بعد أول الاقتباسات السينمائية لأعمال هاروكي موراكامي الأدبية، والتي جاءت في البدايات مع عمل جن إيتيشيكوا (توني تاكيتاني 2004) ومن ثم رائعة المخرج الكوري لي شانغ دون (احتراق 2018)، يقوم المخرج الياباني الأهم في وقتنا الحالي (ريوسكي هاماغوتشي) بتحويل قصة قصيرة مكونة من 40 صفحة، إلى عمل سينمائي محكم الصنع مدته 3 ساعات، ينسلخ في لحظات عن خط القصة القصيرة، أو بالأصح (يرتقي بها) إلى روح تشيخوف، ومسرحيته (الخال فانيا)، مع الاحتفاظ بنسمة الحزن الباردة عند موراكامي، وغيومه الخريفية الحاجبة للشمس، بينما تخلق تسلسلات هاماغوتشي التقاءات سردية معقدة التركيب، لكنها دافئة من حيث التلقي والتجربة.
إذ برز نجم ريوسكي هاماغوتشي في الساحة السينمائية عبر فيلم (هابي آور 2015)، أول أعماله المتجاوزة حدود اليابان، والذي تعرَّفتُ إلى اسمه من خلاله، حيث قدَّم فيه عملاً مرهفاً في تجربته الحسيّة، مُتَّسعاً في أبعاده السردية، انتزع من خلاله العناصر المتعارف عليها في تكوين الحوار السينمائي بالمشهد ليصبح عملية للإنصات المستمر -كما هي للشخصيات- بدلاً من كونه عملية للجذب -عند المتلقي-، معتمداً على تراكيب المشهد الواحد بدلاً من خلق التسلسلات لخدمة السببية، ليتخذ الفيلم شكلاً أكثر (طبيعية) من حيث الدراما المقدمة، وأكثر إقناعاً عمّا تقبض من خلالها. كما أخرج بعد ذلك فيلم (آساكو الأول والثاني 2018)، الذي كان لدراما رومانسية ذات خصائص سريالية رقيقة المزاج وآسرة الجمال. أما وفي عام 2021، فقد صنع فيلماً رائعاً أيضاً بعنوان (عجلة الحظ والخيال)، والمكوَّن من ثلاث حكايات تتقاطع في خيالية الأفكار وسوء الفهم، فكَّك فيها هاماغوتشي التفاصيل اللحظية للحياة عبر تسلسلات حوارية مكثفة، منسابة التدفق وذكية التوجه، لكن المتابع الفاحص لهذه الأعمال سيجد فيها ثلاثة عناصر مشتركة في التراكيب السردية، وهي في أهمية التقمص لدى الشخصيات أولاً بغرض التعبير عن دواخلها (عبر التقنع)، وحميمية الخطوط فيما بينها ثانياً، وأخيراً في انتمائها للسينما الأدبية. ولا يأتي ذلك إشارةً لحرفية الانتماء إلى الأدب من حيث المفهوم (في اقتباسات روائية، أو نثرية العبارات المنطوقة)، بل لفعل الانغماس في المشهد الواحد من خلال التوقف وجعل حوارات الشخصيات المكتوبة وتعقيداتها هي الحاكمة للسرد، أي لاحتمالات ومساحات تخلقها نصوص هاماغوتشي بالطريقة نفسها التي نراها في أعمال جاك ريفيت، لكنها لا تأتي على نطاق التعاقب المشهدي، بل في أبعاد الحوار نفسه، كما تأخذ أفلامه خطًّاً سردياً متعدد الطبقات يحافظ فيه على رؤية واضحة رغم كل غموض نستشعره في مناخها نتيجة البراعة الكتابية.
أمّا وعن (قودي سيارتي)، فسنجد عنصري التقمص والحميمية أكثر تفعيلاً، مع تعدد للطبقات السردية الناتجة عن المساحات التي يخلقها الحوار المنطوق، لكن بدرجة أقل من حيث الانغماس المشهدي، نظراً إلى كون (قودي سيارتي) فيلم عن الحركة لا عن التوقف، في الحركة الدورانية بقدر الإيحاءات التي وضعها هاماغوتشي في الالتفاف حول محور الأشياء، سواءً لبكرات الكاسيت أو لعجلات المركبة أو لتداخل الصورتين في بعضيهما، للدوران في حالة الحزن العميقة والأبواب المشرعة والأسئلة التي غادر حاملو أجوبتِها الحياة ودفنت أقفالها معهم، ذلك وفي (كافكو)، الممثل المسرحي الذي يذهب إلى هيروشيما لإخراج مسرحية (الخال فانيا) لتشيخوف، متخلياً عن أداء دور فانيا، نظراً إلى ارتباط أسطر الشخصية بماضيه وزوجته (أوتو)، والتي توفيت قبلها بعامين، في حين يلتقي طريق كافكو خطوطاً تتقاطع مع ذلك الماضي، في الشاب (تاكاتسوكي)، والذي جرت بينه وبين (أوتو) علاقة غير شرعية، مثيرة للأسئلة التي لم يبحث حينها كافكو عن أجوبة لها، وفي جانب آخر أكثر رئيسية، ينمو بين كافكو وسائقة مركبته (ميساكي) خطٌّ مبنيٌّ على الاحترام المتبادل والأحزان المشتركة.
