نستكشف في مسلسل (الخلافة) (Succession) الكثير من الأشياء الدرامية المتعلقة بالأب المتمسك بدوره الحياتي حتى النهاية، وعلاقته بشخصيات أفراد أسرته خصوصاً ضمن التبادلات العاطفية بين الأب وابنته تحديداً، أما شرعية الشباب فهي مفتوحة جدلياً من خلال تمسكهم بالنظرة المادية للعلاقات الإنسانية، ومواجهتها بالالتزامات بما هو قديم أو بما هو مرتبط بالشيخوخة، والهيبة التي يفرضها (لوجان) الأب في مجال القدرة الإعلامية لتغيير العقول من خلال الدخول إلى الإمبراطوريات الإعلامية المبنية على عدم التخلي عن الإرث واستمراريته بشتى الطرق، فالصراعات القوية بين رجال الأعمال مبنية على عدة إيماءات بالالتزام الأبوي وقوة السلطة، والعودة إلى نقطة رأس الهرم الأساسية في الشركات العائلية، رغم انهياراته الصحية ووقوفه مجدداً في كل مرة، وبتنافس شديد حتى بين أفراد العائلة الواحدة مقارنة مع الثمانيني (لوجان روي) مؤسس شركات (وايستار روكو) وأولاده، فالدقة العملية في شخصية (لوجان روي) تجعله متميزاً على صعيد السرد والحبكة، والتسلسل الدرامي الذي يشتد عند الغوص في اهتماماته الإعلامية قبل السياسية، والحفاظ على جودة إطلالاته المثيرة للدهشة عائلياً واجتماعياً، وبتماسك رفيع المستوى في صراع الجبابرة الحديث عصرياً، وضمن الرؤى التحديثية التكنولوجية، وفق متعة حقيقية لقصة شكسبيرية كتبها (جيسي أرمسترونغ) جامعاً حصان طروادة الإعلامي في موقف عائلي فعلي متشابك بين الماضي والحاضر والتأسيس لمستقبل جديد، ولحماية الفضائح التي تتوالى على نشرات الأخبار في محطات تلفزيونية تمتلكها العائلة حصراً ولا تستطيع منعها، وتؤثر على سمعة شركة (وايستار روكو) الأخلاقية، وتتسبب في خفض قيمة أسهمها. ليتم بيعها بسعر منافس، وما بين التنافس المهني والتنافس العائلي يجعلنا (جيسي أرمسترونغ) نتساءل هل التكنولوجيا القادمة والتي قد وصلت بالفعل تهددنا بشدة؟ أم أن المال أصبح عبارة عن بنيان اجتماعي قوي ومتين، ويستطيع فرض النزاهة والوقار؟ أو العكس زرع الفجور والفساد والرشاوي؟ وهل يمكننا تجاوز تكنولوجيات العالم الحديث والناس يقتلون أنفسهم بالمخدرات بسرعة كبيرة لدرجة أننا بدأنا نتراجع؟
تبرز الأنانية والتسابق على إدارة الشركات من خلال أبناء لوجان، الذي يصدم الجميع بقوة وقوفه أمام المصاعب التي يذللها في صراعه من أجل البقاء، بعد فقدان الشباب والكهولة، ووصوله إلى الشيخوخة التي تحتاج لرعاية خاصة، إضافة إلى العصر التكنولوجي الإعلامي الذي بدأ يفرض العديد من التقنيات التي تحتاج لعقول الشباب، والأقرب إلى الابن كيندال الذي يضحي به، ويقرر أن يجعله كبش فداء إعلامي لتغطية الأخطاء المؤثرة على انخفاض أسهم الشركة، لنشهد على ردة فعل الابن، ليرتفع ويحلق نحو أعلى المستويات في صراعه مع والده وإخوته من أجل تحقيق أحلامه العملية، وهو يتصف بالمأساوية الفرويدية والهدوء المصقل بالإنصات لوالده قبل أن يحقق صدمة الانتفاضة على أبيه، ليقود الشركات برؤية حديثة لتكنولوجيا إعلامية ترمي بكل ماضي لوجان الأب، ويتركه ضمن مساحة رد الفعل الدرامي المدهش مع ابن عمه جريج الساذج ظاهرياً، والمخطط بصمت للوصول إلى لب العمل في