مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

الفنان التشكيلي راشد دياب.. حالة الدمج البصري بين الشخصي والمشترك

حينما التقيت للمرة الأولى بالفنان السوداني المخضرم راشد دياب في مدينة الرياض، كان يشارك في معرض ثنائي مع زميل دراسته وصديقه التشكيلي السوداني كمال مصطفى المقيم بالرياض، وجدت أمامي شخصاً مختلفاً في ملابسه وأسلوب حديثه، وعندما تجولنا سوياً بين الأسواق، توقف فجأة أمام محل يبيع التسالي من اللب (الفصفص) والحمص والفول السوداني، وهو يتأمل طويلاً ذلك الاصطفاف اللوني داخل فاترينة العرض، من هذا الموقف وجدت نفسي فعلاً أمام شخص ممتلئ بالتأمل وصاحب رؤية بصرية واضحة، وبعد انتهاء المعرض وسفر راشد ظننت أن القصة انتهت على وعد أن نلتقي بالقاهرة إذا توافقت ظروف إجازتي مع مشاركته في معرض ترينالي القاهرة للحفر.
تعاقبت المقابلات بعد ذلك بيني وبينه من خلال المهرجان الوطني للتراث والثقافة بالجنادرية، وكذلك مشاركاته الفنية والثقافية، وحضوره الدائم للرياض وجدة بين فترة وأخرى، والتف حوله العديد من الفنانين السعوديين إلى جانب فنانين من الجاليات المقيمة بالمملكة، وأصبحت له صداقات عديدة مع عدد كبير من الفنانين، لسهولة تواصله مع الناس وحبه الكبير للالتحام بالثقافات.
الدكتور راشد دياب الذي أقام في إسبانيا عشرين عاماً، لم ينسلخ عن تراب وطنه الأم، كان قريباً من أبناء السودان المقيمين بالخارج، ومنهم الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم، وعندما توفي الشاعر الصديق، أحيا ذكراه بمجموعة من أعمال الحفر التي تميز بها في مشواره الفني متأثراً بتلك الشحنة القوية في شعر صلاح حولها من خلال الألوان والأشكال إلى لوحات فنية.
لم يكن راشد دياب هو الفنان السوداني الوحيد الذي تعرفت عليه في مدينة الرياض، كانت لي صداقات مع كل من الفنان حسين جمعان، وأحمد عبدالعال، ومحمد إدريس، وأنور جبر، ومحمد صالح، ود. محمد عبدالمجيد فضل، وأحمد الباشا، ومحجوب حسن العوض، وحمزة النميري، وصلاح وديدي، وشيخ إدريس، وآخرين، ولكن الفنان راشد دياب هو الأكثر شهرة بينهم، بسبب ممارسته للإبداع الفني في إسبانيا 20 عاماً اتصل فيها بالتيارات الفنية في أوروبا وأمريكا والدول العربية والأفريقية، من ناحية، وممارسته للتدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة مدريد الكومبلوتينسي من ناحية أخرى، وقد نمت لديه القدرة على الفرز والنقد الفني، والثقافة المتنوعة حول الفنون البصرية، كما لفتت إليه وإلى أعماله أنظار النقاد، وكتب عن تجربته العديد من نوابغ النقد التشكيلي، واجتمع حول فنه الأدباء والمهتمون، وعن رأيه في أعماله يقول الأديب الأستاذ الطيب صالح: النقاد والمتذوقون للفن في أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها، ينظرون إلى لوحاته فيجدون لغة يفهمون مفرداتها، لكنهم يجدون شيئاً آخر (طريفاً) استمده الفنان من بيئته وموروثه الحضاري، وهو الذي يعطيه تميزه في نهاية الأمر.
ويرى الناقد، رافيل كانوفار مدريد: أعماله بحسها الشعري تحمل إلينا صدى ضوء وألوان بلده، تلك الأشكال والصور التجريدية لرؤاه وذاكرته التي أولجها في خضم الجمالية المعاصرة والتي شكلها بتناغم مع مرجعيات تلك الروائح والألوان، الخطوط والتركيبات، والتي شاهدتها من خلال بعض الصور الفوتوغرافية المعلقة بعناية في محترفه، لوحاته مثل نوافذ تدعو المتلقي للتلذذ والاستمتاع، لأنها تمثل راشد دياب رقة وتواصل.
ومن اللافت في أعمال راشد دياب مهما اختلفت في الأنماط والأساليب، والتقنيات، ذلك الترابط الوثيق بينها، أي بين الجرافيك والتشكيل اللوني، وبين أفكاره وثقافته والقضايا التي يعالجها في تشكيلاته، ويدافع عنها بكل حماس، مما يجعله في بحث دائم لفنون الطباعة والأصباغ والألوان، واللعب على الألوان الأحادية، وكذلك إيجاد حلول لبعض المشاهد التي تحمل واقع الحياة في أفريقيا والدول العربية وبين التجريد، وتلخيص تلك الرسائل الحياتية بما تحمل من قصص وأمثلة، قد لا تتحقق كعمل إبداعي إلا بالتقنية كعنصر مساعد، ولذلك تجده ينغمس تماماً في خصائص عالم الطباعة، ومتابع جيد لكل ما يجود به العصر من تطور تقني في ذات الأمر، هما أنه يرسل ببعض الجمل اللونية والشكلية بتتابع مراحل التطور للوحة الواحدة، فيخلق بذلك مناخاً معرفياً لتطور حالة التحلل من قيود التقليدية، أو التعبيرية الكلاسيكية، إلى تجريد معاصر يسمح بالتأويل وتلمس الحالة المزاجية لدى الفنان.
استخدامه للرموز والتراث حتى في الأزياء يحقق له كمبدع متعة التجديد والحداثة التي لا تلغي أو تناطح الأصالة، ولا يكون المستقبل على حساب الماضي بأي ثمن، لذلك يأخذ الرموز التراثية والثقافية إلى منطقة التحوير والمعادلة مع لغة بصرية يقبلها الفن المعاصر ويحترم كل ما فيها من أصالة وارتباط بالأرض والإنسان الذي يقيم عليها ويسعى ليواكب مناخات العصر وتقنياته، يذكر أيضاً في ختام هذا المقال مساهمته الإنسانية الرائعة تجاه وطنه بإنشاء مركز راشد دياب للفنون، الذي من أهدافه رفع قدرات الجمهور السوداني للتذوق الفني والإبداعي، وعكس صورة وطنه السودان الحقيقية في العالم من خلال الثقافة والفنون، وتسليط أهمية دور القوى الناعمة في بناء الوطن ونشر ثقافته.

ذو صلة