مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

اللحن والهوية الثقافية

استلهم الإنسان الموسيقى منذ فجر الحياة من أصوات الطبيعة التي تحيط به في عنف ورقة أصواتها، عنف أصواتها المتمثل فى هوج الرياح والعواصف، وترق هذه الأصوات لتصل حداً من اللطف يتمثل في صوت حفيف الأشجار وزقزقة العصافير.
استفاد الإنسان من هذا التباين الواسع في أصوات الطبيعة في محاكاته لها، والتعبير عن انفعالاته ومشاعره المختلفة من فرح وألم وحزن. هذه القدرة التعبيرية للفنون عامة وفن الموسيقى على وجه الخصوص جعلت من الفنان في الحضارات القديمة حكيماً وفي مرتبة قريبة من الأنبياء، فأعمال الفنانين في تلك الحضارات القديمة كانت عبارة عن حكم ومواعظ مرشدة للشعب تهذب السلوك والطبائع وتثبت قيماً جديدة ترتقي بهم نحو المدنية.
وفي ضوء علم الجمال الموسيقي فإن الفيلسوف الألماني هيجل يرى فن الموسيقى وصناعة الألحان يتفوق على غيره من الفنون الأخرى كالتشكيل والدراما والشعر، لأن الصوت الموسيقي وفقاً لهيجل ذو طبيعة مجردة Abstract، على عكس اللون والحجر فتلك مواد ذات طابع تشخيصي. بالإضافة الى أن طبيعة موضوعات الموسيقى مستمدة من الحياة الداخلية الذاتية المجردة للفنان. فالموسيقى تخاطب الحياة الداخلية، وهي عندما تعبر عن الألم والحزن أو الفرح فإنها لا ترتبط بحزن أو فرح معين.
وفي مستوى تلقي المنتج الفني فإن الفنون الأخرى من رسم ونحت وشعر يتم استيعاب المنتج الفني من خلال تأمل ذاتي للعمل الفني، ويحتفظ المتلقي باستقلال نسبي في انفعاله وتذوقه للعمل. أما في حالة المنتج الموسيقي فإن الصوت الموسيقي المكون للحن يقوم بتوصيل حركاته وأثره إلى داخل النفس البشرية العميقة، لذلك لا يشعر الإنسان أمام الموسيقى أنه مستقل وحر لأن تدفق اللحن عبر أصواته المكونة له يحمله حيثما يشاء.
من ناحية تاريخية فإن الموسيقى بدأت أحادية الصوت في أنحاء المعمورة ولعبت دوراً كبيراً في توحيد وجدان الشعوب التي تنتمى إليها. كذلك كان شأن الموسيقى العربية أحادية الصوت التي ارتبطت نشأتها بالقبائل وممارساتها الطقوسية مثل الزواج والأعياد وميلاد الأطفال ودفن الموتى. تطوّرت المجتمعات العربية بعد ذلك نتيجة لعوامل كثيرة منها الديانات والغزوات وحركة الهجرات الطوعية والقسرية، هذا التطور انعكس على فن الغناء والموسيقى، مع الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية والطابع المميز لكل مجموعة عن الأخرى.
من أهم الأنماط الموسيقية التي عرفت في المنطقة العربية في تأريخنا المعاصر، التخت العربي الذي ظهر في حقبة العثمانيين وتميز بآلاته الشرقية كالقانون والناي والعود والربابة، وفن الموشحات الذي يأتي منظوماً تارة وفي أحيان أخرى يستخدم اللغة الدارجة، وفن الموال ذلك اللون الغنائي الشعبي الذي تتشكل أبياته الشعرية عادة على قافية شعرية واحدة.
وفن الطقطوقة تلك الأغنية الخفيفة التي اعتمدت الشعر العامي ويفصل بين مقاطعها لازمة موسيقية واحدة متكررة.
أما الغناء الشعبي الذي كان منتشراً بين الفئات البسيطة لعامة الشعب فقد حافظ على بقائه في معظم الدول العربية. وفي منطقة الخليج العربي فقد تميّزت دوله بفن الصوت، ذلك الفن الرجالي الذي يعتمد على مغنٍ يعزف على آلة العود وتصاحبه فرقة صغيرة مكونة من كمان وعود وطبل صغير مع التصفيق والرقص.
أما نجوم فن الغناء والموسيقى في تلك الفترة فقد سطع نجم عدد كبير منهم في معظم الدول العربية لكن يعد سيد درويش من أهم الموسيقيين العرب الذين لعبوا دوراً كبيراً في الموسيقى العربية لإسهاماته الكثيرة والغنية فما أنتجه من أغنيات وطنية متعددة ومؤثرة أبرزها النشيد الوطني المصري (بلادي لك حبي وفؤادي) وعدد من الأغنيات العاطفية التي انتشرت في معظم الدول العربية منها (زوروني كل سنة مرة). ومساهماته الكبيرة في التأليف للأوبرا واستلهامه من التراث الشعبي.
ومن المملكة العربية السعودية طارق عبدالحكيم الذي يعتبر رائد الأغنية الأكاديمية ومؤسس مدرسة الموسيقى العسكرية بالإضافة إلى الفنان طلال مداح وفنان العرب محمد عبده.