شركة من تأسيس عمه الجبار ببطشه وقوته التي يفرضها في إنهاء أي التباس عائلي أو عملي، والمرتبط بعمه ارتباطاً شديداً من حيث الأخلاقيات التي يتحلى بها، والتي اكتسبها من عمه الأخ الأصغر للوجان الذي ترك نفسه في صراع بين الماضي والحاضر، وبين الشيخوخة والشباب وإثبات وجود كل منهما خصوصاً في فرض وجهات النظر التي تضمن الاستمرارية رغم الإشكالية بين كلاسيكيات الإعلام وتكنولوجياته الحديثة، مما يجعلنا نتساءل في الموسم الثاني من المسلسل: هل يمكننا أن نسبق العالم ونصحح الوضع لأننا لسنا مقيدين ثقافياً أو جسدياً بل ونعيش الحرية الافتراضية عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟ وهل نحن في وضع مثالي لتجاوز التكنولوجيا؟ وهل ستصبح المعلومات أهم من الماء في المئة عام القادمة؟ أم أن عائلة لوجان روي فشلت في جمع كل إداراتها الإخبارية، لتصبح محور الأخبار العالمية؟ وهل تستطيع القوة الإعلامية تغيير العقول فعلاً؟
يتعطش الإنسان لفرض سلطته، فتهيمن عليه قوة القيادة، والقدرة على التحديات الخلاقة ضمن رؤية السيطرة على العالم من خلال بعض الشبكات التي تشكل النوافذ القادرة على فتح الرؤية لمعرفة اتجاهات السوق الاقتصادية أو بالأحرى أسعار أسهم الشركات القوية، وقدرتها على حماية أولوياتها في البورصة العالمية، وتأثيرات هذه السوق على المجتمعات كافة من السياسة إلى الفن وغيره، بمعنى الدخول في معركة الوجود المالي، والبنيان المليارديري لأباطرة الوسائل الإعلامية المتشابكة مع العلاقات الأسرية، لأصحاب هذه الشركات التي تدير العالم، والمرتبطة شكسبيرياً بحداثة العصر والتكنولوجيا السريعة التي استطاعت تغيير وجه العالم، بتحليل نفسي لسلوكيات الأشخاص الذين ترتبط مصائرهم بإرث العائلة، وردود أفعالهم عند الشعور بانتقال سلطة الإدارة من الأب لأحد الأبناء، والخوف من البقاء بعيداً عن مدار هذه الإمبراطوريات التي أسسها الأب. فهل الصراع العائلي في مسلسل (الخلافة) هو صراع عالمي أم أن الملك لير يتجدد شكسبيرياً عندما تتعاظم الصراعات على المراكز والمال؟ أم أن القوة الإعلامية اليوم هي تكنولوجيا الجيل الجديد المرتبط لا شعورياً بشيخوخة العصر القديم، وقوته في بناء ما تتصارع من أجله الأجيال؟
شخصيات مليئة بالحيوية في دراما تتخبط بين عدة صراعات تثير المخاوف بين الإخوة، فكل شخصية تناور للحصول على الخلافة، وهي شركة والدهم حتى ابن عمهم القادر على التغلغل بينهم في المكافحة من أجل البقاء، ضمن الإمبراطورية الإعلامية الثابتة في وجه الصعوبات التي تزلزلها بين فترة وأخرى، فمسار حياة الأب المهنية الطويلة والمتنوعة أنجبت الكثير من الأعداء في الخارج أو العالم التنافسي، وفي الداخل ضمن العائلة الواحدة، لكن في الموسم الثالث بدأ الأشقاء في الاتحاد بصدق، مما جعلنا نشعر أن لكل واحد منهم دوره الفعال في المكان المناسب. فهل الخيط الدرامي في مسلسل الخلافة استطاع الالتفاف على الأشقاء، لتوضيح فعالية دور العائلة في مواجهة التحديات القائمة على فكرة الحفاظ على الإرث العملي في شركات تكونت عبر الأب، وفشل الأبناء في استمراريتها أو العكس صحيح، وضمن تطورات مبنية على منطق درامي