يتأسس تشييد المدينة الحديثة على إواليات لا تعير اعتباراً للموقع والبيئة والثقافة، وهي إواليات منبجسة من العقل الإنساني الكوني، وتستند في ذلك إلى حقول علمية كالرياضيات والهندسة والعلوم التطبيقية كالبيولوجيا والكيمياء كما انتبهت مؤخراً إلى أهمية حقول معرفية أخرى كعلم الاجتماع والإنثروبولوجيا، ومن ثمة لا يمكننا إذا أردنا أن نلتحق بركب المدن الحديثة أن (نتجاوز هذه الأحكام والقواعد التي تصبح مبادئ قانونية ترتفع فوق المصالح الجزئية والفردية، ولا تقبل انحرافاً أو تغاضياً أو خطأً، فلا يشيّد بناء إلا بإذن مسبق، وكل بناء يخضع لتخطيط المدينة العام).
ومن ثم، فإن سيرورة التحديث تأذن بنهاية الثقافة، خصوصاً عندما أصبحت التنمية حتمية تقتضي أفول الثقافة، حيث أصبحنا نتداول نسبة الدخل اليومي لكل فرد مكان الهوية الثقافية، فتحولت الثقافة إلى مؤشر يدل على التأخر والتخلف:
(إن عدوى التحديث تنتقل من أمة إلى أخرى، كما في روسيا زمن بطرس الأكبر، حين سعى ذلك الحاكم إلى إلغاء جميع مظاهر الاختلاف بالقوة. وهذا ما حدث مع الدولة العثمانية، إذ شرع السلاطين المصلحون منذ القرن الثامن عشر في تحديث تركيا وصولاً إلى مصطفى كمال أتاتورك، ليواصل بالحماسة نفسها عملية التغريب السريعة والمتسرعة. وكان برنامج الاقتلاع الثقافي جذرياً، وقد طبق على كل شيء، على الحروف والكتابة، على الموسيقى واللحن، على اللباس والأزياء. وكانت المعادلة هي: ينبغي التحديث من أجل البقاء على قيد الحياة. لكن ينبغي تدمير الذات من أجل التحديث، وهذا ما يؤدي إلى خصام حقيقي، وهو ما نشهده في بلدان العالم الثالث، وخصوصاً في البلدان التي ناضلت ضد السلطة الاستعمارية من أجل الدفاع عن حقها في الوجود، والتي استخدمت البنى العسكرية، التي كانت أسست للنضال من أجل الحفاظ على هويتها، في القضاء على هذه الهوية نفسها باسم المعركة من أجل التنمية).
يحصر الدكتور خالد زيادة سيرورة التحديث التي عرفتها المدينة العربية في ثلاث مراحل رئيسة:
- المرحلة الأولى: عرفت بفترة التنظيمات، حيث اتجهت القوى التقليدية في النصف الأول من القرن التاسع عشر صوب مشاريع التحديث، التي كانت تتغيا تقوية ودعم سلطة الحاكم عن طريق تحديث المؤسسات القمعية والإيديولوجية كالإدارة والمدرسة والجيش وفق النمط الأوروبي، وهو أمر لم يقتصر على هذه المؤسسات فقط بل شمل حتى العادات والأذواق والآداب، وقد كانت المدن مسرحاً لهذه العمليات، «إذ شهدت شق الطرق والتوسع العمراني خارج أسوار المدن، ونشوء أحياء وفق طرز العمران الأوروبي، وكذلك تشييد صروح مثل الثكنات العسكرية والسرايا والمدارس والمقاهي والمصارف. وفي منتصف القرن التاسع عشر، اتخذت مدن عديدة ملامح عصرية، وأدى التحديث إلى زيادة أعداد السكان، وخصوصاً في المدن صاحبة المرافئ، مثل بيروت والإسكندرية والزيادة تلك تعزى إلى أسباب عديدة، منها أن النشاط التجاري بات يجتذب جاليات أوروبية، وكذلك أبناء المدن الداخلية التي لم يطلها التحديث، وكانت الحروب والصراعات سبباً آخر للنزوح إلى المدن وتزايد سكانها، مثل الحروب التي خاضتها الدولة العثمانية أو خيضت ضدها، كحرب اليونان أو حرب القرم. وهناك الصراعات الطائفية، كالتي شهدها جبل لبنان، وما أدت إليه من هجرات خارجية إلى المدن. ومع ذلك تغيرت أوضاع المسيحيين عامة في مدن مثل بيروت ودمشق وحلب بفضل انخراط عائلات مسيحية في أعمال التجارة واكتساب بعض الأفراد والطوائف حماية القناصل الأوروبيين، والتنظيمات التي منحت المسيحيين حقوقاً في العمل والتعليم أشعرت المسلمين بالغبن، وخصوصاً الفئات المتضررة من منافسة البضائع الأجنبية، وأدى ذلك إلى التوترات الطائفية، لكن الطابع التعددي للمدن العربية لم يتبدل، بل تضاعف مع هجرات الأرمن والشركس وذوي الأصول اليونانية وغيرهم إليها».
