أحياناً يشعر المرء بكثير من الحرية والانطلاق حين تصادفه موسيقى حرة ومتخلصة من قيد النصوص، وحينما تكون الموسيقى مكبلة بنص تنتابه أحاسيس تمرر له الكثير من الاختناق. فلماذا هذا النص يا ترى؟ وما ضرورة هذا الزواج بين الموسيقى والنص؟ وهل الفعل الموسيقي وحده لا يكفي لسد الرمق الوجداني؟
وإذا ما أخذنا أغلبية الأعمال الموسيقية التي أنجزت في التاريخ الإنساني، لوجدنا أن قليلاً منها هي التي نفذت بشكل آلاتي أي بدون نصوص. فجل الأعمال الموسيقية في تاريخ ثقافات الشعوب نُفذت بنصوص وتزاوجت مع نصوص. وهذا الإجراء في التاريخ هو، في تقديرنا، مقصود بوعي، فالموسيقى حين تكون بلا نص ينتجه التاريخ فكأنها قاطرة في التاريخ ولكن بدون ركاب. فتاريخياً، حينما تبدو الموسيقى بدون نص فكأنما هي ترمي بذاكرة ثقافية كاملة في منطقة من الظلمة. فإذا كان الأمر كذلك، لم يعد لديك نص يخبرك عن وضعية الفكر ودرجة الوعي في تلك المرحلة، أو حتى عن نوعية الطعام أو الثياب أو عن الخصائص الأنثروبولوجية بصفة عامة، أو عن وقائع تلك الفترة، أو عن نوعية الحكم والسلطة التي كانت مهيمنة ما دامت هذه النصوص التي أفرزها التاريخ لم تجد الإمكان المناسب لها للاقتران بالموسيقى.
ويبدو لنا أن النص تمفصل مع الموسيقى تاريخياً واقترن بها إلى درجة أنه أصبح جزءاً من البنى والتركيبة الموسيقية الإيقاعية-اللحنية، فالقافية في الشعر العربي أفرزت ما يسمى بالقفلة في الموسيقات العربية والتي سمعناها في الآثار الحلبية والعراقية وأشكال المالوف الأندلسي والأنماط الموسيقية الصوفية كمناقب الشيخ سيدي بوعلي النفطي المتوفى سنة 610هـ/ 1159م وغيره. وما نلاحظه أيضاً في الطبوع والمقامات العربية أن من بين خصوصياتها درجات الارتكاز مثل أن تقول مقام (البياتي دوكاه)، وهو مقام البياتي الذي يرتكز على درجة (الراي). ففي رأينا من بين الأسباب التي صنعت هذه الخصوصية العلاقة البنيوية القوية والتي فرضها التاريخ بين النص والموسيقى، فالإيقاعات الموسيقية فرضتها إيقاعات النصوص العروضية، و(القفلة) ودرجات الارتكاز المقامية أنتجتها القافيات الشعرية. ومن ثَم البعد الألسني النصي العربي هو الذي ساهم في بنى العديد من المنهجيات الموسيقية.
ولو أخذنا على سبيل المثال قصيدة (سلوا قلبي) التي كتبها الشاعر أحمد شوقي، وأدتها أم كلثوم نجد أن السنباطي لحنها وهو ملتزم، في تلحينها، بالأشكال الموسيقية الكلاسيكية، بمعنى أنه استعمل في هذا المونولوج المقامات الشرقية العربية الكلاسيكية مثل الراست والبياتي والسيكاه والنكريز. فكل هذه المقامات تعكس على مستوى الإيقاعي اللحني هبوب القفلات العربية العنيفة.
وهذا ما يجعلنا نتصور أن الموسيقى تعيش حقاً تبعية مبالغاً فيها للنص. فرغم جمالية النصوص وعمقها البنائي من جهة، ورغم تفاعل الموسيقى مع هذه النصوص من جهة أخرى، يجب على الموسيقى كفن وكفعل إبداعي أن تستقل عن النص وتتحرر منه لتفرض بناءها وتخرج من عرضة النص. ولعل في ذلك إمكانات كبيرة للعثور على سبل إبداعية أكمل وأدق.
أجاب رياض السنباطي، ذات يوم، حين سئل عن علاقة الموسيقى بالنص بـ(أن الموسيقى تكمل المعاني التي لا تقدر عليها اللغة) فالمعنى هنا أن النص لا يكفي وحده ليعبر مثلاً عن وضعية رومنسية معينة، بل يقتضي أن تتدخل الموسيقى لتكمل المعاني المنقوصة التي لا يقدر النص وحده عن تبليغها. فمثلاً عندما نردد أغنية (النهر الخالد) التي كتبها الشاعر محمود حسن إسماعيل، ومطلعها:
مسافر زاده الخيال
والسحر والعطر والظلال
ظمآن والكأس بيديه
والحب والفن والجمال.