يقودنا إلى واقع عصري يجمع ما بين الملك لير ولوجان الأب في مسارين مختلفين لزمنين مرتبطين بمستقبل واحد سيبقى للأحفاد ومن بعدهم، في فكاهة سوداء وحياة واقعية قد تجاوزت برؤيتها الأدبية والدرامية الفن كثيراً من حيث دور كل شخصية تتمتع بحس تنافسي عائلي، رغم دور الأب في زرع هذه الاتجاهات عند الأبناء الذين يتدافعون للحصول على رئاسة إمبراطورية أسسها الوالد الذي زرع في نفوس أبنائه أهمية الإرث العائلي، والحفاظ عليه، لكنه لم ينتبه لفروقات الأجيال وتطور الزمن أو تطورات العصور التي تتخذ منحى تغيري يحتاج لإعادة تحديث كل فترة من الزمن. إن ضمن ورش التدريب التي جعل منها الباب المفتوح على السلطة الجديدة، أو فريق العمل القادر على متابعة كل جديد من حيث القديم وتطعيمه بالحداثة، فقد برزت القوة الأساسية لفكرة مسلسل قائم على إدارة الشركات العائلية وأهمية التعاضد والتماسك فيها، لتكمل الفكرة مسارها من الجد للأب للأبناء والأحفاد، ففكرة الخلافة تكمن في تفاصيلها حيث يجد صانع العرض، والكاتب (جيسي أرمسترونغ) ثغرات يتعاطف معها الأب، فلا يستطيع أن يرى جيداً ثغرات أولاده أو حتى أدوارهم ضمن من هو القادر منهم على استكمال دور الأب في بقاء إمبراطورية إعلامية، من شأنها التأثير على المجتمع بكل مقوماته من السياسة إلى الثقافة والفنون، وحتى المسرح ودور السينما، وبهذا هو يحتاج إلى تنوع في أفكار أولاده، وهذا ما شهدناه في الموسم الأول والثاني والثالث وبانتظار.. فهل سنشهد تماسكهم في المواسم القادمة؟ أم أن جيمس أرمسترونغ سيعيد مسرحية الملك لير في العصر التكنولوجي السريع برؤية دراماتيكية تضعنا أمام التاريخ من خلال الكثير من المشاهد التي تعيد إلى الذاكرة مشاهد مسرحية الملك لير، لكن بواقع تراجيدي لا يخلو من سخرية سوداء في عصر تكنولوجي تخطى الحداثة إلى ما بعدها؟
شركة عائلية الأكثر قسوة في العالم الإعلامي والاجتماعي والسياسي، والآخر الفني والسياحي حتى ضمن المناورات على مناصب تتغذى من البناء المالي العصي على الإفلاس، لكن لم يهتم أفراد العائلة بشكل خاص بمشاعر بعضهم البعض أو برفاهية موظفي الشركة الذين يضعون ثقتهم برئيسها، وبدلاً من ذلك، يركزون اهتمامهم على المال وقوة السلطة، ووضع اليد على القرارات المرتبطة بارتفاع الأسهم وتوزيعها أو حتى الحصول على مزيد من أسهم الشركة بشكل خاص، وحياتهم المهنية، وتجنب التغطية الإعلامية السيئة، وتجاهل المسؤولية عندما يحدث خطأ ما، كما حصل مع جريج ابن عمهم عندما أتلف الوثائق التي تدينهم بالحادثة البحرية، وكما حصل مع الابن الأكبر الذي أراد الأب التضحية به، وإدخاله السجن كي يتخلص من كم الأخطاء الذي وقعت به العائلة، وتسبب لها بخفض قيمة أسهم الشركة في السوق العالمية. فهل دخل المشاهد إلى عالم الترف ورجال أباطرة المال ليشهد على المأساة العائلية الناتجة عن الصراعات على قوة النفوذ؟ أم أن تدمير الحياة والمهن وسط بيئة قاسية يولد الإحساس بالمهزلة الحياتية والواقع البشري؟ وهل مسلسل الخلافة جمع بين العناصر الدرامية بتراجيديا مأساوية بشكل كبير جعلتنا نتعاطف مع كيندال ووحشية قرارات رب العائلة للإبقاء على الشركة العائلية الكبيرة؟