعاقبت بعد ذلك العصور كالعصر الأموي والعصر العباسي فاشتهر ابن سريج، ومنصور زلزل، والموصلي ودندن ولمع زرياب في بلاد الأندلس. وتؤكد بعض دراسات المؤرخين أن آلة الربابة التي أخذها العرب إلى بلاد الأندلس كانت هي النقطة التي انطلق منها أهل الغرب لتطويرها من الربابة إلى آلة الكمان التي نراها الآن.
تطورت مسيرة الألحان العربية وتفوقت فظهرت مدارس تحمل لواء التجديد والانفتاح نحو قوالب لحنية أكثر تطوراً رغم بدائية أشكال المصاحبة الموسيقية لقلة الموسيقيين وبساطة دراستهم للموسيقى وطبيعة العلوم الموسيقية في ذلك الوقت وفطرة قدراتهم في العزف إلا أنك تحس أن هناك شكلاً جديداً حتى في نوع المفردة الغنائية، فظهر سيد درويش وسلامة حجازي والشيخ زكريا أحمد من مصر، وحسن عريبي من ليبيا، وهو أحد الذين أضافوا للموروث الأندلسي بعداً جمالياً غاية في الروعة.
ولم تمض سنوات حتى ظهرت المدرسة اللحنية الأكثر حداثة في فكرة التكوين والمنطلق نحو نهضة ثقافية لحنية غنائية في العالم العربي. فكان الملحن المصري محمد القصبجي الذي التقى بكوكب الشرق أم كلثوم في عدة أعمال لحنية أظهرت براعة القصبجي وذهنه المتقد في استحداث أشكال اللزمات الموسيقية بحرفية وبراعة وذكاء وكانت أنغام القصبجي نقطة لظهور عدد من الملحنين أبدعوا فأقنعوا، ورسموا وكتبوا أسماءهم بأحرف من نور في لوحة التاريخ الإبداعي فكان على سبيل المثال لا الحصر محمد عبدالوهاب صاحب الألحان المتفردة ورياض السنباطي صاحب السهل الممتنع والموجي وكمال الطويل، وبليغ ساحر الأنغام في مصر، وعاصي ومنصور الرحباني في لبنان، وسهيل عرفة في سوريا، وناظم نعيم وعباس جميل في العراق، وبرعي محمد دفع الله وسيد خليفة من السودان، ومحمد الجموسي من تونس، وصالح الشهري وسامي إحسان وطلال مداح من السعودية، وإبراهيم الصولة في الكويت. واليمني محمد مرشد، ونظراؤهم من بقية الملحنين في البلدان العربية، استطاع هؤلاء نقل الألحان العربية إلى أشكال أكثر حداثة وتميزاً بالتنوع الإيقاعي والتنقل ما بين المقامات الموسيقية العربية. وسار على الدرب كثير من الملحنين واقتفوا أثر من سبقوهم وغردوا في سربهم فهم امتداد حقيقي للحفاظ على هوية الأغنية العربية. فكان المنتوج الإبداعي الغنائي الذي استطاع جذب مسامع العديد من المجتمعات العربية وساعد في نشر ثقافات عدة جعلت من الألحان حلقة وصل ما بين الشعوب العربية على اختلاف سحناتها وألوانها الإبداعية. وإن اختلفت وصعُبت بعض اللهجات والمفردات كان اللحن هو القاسم المشترك والملاذ الأكثر شجناً لفهم ماهية الأغنيات ورفع ترمومتر الثقافة السمعية لدى الكثيرين، وداعم للجانب الخيّر في النفس البشرية وقد أفرد الإمام أبو حامد الغزالي حيزاً للحديث عن ارتباط اللحن بالخير وأورد قائلاً «إن في القلب فضيلة شريفة لم يخرجها القلب فأخرجتها النفس بالألحان». فكانت الألحان هي الزاد والعماد في تغيير الكثير من المفاهيم لدى المجتمعات العربية. وظهرت أغنيات المناسبات الوطنية تحفز الهمم وتفجر الطاقات وأغنيات الحصاد والصيد والأعراس مما حدا بالباحثين والمؤرخين للغوص في أشكال الموسيقى العربية والبحث والتنقيب عن كوامن الإبداع فيها لدراسة الأنواع الثقافية لدى الإنسان العربي والاستفادة منها في بحوث الأنثروبولوجيا (anthropology) كنتاج طبيعي لما أوجدته الألحان العربية من إرث ثقافي خالد فى المجتمعات العربية.