ومن دولة الإمارات الفنان محمد عبدالسلام الذي يعد من أوائل المطربين الذين تغنوا وعزفوا على آلة العود. والفنان حارب حسن.
وفي البحرين تميّز بأداء وإجادة فن الصوت الفنان محمد بن فارس.
استمرت حركة التطور الموسيقي في نمائها وديناميتها فظهر عدد من الموسيقيين العرب تلقوا دراسات متقدمة في فن التأليف الموسيقي فأحدثوا نقلة نوعية في صياغة الألحان وتوزيع الأعمال الغنائية والموسيقية والمزاوجة بين الإيقاعات الغربية مثل إيقاع التانجو وإيقاع الفالس. منهم محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش والأخوان رحباني ومن المطربات السيدة أم كلثوم التي عرفت بسيدة الغناء العربي وقيثارة الشرق السيدة فيروز.
اللحن كمعبر عن الهوية الثقافية
يعبّر اللحن الموسيقي عن الهوية الثقافية التي ينتمي إليها، هذا التعبير عن الهوية اقتضته عوامل عدة منها النظام النغمي سلم Scale، مقام Mood، سباعي Diatonic، خماسي Pentatonic كبير، صغير.
العامل الثاني الإيقاع وله عدة مستويات: الإيقاع كضرب إيقاعي مثل العشرة بلدي والنوبة والمخمس، إلخ...
الإيقاع في بنية اللحن من انتظام النبر وتأخيره. الإيقاع كآلة موسيقية مثل الطبل الكبير والصغير والصنج والدفوف بأنواعها والطبول، إلخ... بالإضافة إلى الآلات الموسيقية المتعددة مثل القانون والناي والسمسمية والكمان والجيتار. وباختلاف المسميات للآلات الشعبية من مجتمع لآخر فإن طريقة صناعة الآلة والمواد المستخدمة فيها وطريقة العزف عليها تعتبر أيضاً معبّراً ثقافياً عن المجتمع.
يتم التعبير عن اللحن من خلال هذه العناصر فنحن عندما نسمع اللحن الموسيقي تحيلنا هذه العناصر للثقافة التي ينتمي إليها اللحن ونستطيع أن نوكد جازمين أن هذا لحن عربي ينتمى للمغرب أو لمصر أو الخليج وهذا أفريقي ينتمي للسودان أو أثيوبيا أو تنزانيا.
حقبة الستينات والسبعينات
تمثل هذه الحقبة العصر الذهبي للموسيقى والأغنية العربية وذلك لطبيعة الأعمال الغنائية والموسيقية المتميزة والخالدة في الذاكرة العربية. اتسمت الأعمال الغنائية فيها بالمقدمات الموسيقية الطويلة والتي يمكن أن تقدم كأعمال موسيقية بحتة لوحدها دون الغناء. وتسيد الساحة الفنية وقتها أسماء فنية كبيرة قدمت أفضل النصوص الشعرية والصياغات اللحنية وتوفر لهذه الأعمال مغنون يمتلكون قدرات أدائية عظيمة وخيالاً فنياً وإحساساً عالياً. لكن ذلك لم يتأت نتيجة للصدفة البحتة بل هو انعكاس للتحولات السياسية والاجتماعية الكبرى التي كانت تمر بها المنطقة العربية ويشهدها العالم. فحركة المد الاشتراكي الذي انتظم عدداً من الدول في القارات المختلفة ألقى بظلاله على المنطقة العربية وظهرت التنظيمات السياسية التي جعلت الاشتراكية برنامجاً لها تبشر به شعوب المنطقة منها الأحزاب الشيوعية ومنها الأحزاب القومية العربية كالحزب الناصري في مصر وأحزاب البعث في كل من سوريا ولبنان والعراق.
أما في عصرنا الحاضر فإن النكبات التي ألمت بالمجتمعات العربية والتي صاحبت تراجع عجلة التنمية وحركة التنوير والمعرفة، ظهرت انعكاساتها وأثرها في الفنون ومن بينها الموسيقى وذلك من خلال تراجع وانحسار دورها التنويري والتثقيفي والمعرفي وظهور مفاهيم وقيم جديدة تسيدت المشهد الثقافي والفني تتمثّل في سيادة ثقافة صناعة النجم عبر شركات الإنتاج الفني التي صار بمقدورها أن تتحكم في الذوق العام من خلال ما تنتجه، وما تحققه من ربحية عبر هذا المنتج. في هذه الحقبة توارى عدد كبير من المؤلفين والملحنين الذين لم يجدوا إنصافاً رغم براعتهم وتألقهم. إضافة إلى تأثير العولمة عبر وسائطها المتعددة والتي لعبت دوراً في أن تروج للثقافة الغربية في مقابل الثقافات الأخرى ولم تكن للدول العربية إستراتيجيات واضحة للتعامل مع هذه التعقيدات والمتغيرات التي تطرأ على الواقع بوتائر سريعة ومتلاحقة.
هذا الواقع انعكس بالضرورة على الفنون جميعها ومن بينها فن الغناء والموسيقى، إذ إن مقدار مساهمتنا في الفعل الثقافي على كافة مستوياته المتعددة ضئيل جداً قياساً إلى تعداد الشعوب العربية وعدد مبدعيها.


* ملحن، أستاذ بكلية الموسيقى والدراما، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا

ذو صلة