مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

التسارع الزمني والزمان الشعوري

كثيراً ما قيل في توصيف عصرنا الراهن بأنه عصر السرعة، لكن مع زيادة السرعة التي تتم بها كل الأمور، ومع زيادة كم الاختراعات التي قربت الأماكن وقصرت المسافات وألغت الفوارق؛ بدأت تتسارع التغيرات التي غيرت وجه العالم والعلاقات بين البشر، وكم كان الفيلسوف الفرنسي الشهير هنري برجسون (1859 - 1941م) محقاً، حينما قال في كتابه (التطور الخالق)، معبراً عن المعنى الأصيل للوجود والحياة: (ليس هناك نسيج أكثر مقاومة أو جوهرية من الزمن، وذلك لأن ديمومتنا ليست لحظة تحل مكان لحظة أخرى، وإلا ما كان هناك سوى الحاضر، ولما كان هناك امتداد للماضي في الحاضر، ولا تطور ولا ديمومة محددة بالذات، فالديمومة هي التقدم المستمر للماضي الذي ينخر في المستقبل ويتضخم كلما تقدم) (الترجمة العربية للدكتور محمد قاسم). لقد أصاب برجسون كبد الحقيقة؛ حينما ربط بين حياتنا والزمن الذى نعيشه، فهو منا ونحن تجلياته وصناعه في ذات الوقت. فالإنسان وزمنه صنوان لا يفترقان، لأنهما متداخلان في طبيعتهما وجريانهما، وهما يتقدمان بصورة تتضخم فيها إنجازات الإنسان، حيث لا تقف عند حد في كثرتها وتنوعها، وهكذا الزمن الذي لا يتوقف عند حد في جريانه وتتابع لحظاته!
لكن السؤال الذي كثيراً ما أزعج الإنسان ويقلق مضاجعه هو: إلى أين يقودنا هذا التطور في المسارين معاً: مسار الزمن ومسار التقدم الإنساني فيه؟!
ولعلنا في ضوء ذات السؤال؛ نفهم لماذا حذرنا الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هيدجر (1889-1976م) من أخطار التقدم التكنولوجي على حالة الكينونة الإنسانية، وطلبه منا أن نتشكك في كم ترحيبنا بثمار هذا التقدم التكنولوجي! إننا بالفعل نحتاج وقفة نتأمل فيها بما تفعله بنا وسائل التكنولوجيا المعاصرة، وعلى سبيل المثال منها الهواتف المحمولة، وما فيها من وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج الثرثرة من الفيسبوك والماسنجر إلى الواتساب والتويتر.. وما يشبهها من برامج جعلت حياتنا سريعة الإيقاع، انكفأ فيها كل منا على ذاته ودائرته الضيقة مما يسميهم الأصدقاء، متناسياً أنهم أشخاص إلكترونيون وليسوا حقيقيين، فمعظم هؤلاء الأشخاص قد دخلوا إلى هذه المواقع واستخدموا تلك البرامج بأسماء مستعارة وانتحلوا وظائف وسجلوا بيانات هي في أغلبها مزيفة وغير حقيقية!
إن حاجة الإنسان الطبيعي إلى الصداقة، وإقامة العلاقات الطيبة مع الآخرين من أقرانه البشر؛ جعلته يرحب بهذه الأدوات التي مكنته من تكوين مثل هذه الصداقات السريعة التي اخترق بها حاجز الزمان والمكان، متناسياً، بل غير عابئ بأنها كما قلنا مع أشخاص إلكترونيين وليسوا حقيقيين! لقد صدق هيدجر مرة أخرى حينما قال عن عصرنا هذا عصر العدمية!
وكان يقصد بالعدمية هنا عدم وجود حكم مركزي ومشترك يمكنه أن يشير إلى ما هو مهم وإلى ما يهمنا حقاً في الشؤون البشرية، كما كان يفعل المعبد في المجتمع اليوناني القديم أو الكنيسة في الدول المسيحية، حيث أننا نفتقر في حضارتنا الحديثة إلى عنصر ثقافي يجمع الأشياء ذات الأهمية المحورية معاً، بحيث لا نبدو وكأننا (وضعنا في هذا العالم هكذا) بدون هدف أو غاية، لقد صرنا كأي موارد مادية يمكن استغلالها، هكذا غرق الإنسان في بحر التكنولوجيا، وكأنه واحد من مادتها الخام التي يمكن الاستفادة منها وتحسينها لتحقيق أغراض أخرى ومخرجات جديدة! لقد صار الدعم التكنولوجي وحضور الأدوات التكنولوجية حاضراً بقوة في كل حياتنا، لدرجة أننا نحتاج في ذلك لنوع من الرشادة والإرشاد، بل الحماية في بعض الأحيان!
إن المغزى الكبير الذي يكشف عنه هيدجر هنا هو أن على الإنسان أن يعيد اكتشاف ماهيته، ويدرك ذاته المتفردة، وأن يبتعد بها عن الانسياق والانصهار في التكنولوجيا التي من المفروض أنه مبدعها وقادر على التمييز بين الاستخدام الخير والضار لها! لقد كتب أحد الفيسبوكيين المعاصرين متسائلاً: لماذا القلق من سرعة تبادل الاتصالات التكنولوجية وما توفره من خدمات؟! وأجاب عن سؤاله قائلاً: إن القلق آت من أنها ممكن أن تؤدي إلى محو الشخصية الفردية، واضطرارنا إلى مواءمة أنفسنا مع أنظمة آلية لا شخصية!