- المرحلة الثانية: تشمل عمليات التحديث التي قام بها الاستعمار في الثلاثينات من القرن التاسع عشر في الجزائر وجنوب اليمن، وثمانيناته في مصر وتونس، وفي العقد الثاني من القرن العشرين في ليبيا والمغرب وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى في بلدان المشرق العربي:
«كانت آثار الاستعمار الأوروبي متفاوتة تبعاً لفترات احتلال البلدان وتبعاً لأغراضه بين استعمار الجزائر وإلحاقها بفرنسا، أو الاقتصار على المرفأ كما في عدن، وبين المؤثرات اللغوية والثقافية في المغرب العربي، والتأثير في النظام السياسي في بلدان المشرق، كانت أهداف الاستعمار واحدة، تشمل مصالحه الاقتصادية وكذلك كان فرض قوانين الدولة المستعمرة ومعاييرها واحداً فيما يتعلق بالأنظمة البلدية والمدنية، وكان الفرنسيون أكثر إمعاناً في فرض ثقافتهم، إذ أقاموا أول جمهوريتين في المنطقة العربية، في لبنان وفي سورية، بينما كان الإنكليز أكثر ميلاً إلى التعامل مع الوقائع القائمة».
- المرحلة الثالثة: هي مرحلة الاستقلال، حيث شيدت الأحزاب الوطنية برامجها صوب تكريس العداء للاستعمار، كما في تأطيرها لتظاهرات سكان المدن التي كانت تخرج من المدينة القديمة ومن المساجد، لتتجه صوب المدينة الحديثة، حيث تتواجد مباني الحكومة والشرطة. في هذه الفترة انبجست الأنظمة العربية الحاكمة التي تستمد أصولها من العسكر أو القبيلة، حيث «كانت خطط التنمية جزءاً من أحكام السيطرة، بما في ذلك الإصلاح الزراعي والتأميم وجعل الموارد الرئيسية كالنفط في العراق وقناة السويس في مصر والفوسفات في الجزائر، مصالح تخص الدولة، كانت فكرة التخطيط، وبخاصة التخطيط المدني، واحدة من مهمات برامج الحكومة القائمة، ونابعة من متطلبات ثلاثة: الفكر التنموي، وهو تفكير تفاؤلي وإرادي يرى إمكان سيطرة الدولة على اتجاهات النمو الاقتصادي والسكاني، مجابهة ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدينة، توسع المدن توسعاً غير نظامي، ثم السيطرة الأمنية ومراقبة المدى المدني وكل المدى الوطني».
ويوضح سابا شبر أن وضع إستراتيجيات تخطيط المدن، جاء نتيجة الضرورة التي فرضتها المشكلات المعقدة التي عرفها المجتمع الصناعي، من ثمة فإن المدن العربية التي لم تصل بعد إلى مرتبة التطور الذي شهدته المدن الصناعية العالمية الكبرى، مطالبة بأن تتخذ هذه الأخيرة كنموذج للتطور العمراني المترتب عن التخطيط. هناك حسب سابا شبر مجموعة من الخصوصيات تجعل المدن العربية تنهل من شخصية مشتركة ترجع إلى انتسابها لدين الإسلام، «وعندما طرح العرب هذه العوامل جانباً، وبخاصة العوامل التشكيلية، كالمناخ واختيار مواد البناء والقيم الروحية والإنسانية، لم تصبح المدن العربية عديمة الشخصية فحسب، بل صارت قبيحة المنظر أيضاً... وتحت وطأة التكنولوجيا والمواصلات وقوى التوسع، وقع العرب فريسة للترهات والأخطاء والخرافات التي تقترن بالفهم والتطبيق السطحي للنظريات التي يستند إليها ما يسمى بالمعمار وتخطيط المدن».