وبمرور السنين والأزمان ظهرت تحورات في الطفرة الجينية للألحان العربية التي كان البعد الجمالي والعمق النغمي من سماتها إلى أشكال موسيقية جديدة أثرت على جودتها وإرثها النغمي الأصيل، ولم تستطع المحاولات المستميتة من كبار الموسيقيين والملحنين إيقافها لمدها العالي، ولتعدد المواعين السمعية عبر وسائل التواصل الحديثة، ولعل المتتبع للأشكال اللحنية الآن يجد أن الانفتاح السمعي قد أثر على ثقافة كثير من أبناء هذا الجيل فظهرت بعض الأغنيات التي لا ترقى لمستوى الذوق العام بمفردات مستهلكة تتسم بالضعف اللحني وقصر المدة الزمنية فتغير طابع الألحان العربية الأصيلة واختفت أشكال المقدمات الموسيقية والأنماط اللحنية الزاخرة بالمقامات والإيقاعات بفعل عوامل التعرية المستحدثة والمستجلبة بتأثر البعض بالموسيقى الغربية فظهرت أغاني المهرجانات في مصر وأغاني الراب في كثير من الدول العربية والشواهد تؤكد أن لا قدرة على كبح جماح موجة الاستلاب الثقافي التي علت وطغت وأصبحت ثيمة من ثيمات من يتغنون من أبناء هذا الجيل الآن، فاختفى فن ما يعرف بالمقدمات الإلقائية أو الموال ولم يعد هناك أثر للطقطوقة، وقل كثيراً عدد الملحنين الذين يقدمون ألواناً موسيقية أصيلة أو ما يعرف بالموسيقى البحتة، ولم يعد هنالك وجود للمقطوعات الموسيقية العربية التي تظهر مقدرات العازفين في العزف والأداء العالي والتي أبدع فيها على سبيل المثال لا الحصر رياض السنباطي وعبده داغر، والرحباني وياسر عبدالرحمن، وعمر خيرت، والشريعي وكثير من الموسيقيين العرب. ورغم علم هذا الجيل أن هذه الثقافة الواردة تؤثر على شكل وهوية الأغنية العربية تأثيراً سلبياً إلا أنهم ماضون فيما هم فيه. فمن الواجب الاتزان فيما نسمع وعدم السماح له بطمس هويتنا اللحنية وأذكر هنا مقولة للمهاتما غاندي يقول فيها «يجب أن أفتح نوافذ بيتي لكي تمر عليه كل الثقافات بشرط ألا تقتلعني من جذوري»، حديث غاندي يؤكد التمسك بالموروث والهوية الثقافية مهما علت موجات الثقافات الواردة التي تحاول أن تقتلعنا من جذورنا.
ويحمد لعدة كيانات عربية الآن وهي تحاول الحفاظ على شكل موروث وهوية الأغنية والألحان العربية كالمجمع العربي للموسيقى ومهرجان الموسيقى العربية بمصر ومهرجان اتحاد الإذاعات العربية وبعض الدور الفنية ومعاهد الموسيقى العربية في البلدان العربية يسعى هؤلاء سعياً حثيثاً يقلل من فقدان الألحان العربية لهويتها وتأصيل الأغنيات العربية الجميلة وتظهر بين الفينة والأخرى بعض الإشراقات الفنية التي تنبئ عن ميلاد من يسيرون على نهج الإبداع النغمي العربي الأصيل. ولا سبيل إلى مواجهة المد السلبي إلا بالتركيز على مثل هذه الإشراقات وشملها بالرعاية والاهتمام من حيث صقل الموهبة بالدراسة والاستزادة من بحر علوم الموسيقى العربية الأصيلة ويمكن بعدها للألحان العربية الصمود في وجه ما هو آت من متغيرات أكثر قوة، ليعود للموسيقى العربية رونقها وجمالها وبهاؤها بحثاً عن الإبداع والإمتاع النغمي أينما وجد.

ذو صلة