فعندما نردد هذا النص دون موسيقى نستنتج أشياء ومعاني، ولكن عندما نستمع لهذا النص بذلك اللحن الذي صممه الموسيقي محمد عبدالوهاب نستنتج معاني أخرى فالموسيقى تكشف خفايا النص.
فإذا تمعنا، مثلاً، في الظاهرة الموسيقية التونسية أو حتى الشرقية-العربية وفي تعاملها مع النصوص فماذا سنجد يا ترى؟ هل سنجد أن تاريخ تونس أو تاريخ الشرق العربي مثلاً قد تحولا إلى تراماتورجيا موسيقية؟
ولو رجعنا إلى الموروث الموسيقي التونسي، وخاصة البدوي منه والقبلي، لوجدنا أن هناك العديد من الحكايات والوقائع والروايات التي تحولت إلى أرصدة موسيقية، فعندما ننظر جيداً في أسباب التعامل الموسيقي مع هذه الوقائع نجد أن الغاية من ذلك ليس إدخال الحكاية في الذاكرة الشعبية-القبلية والارتفاع بها إلى مستوى الرمزية داخل القبيلة فحسب، بل أيضاً تفاعل الضمير الجماعي الموسيقي مع العنصر المأسوي التراجيدي للحكاية. وهذا العنصر وحده يدفع المؤسسة الموسيقية بكاملها إلى تبني هذه الحكاية، أي التفاعل مع نصها. فمثلاً، حكاية مقتل الدغباجي المشهورة في الريف التونسي قد تحولت إلى دراماتورجيا موسيقية، أي إلى أثر موسيقي تتغنى به القبائل. فالدغباجي (هذه الشخصية الرمز للرجولة والتضحية في سبيل أهله وبلاده، هذا الرجل القوي الذي أحب بلاده وأحب قبيلته وأراد أن يعيش حراً وفجأة حمله هذا الحب إلى صراع غير واعٍ وغير متكافئ وغير عقلاني ضد مؤسسة فرنسا الاستعمارية التي كانت قوية في تلك الفترة فحاول التصدي إلى جبروتها غير متحمل للقهر فنالت منه وقتلته)، تحولت كل حكايته إلى شكل غنائي إنشادي طبيعي أولي، فلم يكن من الغريب أو الاعتباطي أن قدم المسرحي (الفرجوي) الفاضل الجزيري في عمله (النوبة)، سنة 1991، هذا الأثر الذي أداه (الغناي) التونسي إسماعيل الحطاب. يقول مدخل هذا الملحون الذي يتغنى بالبطل الرمز (الدغباجي):
الخمسة الي لحقو بالجرة
ملك الموت يراجي
لحقو مواله العركة المرة
المشهور الدغباجي.
ولنا أن ننوه بنقطة مهمة في التاريخ، وهي عندما انخرط المبدعون الموسيقيون، في أوروبا بالقرن السابع عشر، في سلسلة التأليف السنفوني، ومن ثَم في التعامل فقط مع الموسيقى وابتعدوا عن النص وتجردوا من مبدأ علوية النص على الموسيقى، استقلت الموسيقى بذاتها فطورت أساليبها وتعاملت مع تركيب الأصوات وتركيب الدرجات والبحث البوليفوني الهرموني، وجاء كل هذا في سياق الفراغ الذي خلفه النص، على ما نعتقد. فيتجاوز المبدع الموسيقيُ النصَ ويصنع أدوات وآليات أخرى بديلة لها القدرة على إيصال كل الأحاسيس بغير نص. وهذه هي حقاً الثورة الموسيقية، فالمقصود هو أن تتحرك الموسيقى في مجالها بآلياتها وتُبنى بعيداً عن النص الدراماتورجي. وحين يكتمل تطورها مع نفسها يجوز إفساح المجال للنصوص، فنستطيع عندئذ أن نتحدث عن الإبداع في الأوبيرا أو المونولوج أو المسرح الغنائي. فأحياناً يتساءل المرءُ: لماذا، مثلاً، في البلاد العربية حالياً، ما عدا بعض الاستثناءات مثل الحركة الموسيقية التي أسسها الأخوان الرحباني، ليس لنا ما يسمى بالأوبيرا أو بالكوميدي موزيكال؟ والجواب، في تقديرنا، لأنه في هذه المجالات الثقافية لم تتطور الموسيقى، تاريخياً وهي بعيدة عن النص، أما الكوميدي موزيكال التي أنتجها الرحابنة في لبنان فقد كانت ناجحة لأن الموسيقى لديهما اهتدت إلى البعد الثالث، أي البوليفونيك وخلقت لنفسها آليات قادرة أن تبلغ لك النص من غير نص.