مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

بين الماضي والحاضر

تعتبر الموسيقى فناً كونياً استمد هويته من محاكاته لأصوات عناصر الطبيعة، ولكن وفق قواعد وقوانين سنها الإنسان ليعبر عما يجول في دواخله من مشاعر الحب والحنين والشوق والحزن والفرح وغيرها، وليكون أنيسه في سرائه وضرائه، ومحفزاً له على مواجهة رتابة الحياة ومخاطرها، بل الأكثر من ذلك أصبحت الموسيقى مرآة تعكس طموح الشعوب وهوياتها، وخصائص كل حضارة ونموها وتحولاتها. ونظراً لأن كل أمة لا يمكنها أن تحيا إلا بمثاقفتها لأمم أخرى تؤثر فيها وتتأثر بها في جميع مجالات الحياة، فقد تجلت تلك المثاقفات في الموسيقى عبر مراحل التاريخ.
إن الحديث عن الموسيقى العربية يعني الحديث عن فن تمتد جذوره عدة قرون، شارك في بلورة هويته وكينونته وأصالته حضارات راسخة في القدم منها الحضارات الإغريقية والفارسية والبابلية والعثمانية وغيرها، وساهم في نموه ورقيه التحولات الاجتماعية التي عرفتها الشعوب العربية بعد توسع رقعتها الجغرافية من تخوم الخليج العربي إلى أقصى المغرب العربي منذ فجر الإسلام إلى الآن مروراً بالأمويين والعباسيين والأندلسيين، بعدما امتزجت بشعوب أخرى غير عربية كان ثمارَها تلاقح إبداعي لأشكال وأنماط موسيقية متنوعة، وكتب موسيقية تدون ألحان مبدعين كبار بواسطة رموز موسيقية أمثال ابن سينا والموصلي والفراهيدي.
لقد ارتبطت الموسيقى العربية بفن الشعر منذ القدم كما هو الشأن بموسيقى العالم ككل، فتآلفت المقامات الموسيقية بالإيقاع الشعري الخاضع لنظام العروض الذي أسسه الفراهيدي، لتصدح بأنغام تؤثر في الوجدان، وتشنف الآذان وتفتح الشهية للحلم والشوق والأشجان. ولنا في الخنساء التي كانت تغني مراثيها، وفي الحادي الذي يحفز بحدائه ناقته لتتحمل تعب السفر في أحضان الصحراء، وفي اقتران الموسيقى الحماسية بالشعر الوطني لتوحيد الصفوف وترسيخ الولاء للوطن خير مثال على تكاملهما وتوأمتهما.
وخوفاً من أن يسقط فن الموسيقى في أحضان العولمة التي جاءت لتنسف كل أصيل وتحوله لسلعة تجارية عالمية وفاقدة لهويتها بادر موسيقيون عرب تزامناً مع النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلى تأسيس مدارس هدفها الحفاظ على التراث الموسيقي العربي، وجعله أكثر مرونة للتأقلم مع روح العصرنة والحداثة. ومن بينهم:
الفنان سلامة حجازي 1852 - 1917 الذي ارتبطت موسيقاه بالمسرح المصري. والسيد درويش البحر 1892 - 1923 الذي يعد مجدداً موسيقياً وباعثاً للنهضة الموسيقية في مصر. ورياض السنباطي ومحمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وأحمد القصبجي وبليغ حمدي في مصر الذين أرسوا دعائم موسيقى عربية متأصلة ومنفتحة على التطور عبر العصور.
والأخوان رحباني من لبنان اللذان اعتبرا من عظماء الموسيقى العربية والعالمية، أبدعا أساساً في المسرح الغنائي العربي، وفي التوزيع الموسيقي والهرمنة. ووظفا المجموعة الصوتية توظيفاً علمياً. وإلى جانبهما سطع نجم فنانين مرموقين أضاؤوا سماء الأغنية العربية أمثال المطربة فيروز والمطرب والملحن الكبير وديع الصافي. كما لا ننسى دور الرواد الموسيقيين الخليجيين في الحفاظ على الطابع الموسيقي الخليجي المتميز بتنوعه وتدويله في كل بقاع الوطن العربي والمشرقي، لقد أنجبت الموسيقى الخليجية البرية والبحرية منها رواداً موسيقيين أسسوا لأنماط موسيقية خليجية أصيلة، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصرنجد الفنان طلال مداح الذي يعتبر رائد الحداثة الموسيقية بالسعودية، والملحن الكبير سامي إحسان من السعودية والفنان عبدالرب إدريس والفنان الملحن عبدالله الرويشد من الكويت والمطرب حسين الجسمي من الإمارات وغيرهم...