هناك عدة عوامل خارجة عن عمليات التخطيط السليم، أدت إلى الفورات العمرانية ونمو المدن العربية في مطلع ستينات القرن العشرين، يجملها سابا شبر في: «عوامل سياسية كاستقلال ونمو العواصم، واكتشاف البترول، وتدفق العائدات النفطية إلى البلدان المجاورة، والنزوح الفلسطيني وانتقال حركة النقل التجاري إلى البلدان المجاورة لفلسطين، ونمو حضري ناجم عن متطلبات سياسية أكثر من قيامه على أساس من النماذج الإقليمية، وسوء تنظيم الريف والسياسات الزراعية ما أدى إلى نزوح كثيف إلى المدن... إضافة إلى العوامل السياسية التي عوّقت عملية تخطيط المدن، ثمة أسباب أخرى، مثل الاتجار بالأراضي والتعلق الفردي بالملكية، إضافة إلى أن البلدان العربية كلها تعاني من نقص في المهندسين ومخططي المدن المدربين، وعدم وجود جامعة واحدة تمنح درجات علمية في تخطيط المدن، هذا إضافة إلى عدم اعتراف المجالس البلدية برأي الفروع الفنية، وباستعراض أوضاع مدن عربية عشر، نجد أن بيروت تفتقد إلى التخطيط، ودمشق تفتقر إلى التخطيط المتوازن، والكويت تفرط في التخطيط».
ترى جانيت أبو لغد أن علماء الاجتماع الذين اهتموا بمشكلة إدماج المهاجرين الريفيين في الحياة المدنية سقطوا في فخ وضعوه لأنفسهم، إذ نجدهم يشددون على أن هناك انفصالاً تاماً بين النظام الريفي والنظام الاجتماعي الثقافي الحضري، لكنهم سرعان ما يتخلون عن هذا التمييز حين يشددون في الآن ذاته على اتحاد النظامين السابقين:
تميز أبو لغد بين نوعين من المهاجرين الريفيين إلى المدينة: الأول أولئك الذين يهاجرون للدراسة أو لإيجاد فرص عمل، والثاني أولئك المعدمين الذين يتركون الريف لأسباب اقتصادية مثل ندرة الأرض وقلة الفرص. وتميز كذلك بين أولئك النازحين من شمال القاهرة ويندمجون تدريجياً في حياة المدينة، والذين يأتون من الجنوب الأقل نمواً، والذين هم أفراد في غالبيتهم، ويضطرون إلى العمل في المناطق الحديثة من المدينة. ومن لمحاتها الحديثة أيضاً قولها «من الغباء القول من الناحية الاجتماعية إن التكيف يحدث من جانب واحد، وإن الثقافة الحضرية الثابتة الأركان هي التي تفرض نفسها على المهاجرين، في حين أن هؤلاء الناس يجلبون معهم احتياجات وعادات ريفية أصلاً». وتضيف: «يجب أن تسترعي هذه النسبة الكبيرة من المهاجرين انتباهها إلى احتمال تأثيرهم على ثقافة المدن في نفس الوقت الذي يقومون فيه بالتكيف مع الحياة فيها».
تستند أبو لغد في دراستها أوضاع المهاجرين في مدينة القاهرة إلى دراسة لويس ويرث أحد أبرز أقطاب مدرسة شيكاغو، غير أن وضع مدينة شيكاغو يختلف عن وضع مدينة القاهرة:
تقوم فرضية ويرث على أن سكان المدن تقوم فيما بينهم علاقات ثانوية تتصف بـ(اللاذاتية) وغير الشخصية، ما يجعلهم يتقبلون الحياة الاجتماعية في المدينة. وترى الباحثة أن هذا الأمر لا ينطبق على مدينة القاهرة (موضوع دراستها) لأن ثقافة القاهرة في أكثر أحيائها حضرية لا تتميز بالعلاقات اللاذاتية، وأن المهاجرين إليها لا يقبلون على ثقافة المدينة بطريقة محايدة أو سلبية، بل يدخلون عليها أشكالاً من تنظيمهم الاجتماعي ليتفادوا العزلة الاجتماعية.
أدت سيرورة التحديث إلى تغيّر المدينة العربية، إلى حد جعل أبناءها يجدون صعوبة في التعرف عليها، حيث اختفت أهم معالمها وأفلت عاداتها وتغيرت وتيرة إيقاع معيشتها وتضاعفت أعداد سكانها، فباتت تعيش «ما يشبه الثأر والانتقام، فأولئك الذين صاروا أغلبية سكان المدينة، رغم تفرق أصولهم وتنافرها، يوحدهم الفقر أو فقر الحال والثقافة، والشعور بأنهم غرباء في مدينة كانت لا تقبلهم، فتمردوا عليها وعلى حداثتها التي جذبتهم وسحرتهم في البداية، فيما هي تعجز عن استيعاب موجات الهجرة المتتالية. هؤلاء السكان، ولكن الغرباء، يعبثون بالمدينة وينتقمون من حداثتها التي هي عنوان عصريتها وغناها. والسبب في ذلك هشاشة الحداثة، وانعدام التخطيط العمراني، وفقر الوافدين إلى المدينة وغربتهم عنها. وثمة استهتار بهذه الحداثة وقوانينها وأنظمتها التي لم يجنِ منها الفقراء سوى البؤس والقلة، ويرى آخرون أنها السبب في ضياع التراث والهوية والعقيدة».