يبدأ الفيلم قبل ذلك بعامين، أربعين دقيقة من الماضي، أول إطار فيها كان لغرفة نوم يدخلها ضوء نهاري خافت، وبنفس الطريقة التي حكت بها شهرزاد حكاياتها غير المكتملة إلى شهريار، تحكي أوتو بصوتها الحزين إلى كافكو قصة السيناريو الإيروتيكي للفتاة المتسللة باستمرار لمنزل الفتى المعجبة به ياماقا، لتضع تذكراً كل مرةٍ تتسلل فيها رغبة في أن تلفت انتباه الفتى، لكن الحكاية لا تكتمل لطلوع الصباح كما هو الحال في ألف ليلة وليلة، بل لعدم انتهاء أوتو من صقلها، ونفاد النشوة التي تلتقط حبال حكاياتها منها، كما يُذكِّرها كافكو كل نهار عما حكته له باكراً لكي تقوم بتسجيله، لكن ما سنلاحظه في هذه المشاهد الإيروتيكية، هو امتزاجها بتوتر يأتي في نظرات كافكو إلى مجهول على رغم كل انكشاف مادي فيه، لغشاء يغطي بصيرة كافكو ولا يرغب في انتزاعه، وجزء من ذلك يعود لوفاة ابنتهما قبل 20 عاماً، إلا أن الارتباك سيصبح جلياً في سير الأحداث عندما يصعد كافكو على السلم ليرى (عبر المرآة التي خرجت كاميرا هاماغوتشي منها سابقاً) خيانتها مع الممثل الشاب تاكاتسوكي، لتنطبق شفتا كافكو انطباقاً غامضاً، في حين تُكمل أوتو في وقت لاحق حكايتها التي ستتوقف إلى الأبد عند اللحظة الأكثر أهمية فيها، عندما تستمع الفتاة المتسللة إلى صوت أقدام مجهولة تصعد إلى السلم (والذي تعمّد كافكو نسيان الحكاية لاحقاً)، لتتوفى أوتو بعدها على نحو مفاجئ في ليلة الميعاد المرتقب.
ما نراه في جزء الفيلم الأول هو مثال بسيط على تعدد طبقات هاماغوتشي، بالتناور بين هياكل الفيلم الداخلية والخارجية، على أن تلهم الحياة الدراما الإنسانية، وعلى أن تعكس الدراما الإنسانية التجربة الحياتية، لنرى في واقع كافكو ظلاً يكمل فراغ حكاية أوتو ولأن يصبح نص تشيخوف ظلاً يكمل واقع كافكو، ذلك وعبر إنشاء ايقاعات خفية في الحوارات المكتوبة للشخصيات، وتحريكها هدفاً للوصول إلى الأعماق الحقيقية للمشاعر من خلال الخيالات الفنية المشتركة، وعبر أساليب ربطية تدل أيضاً على فهم هاماغوتشي الدقيق لطبيعة هذه الإيقاعات، بحيث نشهد في لحظة ما انطباق شفتي كافكو أمام أوتو، بينما يجري في لحظة أخرى بروفات مع صوت أوتو على نص تشيخوف في مركبته، ليعكس ذلك نوعاً من الحوارات التي قد يفترض متلقيها على وجوب وقوعها المجازي بين كافكو وأوتو، لكن هاماغوتشي لا يضع الأمر اشتراطاً سوى في كونها بروفات لا أكثر، لكن وعلى الرغم من توقف كافكو عن لعب دور فانيا إلا أنه استمر بتأدية البروفات في المركبة، كما لو أصبح نص تشيخوف وسيطاً بينه وبين أوتو.