لقد حلت الاتصالات الإلكترونية لما فيها من سرعة وسهولة محل اللقاءات العائلية والشخصية، فقلّ إلى حد كبير دفء اللقاءات والعلاقات الاجتماعية والأسرية المباشرة. كما أن السرعة والإتاحة التي شجعت عليها وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية في عالم الصداقة جعلت الجانب العفوي من الصداقة زائداً عن الحد، وهذا أمر مثير للشفقة، لأن ذلك ألغى -أو كاد- تكوين الذكريات الاجتماعية، وعنصر الفرادة والتميز في علاقتنا بالآخرين!
وعلى كل حال فلقد ضربنا فيما سبق مجرد مثال على خطر تسارع التقدم التكنولوجي على الإنسان وعلاقاته مع الآخرين من بني جلدته. وربما يكون السؤال الأهم هو: ما أثر هذا على مستقبل الإنسانية ككل؟!
لقد أجاب الفيلسوف الأمريكي الشهير المعاصر فرانسيس فوكوياما عن هذا التساؤل في آخر كتابه (نهاية الإنسان.. عواقب الثورة البيوتكنولوجية)؛ فقال: (ربما كنا على مشارف مستقبل سلالة بعد بشرية، تمنحنا فيه التكنولوجيا القدرة على أن نحور بالتدريج هذا الجوهر مع الزمن. الكثيرون يتقبلون هذه الفكرة في سرور تحت شعار حرية البشر، يريدون أن يعظموا من حرية الآباء في اختيار من ينجبون، من حرية العلماء في موالاة البحث، من حرية المقاول في استخدام التكنولوجيا لجمع الثروة... الكثيرون يفترضون أن عالم ما بعد البشر سيشبه كثيراً عالمنا هذا -به الحرية والمساواة والرخاء والرعاية والشفقة- إنما برعاية طبية أفضل وأعمار أطول وربما بذكاء يفوق الذكاء الحالي. وقد يكون عالم ما بعد البشر أكثر هيراركية وتنافسية من عالمنا هذا، ربما كان عالماً من الطغيان الناعم الذي تخيله عالم جديد شجاع يتمتع فيه الجميع بالصحة والسعادة، وينسى فيه الكل معنى الأمل والخوف والكفاح). واختتم بقوله: (ليس علينا أن نقبل أياً من هذه المستقبلات تحت شعار كاذب لحرية، حرية حقوق تكاثر لا تحد، أو حرية بحث علمي بلا حدود، ليس علينا أن نعتبر أنفسنا عبيداً لتقدم علمي محتوم؛ إذا كان هذا التقدم لا يخدم غايات الإنسان. إن الحرية الحقة هي حرية المجتمعات السياسية في أن تحمى القيم التي تعتنقها، هذه هي الحرية التي يلزم أن نعتصم بها في الثورة البيوتكنولوجية المعاصرة) (الترجمة العربية للدكتور أحمد مستجير).
وهاهنا وفي هذا الكلام الأخير لفوكوياما نجد مربط الفرس، فمهما كان التسارع في التقدم التكنولوجي مفيداً، وأياً ما كانت التسهيلات والخدمات التي يمكنه أن يؤديها للإنسان؛ فلا ينبغي أن يُسمح بأن يكون بديلاً للإنسان، فما يسمى اصطلاحاً بعالم (ما بعد الإنسان) ينبغي أن يظل إنسانياً، بمعنى أننا لا ينبغي أن نفقد يوماً، مع كل ما نحققه من صور تسارع التقدم التكنولوجي؛ المشاعر والعواطف الإنسانية الطبيعية النبيلة التي ميزت الحضارة الإنسانية في كل عصورها، رغم كل الصراعات والهزائم والانتصارات التي عايشها البشر. إن تلك المشاعر والعواطف النابعة من قلب الإنسان وجوانيته هي بحق جوهر الوجود الإنساني الذي لا يمكن أن تمحوه كل صور التقدم التكنولوجي الذي حققه أو الذي سيحققه في المستقبل. إن الزمان الشعوري بلغة برجسون هو حقيقة الزمان الإنساني، وليس الزمان الكوني، زمان الدقائق والساعات والأيام، وسيظل هذا الزمان الشعوري محساً داخل الإنسان، يعيش به مستمتعاً بلحظاته أو كارهاً لها، رغم أنه يعي جيداً أن ثمة حقيقة أخرى للزمان خارجه، وهو أيضاً من يقيسها ويعدها، وهذا الزمان بلغة أرسطو هو الجانب المعدود من حركة الكواكب والأفلاك الكونية! إن الفرق بين الزمان الشعوري بلغة برجسون والزمان الكوني بلغة أرسطو والعلماء هو الفيصل بين إنسانية الإنسان وبين آليته، هو الفيصل بين أن يعيش الإنسان ويستمتع بكينونته الذاتية ومشاعره وعواطفه الأخلاقية والدينية، وبينه حينما يستسلم للآلية والحركة المادية الميكانيكية، ويصبح وكأنه كائن تكنولوجي مصنوع لا من لحم ودم بل من حديد ونحاس.

ذو صلة