أما بالشام والعراق فقد بزغ رواد كبار أمثال صباح فخري بسوريا الذي أبدع في أداء الموشحات والطقطوقات الحلبية، وساهم في نشرها والتعريف بها في تخوم الوطن العربي، وناظم الغزالي بالعراق الذي خلد أروع الألحان وشنف الآذان بمواويله الرائعة الشجية، وقد أخذ المشعل عنه موسيقيون عراقيون وعرب معاصرون ككاظم الساهر الذي استطاع أن يخلق هرمونياً وتزاوجاً بين الشعر الحر والجملة الموسيقية التعبيرية.
وللفن الموسيقي المغاربي طابع خاص يميزه عن مثيله المشرقي وإن كان أصلاً يعتبر امتداداً له عبر التاريخ، وقد اكتسب هذا الطابع من خلال احتكاكه بالموسيقى الأمازيغية التي تعتمد على المقام الخماسي والإيقاعات المركبة والأصوات النسائية الحادة الرقيقة. وبالموسيقى الحسانية الصحراوية التي تعتمد على المقام الخماسي وعلى إيقاعات متنوعة تؤديها آلات إيقاعية كالدف والطبل وآلات وترية كالتدنيت وهي آلة أساسية تصاحب صوت المطرب، ويركز عليها الملحن في سبك ألحانه. وعلى نغمات هذه الآلات تتم رقصات جميلة مثل رقصة القدرة وهي رقصة تعبيرية يؤديها رجل وامرأة. وبالموسيقى الأندلسية القادمة من الأندلس بعدما خرج منها المسلمون الذين استقروا في شمال أفريقيا حاملين معهم أنماطاً ثقافية وموسيقية متنوعة. وهكذا يمكن رصد ثلاثة أنواع منها منتشرة في كل من المغرب الأقصى والجزائر وتونس وليبيا وهي: موسيقى الطرب الأندلسي الوافدة من إشبيلية إلى شمال المغرب وفاس بوجه الخصوص، وموسيقى الطرب الغرناطي التي قدمت من غرناطة لتستقر في كل من شرق المغرب وفي الجزائر، وموسيقى المالوف التي وفدت من قرطبة لتنتشر في تونس وليبيا. وقد كان لكل تلك الأنماط الأندلسية تأثير على الموسيقى المغاربية.
من الرواد المغاربيين البارزين في الساحة الفنية الموسيقية نجد موسيقيين كباراً أمثال الفنان أحمد الوكيلي رئيس فرقة الطرب الأندلسي بالإذاعة الوطنية، وهو أحد رواد الطرب الأندلسي. والفنان عبدالقادر راشدي والفنان أحمد البيضاوي والفنان عبدالسلام عامر وهم من كبار الملحنين المغاربة الذين ساهموا في تأسيس الأغنية المغربية العصرية. وأما بالجزائر فنجد على سبيل المثال الأصيل محمد العنقا والمطرب رابح درياسة، ومن تونس نجد رواداً كثيرين نختار منهم الفنانين الكبار علي الرياحي ولطفي بوشناق، والموسيقي المؤلف الملحن صالح المهدي الذي ألف كتباً كثيرة خاصة بفن المالوف ومن ليبيا نجد الفنان الكبير حسن عريبي الذي أسس فرقة موسيقية اختصت بطرب المالوف.
لقد ترك الموسيقيون العرب القدامى منهم والمحدثون تراثاً موسيقياً عريقاً خالداً لم تستطع آلة العولمة المدمرة أن تستأصله، ولهذا يجب على الأجيال الحالية والقادمة أن تحافظ عليه، وتجنبه أية أسلبة، وتبعية وتقليد أعمى.


*ملحن

ذو صلة