تلعب المركبة في (قودي سيارتي) دوراً مركزياً، فهي شعلة نار وسط هكتارات من الجليد، لأحمر يقطع عالماً من الأبيض والرمادي وغيرهما من الألوان الباردة، كعنصر رمزي يتواجد لتحقيق الموازنة الدرامية والبصرية، مجردة في مقصورتها كلاً من الصوت والصورة والدراما، لتصبح مساحتها المتحركة ذات سمات خصوصية وحميمية في عالم هائل ومتصلب، تسيل فيها المشاعر، وتكشّف الوقائع، وتكتمل الحكايات، وتتضح من خلالها الصور، فهي غرفة الاعترافات، وقبة تحضير الأرواح والتواصل مع الأشباح، تقودها ميساكي في مساحات خاوية فوق الجسور وتحت الأنفاق، بينما نشهد بين نوافذها (حوارات/بروفات) يقوم بها (كافكو/فانيا) مع (أوتو/شخصيات المسرحية)، أو لحوار يتبادله كافكو مع ميساكي عن التاريخ الحزين لهما، لينتج عن هذا الاتصال حزن لماع، وحميمي بقدر التقاء حزني الخال فانيا وسونيا في مسرحية تشيخوف
كما يقوم هاماغوتشي بتصوير مشاهد مركبته بنهجٍ كيارستميٍ بحت، حيث اللقطات المقربة ذات زوايا التسعين والمئة وثمانين درجة، مع تصوير خارجي يحتفظ بصوت الحوار الداخلي فيه، متضمناً الخط الصوتي أيضاً كل ما يحيط بالمركبة من الخارج (المزيج الصوتي الذي قام عليه فيلم: طعم الكرز)، إذ يقوم بذلك هاماغوتشي بهدف الرفع من درجة تركيز الحوار الجاري، ولأن تضفي صورة المركبة العابرة شعوراً نفسيّاً بالحركة في الوقت الذي تزيح به الشخصيات عبر كلماتها، كما تقوم المشاهد الداخلية دون النظر إلى الآخر مطلقاً -ما تتميز به حوارات الطريق في السينما عن غيرها- إلا في مشهد واحد نظر فيه تاكاتسوكي إلى كافكو
وإلى الكاميرا- ليكمل الحكاية التي لم تكملها أوتو له، والتي تعترف المتسللة أمام الملأ بها، مؤكداً تاكاتسوكي في نظره إلى أعين كافكو بأنه مهما نظر إلى الإنسان الآخر فإنه لن يفهم شيئاً سوى في نظره إلى نفسه. وعلى عكس أي حوار جرى بين هاتين الشخصيتين، حمل هذا الحوار عاطفة أبداها كافكو إلى تاكاتسوكي، لينضم بذلك تحت مظلة العزاء، مستشعرين بشيء من التقشر البيّن، أو على الأقل (حديث لا يخرج من كاذب). كما قالت عنه ميساكي.
وبقدر ما هو فيلمٌ عن التعايش مع الحزن المتلبد في الروح، هو فيلم عن التواصل الإنساني بقدر أعمال هاماغوتشي السابقة، وعن الحاجة البشرية الجمعية لذلك -كما هي في الحكاية الثالثة في فيلم (عجلة الحظ والخيال)- وفي الخطوط التي تصل أحداً بآخر عما إذا كانت (لحالة ما) كما هي بين كافكو وميساكي، أو عبر (شخص ما) كما هي بين كافكو وتاكاتسوكي، لكن جذور (قودي سيارتي) تغور وتتمدد في الحاجة الفردانية في خلق الاتصال، سواء كان لتجاوز الحالة من خلاله، أو في الأذى الناتج عند فقدانه، إلا أن اتصال المتلقي في تجربة العمل الفني أو العناصر المكونة له لا تقوم على نفس الفكرة، إذ يضع هاماغوتشي بذكاء مسافة فاصلة بين خطوط الحياة والفن في الوقت الذي يوقع الفن به على الحياة، وذلك من خلال تراكيب مسرحية الخال فانيا متعددة اللغات، والتي لا يمكن للمشاهد ولا الممثل فهم الرموز المنطوقة فيها، كما أن لا يُحدث مؤديها أي تفاعل استيعابي دخيل على النص المكتوب، لكن في أن تتم معالجة طبقة صوتية مجهولة المستوى بطريقة ترتبط بخصوصية المتلقي، أي لأن يكون فاعلاً بقدر صانعه عبر إعادة تكوين المعنى في وعيه، لا في التفاعل مع سطح الكلمات المنطوقة.
وبهذه الطريقة سنتمكن من فهم التركيبة الفنية لفيلم (قودي سيارتي)، من خلال وعينا الإدراكي الضاغط للطبقات المنفصلة بقدر تباعد لغات ممثلي المسرحية وقربها المعنوي، في الوقت الذي يفسح به هاماغوتشي لذات المتلقي في إعادة بناء الإيقاعات الداخلية، كمشهد الخاتمة في المسرح على سبيل المثال، والذي قامت به يون-أي (سونيا) بأداء المشهد الختامي من مسرحية (الخال فانيا) بلغة الإشارة، محيطة كافكو بذراعيها لتنطق يداها: (سنتحمل، وخلف التابوت سنقول إننا عانينا وقاسينا المرارة، وسنرتاح، وتصبح حياتنا رقيقة، وعذبة كالحنان). وفي صمت تجاوز زخمه الكلمات، يصبح هذا المونولوج غير المسموع حديثاً لا يخرج إدراكياً من سونيا، ولا يون-أي، ولا ميساكي، بل من داخل كافكو إلى خارجه، لينهي هاماغوتشي رحلته بعدها بعنوان الفيلم على نحو مرئي (ميساكي تقود سيارة كافكو).