لم تكن السينما يوماً فناً ترفيهياً صرفاً خلواً من الرسائل العميقة وفسحات الخيال والتأمل الحر في قضايا قد تختلف في موضوعاتها وألوانها بيد أنها تتفق في جوهرها الإنساني، وحتى تلك الأفلام التي وضعت لدغدغة مشاعر الجمهور العريض عبر الخيال المفرط والإبهار في الحركة والصور والحركة والألوان ظلت تحمل في طياتها الكثير من التساؤلات الكبرى التي تؤرق الإنسان حول كنه وجوده وآفاق نزوعاته المادية المفرطة في الحاضر والمستقبل.
وكما صنعت السينما اليوتوبيات الخيالية التي تريح المشاهد من عناء الواقع، أغرقته أحياناً في أجواء قاتمة وديستوبيات محزنة تعبر عن وشوك نهاية الإنسان والإنسانية بسيناروهات مستقبلية للدمار والخراب واستحالة التدارك.
ولعل فيلم (فينش) من إنتاجات سنة 2021 لمخرجه البريطاني (ميغيل سابوتشنيك) صاحب السلسلة الشهيرة (صراع العروش)، ومن تمثيل الممثل الأمريكي المتميز (طوم هانكس) يجسد أنموذجاً بارزاً لهذا النوع الثاني بقصة مأساوية تدور أحداثها حول كارثة بيئية تصيب الإنسان بسبب اتساع ثقب الأوزون ووصول الأشعة ما فوق البنفسجية إلى الأرض ما يجعلها غير صالحة للعيش جراء ارتفاع درجات الحرارة وهلاك النباتات، وانحسار الجماعات البشرية في شرذمة قليلة استطاعت أن تصمد في وجه هذه الظروف العصيبة بما فيها المجاعة، وذلك بسبب قدرتها على المنافسة وإقصاء الفئات الضعيفة وسلبها القوت بالقوة. وفي هذا الجو المفعم بالأزمة تزيد الأوضاع سوءاً نتيجة كثرة العواصف الرملية التي تضرب الأرض، ويكون هناك رجل كهل يتقن صنع الروبوتات ويتكيف مع الأوضاع ما أمكن بفضل ذكائه، وقدرته على التعامل مع التقنيات الحديثة في صنع ما يحتاجه من آلات مساعدة، لكنه عندما يحس بقرب أجله بسبب مرض عضال يلم به يبادر إلى صنع إنسان آلي يسميه (جيف) ويسعى إلى تعليمه كيفية العناية بكلبه، وفي خضم ذلك يهربان من عاصفة مدمرة في رحلة إلى (سان فرانسيسكو) حيث يسارع (فينش) الزمن لتعليم الإنسان الآلي المشاعر والمفاهيم الإنسانية المعقدة مثل (الثقة) والحب واللعب والتواصل. وعندما يقتربان من سان فرانسيسكو ويجدان مكاناً سليماً لم يتأثر بكارثة ثقب الأوزون يداهم الموت (فينتش)، ويقيم له (جيف) طقساً جنائزياً لائقاً، ويكمل هو والكلب طريقهما، ويصلان إلى جسر سان فرانسيسكو حيث يقفان ليختبرا التجربة الحقيقية لجمال المنظر من على الجسر، ويعلقان هناك صورة تذكارية للجسر مع رسمين لهما.
ورغم أن هذا الشريط يحمل نظرة مأساوية وشديدة السواد لمستقبل الجنس البشري، فإنه يتضمن إشارات عميقة جداً لإشكالات فلسفية كبرى بدأت تطفو على السطح وتُثَار على أكثر من صعيد بعد الثورة المعلوماتية الهائلة التي عرفها العالم، والتي وإن استطاع العلم أن يمسك ببعض خيوطها الآن فقد ظلت وستظل معظمها مبهمة متجددة بتجدد الاكتشافات العلمية والاختراعات المصاحبة لها في علاقة الإنسان بالآلة والتقنية وأثر ذلك على العلاقات الإنسانية المباشرة وغير المباشرة.
اللغة والوجود.. الإنسان الآلة والقيم الإنسانية
في إحدى اللقطات المتميزة للفيلم، يطلب (فينتش) من الإنسان الآلي اختيار اسم له، وعندما يستقر الاثنان على اسم (جيف) بعد تعديلات عديدة أقصت الأسماء التي تطلق على الحيوانات أو الكلاسيكية منها كشكسبير، يصافح (فينتش) الإنسان الآلة ويرحب به بفرح قائلاً: مرحباً بك في العالم، مشيراً إلى أن وجود الإنسان يرتبط ارتباطاً جدلياً باللغة ودون طابعها التعريفي والتصنيفي لا يمكن الولوج إلى هذا العالم الجديد كلياً.
وفي مشهد من الشريط يقص (فينتش) على (جيف) قصة عن مفهوم الثقة بعد أن استعصى على الآلي استيعابها، وفي هذه القصة نوع من التضارب بين التشبث بالحقيقة وبين قيمة الثقة والتضحية في سبيل الجماعة، حيث يرجع (فينتش) عندما كان موظفاً في مؤسسة بحثية ضمن فريق الفضل للوصول إلى حل لإحدى المشاكل المستعصية إلى روح الفريق رغم أنه قام بالعمل لوحده. لكن الآلي لم يستطع إدراك المغزى من الحكاية بسبب بعدها عن المنطق البراغماتي الذي يحدد طبيعة نظرته إلى القيم الإنسانية في علاقتها بالمصلحة الذاتية.
الآلة والجوهر الإنساني
يثير الشريط في أحداثه ومآل الشخصيات ضمنياً إشكالية الجوهر الإنساني، وماذا يمكن أن يكون الثابت فيه، هل هو الذاكرة، أم السلوك أم شيء غير ذلك، حيث يقدم المخرج إجابة مقترحة بعد موت (فيتش) وقيام (جيف) بالطقوس الجنائزية الخاصة، وتوديعه بعد إحراق الجثة، وارتداء المعطف كدلالة على نمو المنسوب الإنساني/الثقافي في (جيف) من خلال التعلم والتجربة، حيث لم تعد تفصله عن البعد الإنساني إلا بعد المظاهر الخارجية التي حاول تجاوزها بارتداء المعطف وتعليق البطاقة التي تحمل رسمه والكلب على جدار جسر سان فرانسيسكو كدلالة على استيعاب الأبعاد الرمزية للتواصل عبر الصورة والكتابة والرسم في الحياة الإنسانية بين القلة القليلة المتبقية والتي يمكن أن تمر من الجسر بعد الكارثة البيئية التي حلّت بالأرض، وهو استيعاب يتجاوز اللحظة الآنية إلى التفكير المستقبلي الممزوج بالرغبة في ترك الأثر والاستدامة عبر الذاكرة.
التعلم والإنساني في الآلة
يمثل الفيلم لحظات تحول مهمة في مسار الشخصية الآلية (جيف) لكن أبرزها تلك الفترات التي يكف فيها عن أن يكون مستقبلاً للمعرفة عبر البرمجة إلى اختبارها بشكل مباشر عبر التجربة، حيث يستغل فرصة خروج (فينتش) والكلب من السيارة لتفقد إحدى البنايات لكي يحاول قيادة السيارة بطريقة عشوائية ما يضطر (فينتش) إلى تمكينه من التعلم الممنهج عبر التوجيه، ليستطيع إتقانها بعد محاولات عديدة، وهنا يصبح التعلم عنصراً فارقاً في النقلة الكبرى التي تحول الآلة المبرمجة إلى كائن يتسم بصفات بشرية كالدهشة والفضول المعرفي والرغبة في التعلم، واتخاذ القرارات التي تعبر عن الاستقلالية والتميز وعن الشخصية الخاصة المرحة للآلة (جيف)، وكأنها تنتقل عبر مراحل النمو المختلفة التي يعرفها الإنسان، لهذا تجد البطل (فينتش) يصرخ في (جيف) بعدما كاد أن يتسبب في تخريب المركبة التي يستقلونها ويطلب منه أن (ينضج ويكبر) ويبتعد عن التصرفات الصبيانية التي يمكن أن تؤدي إلى هلاكه والكلب.
لقد استطاع الفيلم أن يجمِّع بنجاح عناصر الأحجية المشكلة لمستقبل العلاقة بين الإنساني والآلي في أحداث درامية لم تخل من مسحات فكاهية خفيفة الروح مرَّر عبرها رسائل مهمة وأساسية، حيث الإنساني ليس دائماً هو ما نفهمه من هذه الأبعاد الفيزيولوجية الصرف والتقنيات المعقدة (تعمَّد المخرج أن يخفف من التشابه الفيزيولوجي بين الإنسان والآلة خصوصاً في الوجه حيث لا يملك (جيف) ملامح تعبر عن الحالة النفسية والمشاعر التي يحس بها) بقدر ما هي ما نتعلمه وما نختبره من تجارب إنسانية وما نمتلكه من قيم إنسانية عميقة تجعلنا نشعر بالآخر ونسعى إلى التواصل المثمر معه، فعبر هذه الرحلة التي يقوم بها رجل وآلة وكلب في ظل ظروف قاسية وغير مشجعة يظهر المخرج بطريقة فنية ما تحتاجه البشرية لكي تستمر في الوجود وسط هيمنة المادي والإفراط في الثقة في العلم والاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية، من عناصر ضرورية تشكل أبرز معالم الإنسان كالحفاظ على دهشة المعرفة والتعلم المستمر وقيم المحبة والإيثار والتواصل الفعال والذاكرة الإنسانية الخالدة التي تحافظ على بقاء من نحب ونكن لهم تقديراً في الذهن والقلب بعد أن يغادروا العالم بأجسادهم الهشة.